سياحة الفضاء.. ترف الحالمين وحلم المترفين الذي أصبح حقيقة

يمان الشريف

لعل كوكب الأرض لم يعد مكانا محبذا لدى البعض، بعد أن أصبح الضجيج والصخب حاضرين بكثافة أينما حلّت قدم الإنسان اليوم، فالنمط الحياتي الذي أعقب الثورة الصناعية على مدار ثلاثة قرون قضى على كثير من مظاهر السكينة والهدوء، لا سيما في المدن التي غلب عليها طابع التحضر غير المضبط.

ومع انخراط الإنسان في العمل خارج قواعد الأرض -أو في الفضاء الخارجي بتعبير آخر- أصبح للبشرية منفذ في إمكانية تسخير فكرة الصعود إلى الفضاء في سبيل نيل قسط من الراحة النقية، هذا إذا ما تحدثنا بلغة المترفين الباحثين عن عزلة تامة.

 

كما أن الصعود إلى الفضاء لن يقتصر على البحث عن الهدوء فحسب، بل إن التجربة بحد ذاتها ستكون مغرية إلى أبعد حد، أن يعيش المرء في بيئة تنعدم بها الجاذبية فيشعر بكل ثقل جسمه يطفو في الهواء، وكأنه تحول فجأة إلى كتلة معدمة، سيبدو ذلك شعورا غريبا للغاية.

لا يمكن غض الطرف عن ما قد يصادفه الإنسان وهو في الأعلى، حيث سيرنو إلى الكوكب الأزرق وهو بحلة مهيبة تغطيه دوامات من الغيوم البيضاء الهائلة، ثم ينقشع جسم الأرض عند الانحناء، وتبرز حلكة الكون بمشهد قلما تراه عين إنسان، فهذه النجوم المتلألأة في سماء الأرض تفقد بريق لألأتها لانعدام الغلاف الجوي الذي يكسر الضوء قبل أن تبصره العين، فتغدو النجوم كمصابيح جامدة معلقة في سقف الكون.

“دينيس تيتو”.. أول سائح في الفضاء بتذكرة ٢٠ مليون دولار

لقد شهد العالم في الثاني عشر من أبريل/نيسان من عام 1961 صعود رائد الفضاء الروسي “يوري غاغارين” بمركبته الفضائية “فوستوك1” ليكون أول إنسان يفلت من جاذبية الأرض ويصل إلى الفضاء الخارجي، وقد كان يبلغ من العمر حينها ٢٦ عاما. ثم تبعه مئات رواد الفضاء الذين خلدوا أسماءهم ضمن قائمة القلة النادرة التي استطاعت كسر حاجز الغلاف الجوي للأرض.1

لم يكن أمر الالتحاق بذلك الركب بالأمر الهين، فالحصول على تذكرة إلى الفضاء يتضمن الكثير من العمل الشاق والتأهيل الطويل، ذلك بسبب العقبات التي تواجه رواد الفضاء في بيئة ظروفها قاسية، لكن ذلك لم يمنع أحدهم من محاولة تقديم نفسه كشخص متيم بالفلك يبحث عن رحلة فضائية لغرض السياحة، ولا شيء آخر سوى السياحة والاستجمام.

الملياردير “دينيس تيتو” أول سائح فضاء في التاريخ

 

فقد بدا المهندس الملياردير “دينيس تيتو” جادا للغاية حينما عرض نفسه سائحا لوكالة الفضاء الأمريكية “ناسا”، وعلى الرغم من ثروته الطائلة قوبل بالرفض، ويعود سبب ذلك إلى أن “تيتو” لم يكن مؤهلا لمثل هذه التجربة كما أن عامل العمر يلعب دورا كبيرا، إذ إنه كان حينها قد تجاوز الستين من عمره.2

لكن ذلك لم يمنعه من أن يجرب حظه في بلد آخر، وقد حدث بالفعل أن تبنت مشروعه وكالة الفضاء الفيدرالية الروسية التي تطلعت إلى أن ذلك سيدرّ إلى خزينتها 20 مليون دولار أمريكي، وهو رقم بلا شك يصعب رده. وفي الثامن والعشرين من أبريل/نيسان عام 2001 دخل “تيتو” التاريخ من أوسع أبوابه بصفته أول سائح في الفضاء في تاريخ البشرية، ليحلق حينها نحو محطة الفضاء الدولية ويقيم بها 8 أيام كاملة.

وفي الذكرى السنوية العاشرة لرحلة الملياردير “دينيس تيتو”، أجرت هيئة الإذاعة البريطانية BBC مقابلة خاصة مع بطل تلك الرحلة، ولم يستطع “تيتو” إخفاء توهج مشاعره الذي بقي مشتعلا بعد كل تلك السنوات. لم يكن خائفا البتة لحظة الاقلاع برفقة رائدين فضائيين، بل إنه على النقيض من ذلك كان مفرطا في حماسه، على حد وصفه.

وحينما وصل إلى محطة الفضاء الدولية، أمضى معظم وقته يتأمل الأرض من نافذة كانت تطل على الكوكب الأزرق، توجد في أرضية المحطة كما وصفها، ثم أردف قائلا: هناك نوافذ أخرى تطل على حافة الأرض، ويظهر الكون فيها كخلفية معتمة حولها.

لم تساوره أي شكوك بأن هذه أفضل تجربة في حياته على الإطلاق، إذ ما زال مشهد كوكب الأرض حيّا في ذاكرته، لكنه بالطبع أدرك بأن تجارب كهذه هي حكر على رجال الأعمال فحسب، لذا لم يُخفِ تمنّيه أن لا تكلف تذاكر رحلات الفضاء السياحية مستقبلا خُمس ما قد دفعه، ليتسنى لأكبر شريحة بشرية خوض تجربة فريدة للغاية كهذه.3

وفي الحقيقة لم يخب رجاؤه، فهناك عصر جديد من التطور الهندسي والتقني في السنوات القليلة الماضية قد فتح الباب على مصراعيه لشركات خاصة لكي تخوض غمار السياحة الفضائية حاملة على نفسها مسؤوليات عدة بالإضافة إلى السعي نحو خفض التكلفة وإتاحة الفرصة لأعداد أكبر.

تجارة الفضاء.. منافسة قطاع يدر مليارات الدولارات

بين عامي 2001 و2009، صعد سبعة أشخاص إلى الفضاء الخارجي بغية السياحة، من بينهم سيدة واحدة، وهي المهندسة الإيرانية أنوشَهْ أنصاري في عام 2006.

كان كل ذلك برعاية وكالة الفضاء الروسية التي وفرت لهم مقاعد داخل قمرة القيادة والتحكم في مراكب فضائية تابعة لعائلة “سويوز”. لكن ما كان ذلك ليحدث دون شركة السياحة الفضائية الأمريكية “سبيس أدفنتشرز” (Space Adventures) التي تأسست علي يد المهندس “إريك أندرسون” عام 1998، وتعد الأولى من نوعها، وهي المنسقة والمسؤولة عن تسيير مهام طالبي تجربة الصعود إلى الفضاء.4

‘إحدى مركبات شركة السياحة الفضائية الأمريكية “سبيس أدفنتشرز” المستقبلية

 

ويعود سبب الأعداد الضئيلة المنخرطة في هذه الرحلات -على الرغم من توفرها بشكل دوري- إلى التكلفة الباهظة لتذكرة الصعود. وهذا ما دعا رجل الأعمال الشهير “جيف بيزوس” إلى تأسيس شركته الخاصة في مجال السياحة الفضائية “بلو أوريجين” (Blue Origin) في مطلع الألفية الثالثة، كما أن شركة “فيرجين غالاكتيك” (Virgin Galactic) هي الأخرى قد برزت مساهمتها الكبيرة منذ نشأتها في ذات الحقبة.

وتعد هاتان الشركتان اليوم الأبرز في مجال السياحة الفضائية الذي يحمل تطلعات مرهونة بنجاحات مبهرة مستقبلا، كما يشير البنك الاستثماري السويسري “يو بي اس” (UBS) إلى أن “سوق الفضاء” يعد القفزة الكبيرة القادمة في الاقتصاد العالمي، مع توقع ارتفاع في الإيرادات السنوية إلى 3 مليارات دولار مع حلول عام 2030.

يقول “جارود كاسل” الذي يعمل محللا ماليا في البنك الاستثماري السويسري لقناة “سي إن بي سي” (CNBC) الإخبارية الاقتصادية: رغم أن السياحة الفضائية لا تزال في طور النشوء، فإنها ستشهد انتشارا واسعا مستقبلا مع انخفاض التكلفة بسبب التطور التقني والمنافسة بين الشركات الخاصة.5

“بلو أوريجين”.. ثورية “جيف بيزوس” تقتحم المجال

يعتلي مؤسس شركة “بلو أوريجين” رجل الأعمال الأمريكي “جيف بيزوس” قائمة أغنى أثرياء العالم بواقع 182 مليار دولار أمريكي بحسب إحصائيات عام 2020، وذلك لم يجعله طامعا في رفع تكلفة تذاكر رحلات الفضاء، إذ إن سعر التذكرة الواحدة يتراوح بين 200 ألف و250 ألف دولار، ويعتمد ذلك على مدى وجهة الرحلة.

تقدم شركة “بلو أورجين” خيار الصعود إلى الارتفاعات دون المدارية حيث يتقاطع مسار المركبة الفضائية مع الغلاف الجوي، وذلك باجتياز “خط كارمان” الذي يفصل بين الغلاف الجوي والفضاء، ويقع على ارتفاع مئة كيلومتر فوق سطح البحر، دون الوصول إلى ارتفاع الرحلات المدارية حول كوكب الأرض.

مؤسس شركة “بلو أوريجين” ورجل الأعمال الأمريكي “جيف بيزوس”

 

يشير “جيف بيزوس” إلى أن المركبات الفضائية المستخدمة من فئة “نيو شيبارد” (New Shepard) قد صممتها وصنعتها الشركة نفسها، كما أنها تحتوي على جزئين رئيسين: الكبسولة التي تتسع لستة سائحين وتعمل بشكل ذاتي، والصاروخ الذي ينطلق بشكل عمودي حاملا الكبسولة إلى الأعلى قبل أن ينفصل عنها عند ارتفاع معين ثم يعود إلى الأرض هابطا بشكل عمودي كذلك.

وكانت أولى التجارب لهذه الفئة من المراكب الفضائية “نيو شيبارد” في عام 2015، ومنذ ذلك الحين أعيدت التجربة 13 مرة، وتكللت جميعها بالنجاح المبهر، لكن دون الاستعانة بأي طاقم بشري.

“نيو شيبارد”.. عشر دقائق خارج الغلاف الجوي

كان من المقرر أن تجري التجربة القادمة من “نيو شيبارد” بوجود رواد فضاء -لأول مرّة في تاريخ الشركة- في نهاية هذا العام 2020، لكن نظرا لتفشي فيروس كوفيد 19 المستجد، فإن الرحلة قد أعيدت جدولتها لليوم الأول من بداية العام القادم.6

الملياردير البريطاني السير “ريتشارد بارنسون” مالك شركة “فيرجين غالاكتيك”

 

يقول “أريان كورنيل” مدير استراتيجية رواد الفضاء والمبيعات لدى شركة “بلو أوريجين” إن الرحلة ستتطلب من الركاب القدوم إلى مقر الشركة الواقع في مدينة “فان هورن” في ولاية تكساس الأمريكية قبل موعد الرحلة بيومين، لأن هناك بعض القواعد والتدريبات البسيطة التي يجب أن يعتاد عليها السياح، كربط الحزام وفكه داخل الكبسولة وغيره. وأشار “كورنيل” إلى أن الرحلة مهيأة لتكون بأقل قدر ممكن من التدريب.

كما يجب على الركاب أن يكونوا داخل المركبة الفضائية قبل إقلاع الصاروخ بنصف ساعة، ثم إن الرحلة لن تدوم طويلا، فالركاب سيحظون بتجربة انعدام الجاذبية لمدة 10 دقائق خارج الغلاف الجوي، قبل أن يعودوا مجددا إلى الأرض.7

شركة “فيرجين غالاكتيك”.. الفارس الأبيض يغزو السماء

تمثل شركة “فيرجين غالاكتيك” واجهة واعدة في مجال سياحة الفضاء، ويمتلكها الملياردير البريطاني السير “ريتشارد بارنسون”، وعلى غرار شركة “بلو أوريجين” تنتهج هذه الشركة تقليص الأسعار في سوق الفضاء، إذ يؤمن مالك الشركة أن العقد القادم سيشهد استقطاب أعداد كبيرة من الراغبين في تجربة السياحة الفضائية، ويتوقع أن يثل عدد السياح في الفضاء إلى مليونين في هذه المدة.

“فيرجين غالاكتيك” إحدى شركتين تعملان في السياحة الفضائية

 

ويختلف نظام الإقلاع في شركة “فيرجين غالاكتيك” عن قرينتها، إذ إن كبسولة الفضاء تشبه إلى حد كبير الطائرات المعتادة وتحمل الاسم التجاري “سفينة الفضاء ٢” (SpaceShipTwo) وقد صنعتها شركة الطيران والفضاء العملاقة الأمريكية “سكاليد كومبوزيت” (Scaled Composites).

ويجري إطلاق الطائرة بينما هي في الجو بواسطة طائرة أخرى تحملها إلى ارتفاع محدد قبل أن ينفصل جسما الطائرتين عن بعضهما، ويطلق على هذه الطائرة اسم “الفارس الأبيض ٢” (White Knight Two) وتبدو غريبة بعض الشيء، إذ تحتوي على قمرتي تحكم بدلا من واحدة.

وفي هذا الصدد يقول المدير التنفيذي للشركة السيد “مايكل كولغلازر” إن “سفينة الفضاء ٢” التي ستحمل السائحين تحتوي على ستة مقاعد مدعمة بحركة ديناميكية كاملة توفر السلاسة المطلوبة لضبط موضع أجسام الركاب مع تغير تأثير قوة الجاذبية أثناء الإقلاع وأثناء الهبوط كذلك.8

صحراء موهافي.. حادثة مأساوية تعثر مسار الشركة

لم يكن عام 2014 عاما محمودا بالنسبة لشركة “فيرجين غالاكتيك” بعد أن فقدت أحد أبرز طياريها إثر حادث غير مقصود بينما كانت طائرة الفضاء في اللحظات الأولى من مهمتها وهي في الأعلى.

ففي يوم 31 من أكتوبر/تشرين الأول من ذلك العام، كان الطيار الأساسي “بيتر سيبولد” برفقة مساعده “مايكل ألسبوري” على متن طائرة فضاء ضمن رحلة تجريبية لم تستغرق ثواني معدودة، إذ ما لبثت أن تحطمت الطائرة وسقطت في صحراء موهافي في ولاية كاليفورنيا.

تحطم طائرة فضاء تابعة لشركة “فيرجين غالاكتيك” عام 2014 ضمن رحلة تجريبية

 

وبعد تحريات قام بها “المجلس الوطني لسلامة النقل” (NTSB) المعني بالتحقيق في حوادث الطيران المدني، أفاد بأنّ مساعد الطيار “ألسبوري” ارتكب خطأ بعد أن قام بفتح “أجنحة” الطائرة قبل 14 ثانية من موعدها المقرر بينما كانت هي في وضعية القفل، إذ إن الطائرة كانت تسير في ذلك الحين بسرعة 0.8 ماخ، بينما كان ينبغي عليه أن ينتظر حتى تصل سرعة الطائرة إلى 1.4 ماخ لفتح الأجنحة (الماخ: هو سرعة الجسم أو الطائرة بالنسبة لسرعة الصوت، ومن الشائع استخدامه في علم الموائع).9

لم ينج “ألسبوري” من تلك الحادثة، لكن نجا زميله الطيار “سيبولد”، وعلى الرغم من ذلك، لم يمنع مسؤولي الشركة من مواصلة عملهم، بل على العكس إذ تعهدوا بأن يتفادوا أخطاء كهذه مستقبلا مهما كلفهم الأمر. ومنذ ذلك الحين إلى اليوم، واصلت شركة “فيرجين غالاكتيك” مراحلها الأخيرة من رحلاتها التجريبية، وتتطلع نحو أول سائح للشركة في الفضاء في القريب العاجل في رحلة مدتها 90 دقيقة وبتكلفة تصل إلى 250 ألف دولار.

وبحسب ادعاء الشركة فإن أكثر من 600 تذكرة قد بيعت لشخصيات بارزة ومشاهير عالميين، وتأمل كذلك أن يكون عام 2021 هو نقطة الانطلاقة نحو السياحة في الفضاء.10

 

المصادر:

[1] محررو الموقع (2010). رائد الفضاء السوفيتي يوري غاغارين يصبح أول رجل في الفضاء. تم الاسترداد من: www.history.com

[2] محررو الموقع (2001). ناسا تصب جام غضبها على سائح فضائي. تم الاسترداد من: www.theguardian.com

[3] محررو هيئة الإذاعة البريطانية (2011). أول سائح فضاء في العالم بعد 10 سنوات: دينيس تيتو. تم الاسترداد من: www.bbc.com

[4] هول، زاك (2020). تعرف على السبعة الرواد سائحي الفضاء. تم الاسترداد من: www.spaceexplored.com

[5] شيتز، مايكل (2019). السفر بسرعة فائقة باستخدام الفضاء الخارجي يمكن أن يصل إلى دخل 20 مليار دولار في السوق، مما سيعطل شركات الطيران، كما يتوقعه بنك الاستثمار السويسري. تم الاسترداد من: www.cnbc.com

[6] جرش، لورين (2020). بلو أوريجين تطلق صاروخ “نيو شيبرد 3” في رحلته السابعة إلى الفضاء. تم الاسترداد من: www.theverge.com

[7] كوفيلد، كالا (2017). ماذا يمكن أن يتوقعوه سائحو شركة “بلو أوريجين”. تم الاسترداد من: www.space.com

[8] ماكينيس، كايتلين (2020). مركبة “فيرجين جالكتيك” الفضائية: هذا هو الشكل الذي ستبدو عليه رحلتك إلى الفضاء. تم الاسترداد من: my.asiatatler.com

[9] مالك، طارق (2015). حادثة تحطم “سبيس شيب تو” سببه خطأ مساعد الطيار. تم الاسترداد من: www.space.com

[10] شيتز، مايكل (2019). يقول الرئيس التنفيذي لشركة “فيرجين جالكتيك” أن ملايين السياح سيرغبون في السفر إلى الفضاء في العقد المقبل. تم الاسترداد من: www.cnbc.com


إعلان