“سباق الغذاء”.. قوارب النجاة من إعصار الجوع الذي يفتك بالأرض

مراد بابعا
لطالما شكل الطعام الهاجس الأول للإنسان منذ وجوده فوق الأرض، فخاض الحروب وقاتل من أجل الحفاظ على موارده الغذائية، وطور وسائل حصوله على مختلف أنواع الطعام، بدءا بالصيد ثم الزراعة فالصناعة.
وفي يوم الأغذية العالمي الذي تحتفل به الأمم المتحدة في 16 أكتوبر/تشرين الأول من كل سنة، لا يزال توفير الغذاء إحدى الإشكاليات التي تهدد الاستقرار العالمي، وقد توقعت الأمم المتحدة أن يكون عدد الجياع تزايد مع نهاية سنة 2020 بأكثر من 130 مليون شخص في جميع أنحاء العالم، ويُحصى العدد الأكبر منهم في آسيا، في حين تسجل أسرع زيادة في أفريقيا.

يسلط الفيلم الوثائقي “سباق الغذاء” الذي عرضته الجزيرة الوثائقية الضوء على هذه الإشكالية، بسبب تزايد الضغط على الأغذية، وصعوبة الاستمرار في الاستجابة للطلب المتزايد أمام التقلبات والصدمات المناخية.
فلماذا فشلت حتى الآن جميع جهود القضاء على الجوع في العالم؟ وكيف يمكن توفير مزيد من الطعام رغم ارتفاع عدد سكان الكوكب وتقلص المساحات المزروعة؟ وهل يحمل الابتكار الزراعي الحل لإطعام كوكب جائع؟
محاصيل الحبوب.. توزيع جائر لرزق يكفي ضعف سكان الكوكب
قد يتوهم البعض أن الزيادة في الإنتاج الزراعي هو الحل الوحيد لمكافحة الجوع وإطعام سكان العالم، لكن المفتاح الأساسي للأزمة يكمن في التوزيع العادل للثروات، فالناس يتضورن جوعا في بعض أنحاء العالم بسبب الفقر وعدم قدرتهم على شراء الطعام، وليس لعدم توفره.
فالإنتاج العالمي من الحبوب الذي بلغ مستوى قياسيا خلال الموسم 2020-2021؛ يكفي نظريا لإطعام 14 مليار إنسان، لكن عدم قدرة الفقراء على الدفع لاقتناء الطعام، يجعل الأغنياء يشترون أكثر من الحصص التي يحتاجون إليها، كما أن الحروب والكوارث الطبيعية تؤدي إلى دمار البنية التحتية الزراعية وتُضيق بشكل كبير على التجارة.

ويعرض الفيلم أبرز تجليات جهود السيطرة على أزمة الغذاء حول العالم، من خلال عرض أمثلة مختلفة في قارات الكوكب الخمس، تستعمل تقنيات تمزج بين العصرنة والعودة إلى بعض الطرق التقليدية للحفاظ على الزراعة العضوية دون استعمال المواد الكيميائية.
ويبقى تطوير التقنيات الزراعية وجعلها أكثر فعالية؛ أبرز تحدٍّ ينتظر البشرية خلال السنوات المقبلة، ويعتبر الاعتماد على الهندسة الوراثية من الحلول المطروحة للحصول على محاصيل أفضل، وبكميات قادرة على إطعام الأفواه الجائعة، وللحفاظ في الوقت نفسه على القيمة الغذائية للنباتات وسلامتها الصحية.
أفريقيا وآسيا.. حصار الجوع يخنق عشر سكان الكوكب
تشير تقديرات الأمم المتحدة إلى أن ما يقرب من 690 مليون شخص حول العالم يعانون من الجوع مع نهاية سنة 2020، أي ما يعادل 8.9% من سكان الكوكب، وخلال السنوات الخمس الأخيرة يضاف حوالي 60 مليون جائع إلى اللائحة سنويا، وإذا استمرت هذه الوتيرة على حالها، فإن 10% من سكان العالم سيتضررون من الجوع بحلول عام 2030، أي ما يقدر بـ840 مليون شخص.
وقد حذرت الهيئة الحكومية الدولية المعنية بتغير المناخ من وضع مأساوي في العقود المقبلة بسبب سوء تغذية وانعدام الأمن المائي والأوبئة، وهو ما ستعاني منه بالأساس الدول الفقيرة، بسبب موقعها الجغرافي ضمن المناطق المهددة بالجفاف والتصحر، خصوصا في جميع أنحاء إفريقيا جنوب الصحراء ودول آسيا الوسطى، حيث سيعاني 10 ملايين طفل من سوء التغذية بحلول منتصف القرن، كما أن ما لا يقل عن 80 مليون شخص إضافي مهددون بخطر المجاعة سنة 2050.

وفي الوقت نفسه يعاني حوالي ملياري شخص على مستوى العالم من زيادة الوزن أو السمنة، وهو أمر مرتبط أيضا بسوء التغذية أو انتشار العادات السيئة المرتبطة باستهلاك مفرط للنشويات والسكريات مقارنة بالأغذية الصحية الغنية بالبروتينات والفيتامينات، وإذا استمرت الوضعية الحالية فإن 45% من سكان الكوكب قد يعانون من زيادة الوزن غير الصحي بحلول العام 2050، وما يصاحب ذلك من ارتفاع لتكاليف الرعاية الصحية.
كوفيد 19.. كابوس يفسد حلم القضاء على الجوع
جاءت جائحة كوفيد 19 سنة 2020 لتخلط كل الحسابات التي وضعتها الأمم المتحدة للقضاء على الجوع في العالم مع حلول سنة 2030، فهذا الهدف كان قبل وقت قريب ضمن أهداف التنمية المستدامة القابلة للتحقيق، لكنه الآن أصبح صعبا إن لم نقل شبه مستحيل، بسبب تدهور الأمن الغذائي لفئات واسعة من سكان الكوكب الأكثر ضعفا، نتيجة الآثار الصحية والاجتماعية والاقتصادية للجائحة.
ووفقا لبرنامج الأغذية العالمي، فقد أدت جائحة كورونا إلى سقوط ما لا يقل عن 96 مليون شخص إضافي في براثن انعدام الأمن الغذائي الحاد في عام 2020، كما تسببت الجائحة في اختلالات كبيرة في سلاسل الإمداد عبر العالم، وانعكس ذلك على الأمن الغذائي لدول عدة في منطقة آسيا وإفريقيا، خصوصا تلك التي تعتمد على الواردات وعلى رأسها الحبوب.

ورغم احتواء الأزمة في عدد من البلدان، فإن تكلفة النقل والشحن ازدادت، وارتفعت معها الأسعار، وحذرت منظمة الأغذية والزراعة للأمم المتحدة “فاو” من أن الوضع قد يتفاقم تدريجيا ليصل إلى انعدام الأمن الغذائي في دول تشهد نزاعات وعدم استقرار في المنطقة، وتضم على أراضيها أكثر من 28 مليون شخص في حالة أزمة، أو أسوأ من ذلك.
ويزيد النمو الديموغرافي المتسارع، والضغط الكبير على المساحات المزروعة، من صعوبة توفير الطعام الكافي لجميع سكان الكوكب، فالتوقعات تشير إلى أن عدد سكان العالم سيزداد بمقدار الثلث بحلول سنة 2050. ومع نمو الدخل والاتجاهات الحالية نحو الاستهلاك المفرط، فسوف يتعين رفع الإنتاج الزراعي بنسبة 60% على الأقل لتلبية الطلب المتزايد على الأغذية والأعلاف بحسب منظمة الأغذية والزراعة “فاو”.
تقلبات المناخ.. وحش يهدد غذاء الإنسان في منابته
لم تعش البشرية على الإطلاق وضعا مشابها لما تعيشه اليوم بحكم الخوف من المستقبل، فبالإضافة إلى تداعيات جائحة كوفيد، لا تكاد تتوقف تحذيرات العلماء من خطر ارتفاع حرارة الكوكب بفعل الغازات الدفيئة، وأولى انعكاسات ذلك بدأت تظهر على المناخ وتوزيع الأمطار، وازدياد الظواهر الطبيعية الحادة، كالتصحر، والفيضانات والحرائق التي تؤدي المحاصيل الزراعية فاتورتها الغالية.
وبسبب هذه الظواهر المناخية باتت مهددة بالانقراض أنواع من النباتات القابلة للزراعة والتي يتغذى عليها الإنسان، وبعضها ضروري لغذاء ملايين البشر، فنحو ثلث الإنتاج الزراعي العالمي، قد يصبح خارج المناطق المناخية الملائمة لزراعته. وهو ما يهدد أنواعا من الحبوب كالأرز، وأيضا بعض الخضراوات وعلى رأسها البطاطس التي تتوقع تقارير أن تنخفض محاصيلها بأكثر من 30% بحلول سنة 2060.

ولا يقتصر الضرر المناخي على كميات الطعام فحسب، بل أيضا على الجودة وضعف القيمة الغذائية للطعام الذي سينتجه الإنسان مستقبلا، بسبب النقص الحاد في الفيتامينات والمعادن نتيجة التركيز العالي لثاني أكسيد الكربون في الهواء.
في المقابل سترتفع كميات النشاء والسكر، خصوصا في تركيبة بعض المحاصيل الغذائية الرئيسية مثل القمح والأرز، وهو ما يؤدي إلى سوء التغذية أو ما يعرف بالجوع المستتر الذي يرتبط بانتشار البدانة والأمراض المتصلة بها، ومشاكل النمو والمناعة خصوصا لدى الأطفال.
نضوب المياه السطحية.. كوكب عاجز عن سقي البشر والنبات
ارتبط عيش الإنسان بثنائية الماء والطعام، فوجوده فوق الأرض رهين بتوفر المأكل والمشرب، ومن دونهما تستحيل الحياة، وتستهلك الزراعة حول العالم كميات أكبر بكثير من المياه الموجه للشرب، ومن هنا تأتي أهمية اقتصاد الماء في الزراعة، فالاستمرار في استعمال طرق السقي التقليدية واستنبات الزراعات المستهلكة للماء بشراهة، يعتبر طريقا نحو الهاوية والخراب خصوصا في المناطق المهددة بالجفاف والتصحر.
وتشير تقديرات منظمة الأغذية والزراعة “فاو” إلى أن لترين من المياه قد يكفيان لأغراض الشرب اليومية، لكن الاحتياجات الغذائية للشخص الواحد تتطلب تعبئة حوالي 3000 لتر في اليوم، كما أن إنتاج كيلوغرام واحد من اللحوم يستلزم 15 ألف لتر من الماء.

ويطرح هذا الاستهلاك المفرط للماء تحديات غير مسبوقة على البشرية في السنوات المقبلة، فالمياه الإضافية التي سنحتاج إليها لزيادة إنتاج المواد الغذائية اللازمة لإطعام نحو تسعة مليار إنسان سنة 2050، لا يمكن أن يوفرها كوكب الأرض، خصوصا إذا استمر الاحترار المناخي في مستوياته الحالية.
وقد وصلت بعض المناطق في العالم حاليا إلى مرحلة الإجهاد المائي، بسبب اعتمادها في سقي المساحات المزروعة على المياه الجوفية، نظرا لنضوب المياه السطحية وقلة الأمطار، وهو ما يهددها بالعطش، فأصبحت اليوم المياه الجوفية في العالم تقدم نحو 50% من مجموع مياه الشرب، و43% من مجموع مياه الري الزراعية، وهو ما أصبح يمثل تهديدا حقيقيا للمخزونات المائية، إذا استمر هذا التوجه.
دعم أبحاث الزراعة.. التكنولوجيا النووية تمد يد العون للإنسان
يبدو أن إطعام جميع الأفواه الجائعة حول العالم في الوقت الحالي أمر شبه مستحيل لكل الاعتبارات السابقة، كما أن الطرق المعتمدة حاليا في الزراعة لن تكون قادرة على مواكبة الطلب المرتقب، وأصبحت الضرورة ملحة للانتقال نحو نظم فلاحية أكثر إنتاجية وكفاءة، قادرة على الصمود أمام أخطار التقلبات المناخية التي تزداد قسوة يوما بعد يوم.
وتركز جهود المنظمات الأممية حاليا على دعم أبحاث تحسين الزراعة وقدرة نُظم إنتاج الأغذية على التحمل، كما تُشجع على تنويع المحاصيل، ووضع معايير قائمة على الحفاظ على القيمة الغذائية عوض التركيز على الكميات المنتجة.
وتقدم منظمة “فاو” سنويا آخر التقنيات المبتكرة في هذا المجال، وهي تركز بالأساس على استغلال التكنولوجيا الحديثة لتنظيم عمل الفلاحين، ومعرفة الأوقات الملائمة للسقي ورش المبيدات، والإنذار المبكر للعواصف وموجات الحر. كما أصبحت التكنولوجيا النووية فعالة في القضاء على بعض أنواع الحشرات الضارة والطفيليات التي تلحق أضرارا بالمحاصيل، وتساعد هذه التقنيات على تحسين الإنتاج والحماية من تغيرات المناخ.

واستطاعت الأبحاث الزراعية في السنوات الأخيرة تطوير بذور وشتلات قادرة على التكيف مع قلة الأمطار، وأصبحت زراعتها ممكنة حتى في البيئات القاحلة الصحراوية، بفضل استهلاكها لكميات أقل من التربة والمياه، قد تصل إلى 90% مقارنة ببعض الأنواع التقليدية.
كما ظهرت تقنيات جديدة للزراعة بدون تربة فوق الماء، أطلق عليها اسم (Hydroponics)، وتعتمد على توفير باقي المقومات الأخرى اللازمة لنمو النباتات، ويتوقع أن ينمو سوق هذه الزراعة في أمريكا الشمالية مثلا لتصل قيمته إلى حوالي 724 مليون دولار بحلول عام 2023.
“الحمية الصحية الكوكبية”.. خطة تنظيم السلوك الغذائي قبل حلول الكارثة
أصبحت الطريقة الحالية التي يعيش بها الإنسان مصدرا لخرابه المرتقب، ولا بديل عن تغيير السلوك لإنقاذ ما يمكن إنقاذه، سواء من خلال خفض انبعاثات غاز ثاني أوكسيد الكربون، أو ترشيد استعمال الموارد المائية، أو حتى من خلال تغيير العادات الغذائية السائدة في وقتنا الحالي.
فالاستهلاك المفرط للحوم مثلا، يتسبب في ازدياد استهلاك الماء، وتحول المساحات المزروعة لاستنبات الأعلاف عوض النباتات الغذائية الأساسية للإنسان. وكشفت نتائج دراسة أجرتها منظمة الأغذية والزراعة إلى أن الحد من استهلاك المنتجات الحيوانية في النظام الغذائي للبشر، يمكن أن يوفر موارد مائية تكفي لسقي مساحات قادرة على إطعام 1.8 مليار شخص على المستوى العالمي.

ومن أجل المساعدة في تبني هذا التوجه كشفت مجلة “ذي لانسيت” عن تقرير (EAT-Lancet) الذي أوصى باتباع “الحمية الصحية الكوكبية”، وهي حمية لن تتحقق دون أن يستهلك سكان أمريكا الشمالية اللحوم الحمراء بأقل من 84%، مع زيادة الحبوب كالفاصوليا والعدس ستة أضعاف، أما الأوروبيون فيجب عليهم تناول أقل من 77% من اللحوم الحمراء ومضاعفة من المكسرات والبذور15 ضعفا.
ومما يزيد الطين بلة ممارسة بعض السلوكيات الاستهلاكية السلبية كإهدار الطعام، إذ يتعرض نحو 1.3 مليار طن من الطعام سنويا للتلف والإهدار، خصوصا قبل وصوله إلى مائدة المستهلك، أي ما يعادل 30% من الإنتاج العالمي، وهو وضع مرفوض تماما، فلا يعقل أن تتحول نصف المواد الغذائية المنتجة عالميا إلى قمامة، في ظل وجود أكثر من 800 مليون إنسان يعانون من نقص الغذاء أو الجوع، وفي أمسّ الحاجة للطعام.