نيويورك الجديدة.. أعظم مدن العالم الحديث تجري عملية تجميل
خاص-الوثائقية
نيويورك مدينة مفعمة بالحيوية، ومانهاتن صاخبة، هي قلب عاصمة العالم، تشهد نيويورك حركة ازدهار، يتهافت الناس إليها ليشهدوا على صخب هذه المدينة العملاقة النابضة بالحياة، فالبعض يقصدها للعمل والإقامة، ويعتبر وسط مانهاتن حول ميدان التايمز مركز الأعمال في المدينة.
وفي فيلم “وجه نيويورك الجديد” الذي عرضته الجزيرة الوثائقية، نتعرف على المدينة التي تجذب السياح والعمال المهتمين بالاستفادة من الاقتصاد المتنامي والعدد الهائل من الناس الذين يتدفقون، وكيف أصبح وسط نيويورك أحد أكثر المناطق كثافة سكانية في العالم.
وقد بدأت هذه الكثافة تثير المشاكل، لكن التحدي يكمن في كيفية محافظة نيويورك على التجديد ومواكبة العصر في ظل وجود العديد من المباني المتزاحمة، وكان السبيل في مناطق بالمدينة أصبحت قديمة وعفا عليها الزمن، ولكن إجراء التجديدات دونه عقبات كبيرة.
ويُعد وسط مانهاتن أكثر المساحات المبنية كثافة حول العالم، لكنه لم يعد يتماشى مع العصر، ولهذا على مانهاتن أن تجدد نفسها.
“عتبة باب المدينة بالمعنى الحقيقي”.. معلم حضاري في قلب نيويورك
من دون حديقة سنترال بارك، ما كانت لمانهاتن أن تولد، فهي تشكل واحة من الهدوء والسكينة، حيث يلعب الأطفال وتزقزق العصافير، ولطالما أراد الجميع العيش هنا، ولطالما كانت واحدة من أغلى المناطق في العالم.
فمنذ 2010 أصحبت المباني السكنية في سنترال بارك شاهقة أكثر فأكثر، ويزيد علوها عن 300 متر، لتتنافس مع وسط المدينة، وإذا سلكت بارك أفنيو جنوبا إلى يمين سنترال بارك، فسيبدو لك كل شيء باهظ الثمن.
ومن غراند سنترال في الشارع 42، أكبر محطة في مانهاتن، تبدأ عمليات ترميم وسط المدينة الشرقي، إذ يبنى برج “وان فندربيلت” للمكاتب، ويصل علوه إلى أكثر من 400 متر، وسيشكل أطول ناطحة سحاب وسط المدينة، لكن قاعدة المبنى -أي قاعات الاستقبال- تبقى ملكا عاما وتوفر مخرجا إضافيا للركاب.
ويقول “جيمس فون كليميرير” كبير المهندسين المعماريين لبرج “وان فندربيلت”: إنه يُشكل عتبة باب المدينة بالمعنى الحقيقي وليس المجازي، فعندما تخرج من محطة غراند سنترال تطأ قدماك الموقع، مما يعني أن 75 ألف شخص في ساعات الذروة سيتدفقون إلى هذا المبنى.
ويتضاعف عدد الركاب في السنوات القليلة المقبلة، إذ أن بناء النفق الجديد سيشكل صلة وصل بين شرق مدينة نيويورك ومانهاتن، وينزل 150 ألف شخص بالمحطة في الساعة الواحدة، وسيحل النفق مكان زحمة السيارات، ولكن سيخلق تحديات جديدة.
يقول “كليميرير”: يسمح المبنى الجديد بابتكار ممر داخلي، بمصطلح آخر، لن تمر عبر المحطة فحسب، بل ستسير مسافة 30 مترا إضافية إلى داخل هذا المبنى الجديد، فالمبنى الحالي سيعج بالناس، ولن يتمكن من استيعاب الأعداد الكبيرة، وسيتعثر الناس بعضهم ببعض.
وتستعيد المدينة أملاكها العامة عبر قاعة الاستقبال، وفي المقابل يبني المستثمرون ناطحات سحاب، لأن تنازل منشأة خاصة عن قاعة استقبال خاصة بها هو أمر استثنائي في مانهاتن، ويحترم المبنى الجديد مانهاتن القديمة كمعلم، فبدلا من حجب محطة غراند سنترال يعمل المبنى كوشاح شفاف يلف المحطة بأناقة. وعن هذا التصميم يقول “كليميرير”: إنه بفضل هذه العملية التي تمكننا من رؤية داخل أسفل المبنى، يمكننا رؤية 23 مترا من واجهة المبنى، لأننا أفسحنا المجال للرؤية.
وتدريجيا ستتبع ناطحات السحاب الطريقة نفسها، كما ستحدث المباني القديمة المبنية قرب بعضها، وستهدم المكاتب الموجودة جزئيا. ويقول “كليميرير”: هذا المشروع هو جزء من البرنامج التخطيطي لمدينة نيويورك، ويعمل على إضافة مزيد من الكثافة والحيوية لهذا الحي، لأن عددا من المباني القديمة المعروضة للبيع تعود لخمسينيات القرن الماضي، وتعتبر غير مستدامة بيئيا، وجدرانها في حالة سيئة وأسقفها منخفضة وأنظمتها الميكانيكية معطلة، لقد خصصوا مساحة أكبر لهندسة المبنى، لذا إن كان ثمة شيء قديم الطراز، فالأمر يستحق وقت المستثمر لهدم المبنى، وإنشاء آخر أكبر وهذا يسمى “إعادة تقسيم وسط المدينة الشرقي”.
ومن المتوقع أن جيلا جديدا من ناطحات السحاب، من شأنه تخفيف الآثار السلبية للمناخ في المدينة، باستخدام مواد جديدة وأنظمة ذكية، فالمباني الشاهقة هي علامات لتطور التخطيط العمراني في المستقبل، وهذا المشروع هو جزء من خطة الاستجابة للمتطلبات الجديدة للمدن، فالعدد المتزايد للسكان يعني أننا بحاجة إلى مساحات أكبر في أسرع وقت، إضافة لتوسيع جوانب الطرق.
ولتطبيق هذه المتطلبات، يقول “كليميرير” إنهم يعملون على بناء أشكال مخروطية، تكون واسعة من الأسفل، ولا يفترض بأعلى المبنى أن يكون كتلة صلبة تحجب النظر ولا تسمح بدخول النور، بصرف النظر عن شكله وبنيته، ولا يجوز أن يكون كله زجاجا يعكس الضوء ولا أن يكون شيئا مغلقا أو ينتفع منه أولئك الذين يستأجرون المبنى، وإنما يجب أن يكون متاحا للجميع وله طابع عام.
وسيغير البرج الجديد أفق مانهاتن، ويكون مرئيا من كل مكان، ويشكل علامة فارقة تشهد على نهضة وسط المدينة.
“إنها مدينة لم يفكر فيها أحد”.. هدسون يارد
بهدف تخفيف الضغط على وسط مانهاتن والمنطقة المالية، تبحث المدينة عن بناء مركز أعمال جديد، يرتكز على المواقع التجارية المهجورة جزئيا على طول نهر هدسون، على الجانب الغربي من مانهاتن. وقد افتتح الجزء الأول من هدسون يارد في ربيع 2019، وبحلول 2025 فإن ثلاثين ناطحة سحاب ستلامس الغيوم في هذه المنطقة.
يقول “دانييل لويس دوكتوروف”، المؤسس والمدير التنفيذي لشركة “سايدووك لابس”: إنه حلم عمره 23 عاما، ويعود تاريخ القصة إلى 1996، حيث خطرت لي فكرة استضافة الألعاب الأولمبية في نيويورك، وبينما كنت أضع الخطط وأفكر في مكان الحلبة ومواقع المسابقات، راجعت وفريقي المدينة والمساحات المتوفرة فيها، ثم تراجعنا خطوة إلى الوراء ورحنا نفكر كيف يمكن أن تحول نفسها فعليا إلى مدينة القرن الـ21 بدلا من مدينة القرن العشرين.
وبعد فشل رهان استضافة الألعاب الأولمبية وزيادة الطلب على إنشاء مكاتب جديدة، عاد التفكير بموقع هدسون إلى الواجهة، وتكمن خطط هدسون يارد الآن في الاقتراب من ثاني أكبر محطة قطار أنفاق في مانهاتن وهي محطة “بين”.
والموقع الذي كان يعمل على تطويره يتخطى السكك التي يجب أن تتوقف عليها القطارات خارج ساعة الذروة، وكانت الأسعار سترتفع بشكل كبير. ولكن أمرين ساهما في ضمان البدء بالبناء، فثورة التكنولوجيا غذت اقتصاد الولايات المتحدة وأثرت إيجابا في نيويورك، وفي الوقت نفسه، ازداد الطلب على المكاتب حديثة الطراز والشقق في مانهاتن، وأصبح “هدسون يارد” أول حي ذي مبان متعددة الاستخدامات، ونموذجا للمدن الجديدة في القرن الـ21.
ويقول “كينيث لويس”، وهو شريك إداري لشركة “سكيدمرو أووينغز وميريل”: عندما تقوم مدينة بإعادة ابتكار نفسها، كما فعلت باريس في وقت المعارض أو لندن في وقت “كريستال بالاس” إنها لحظة تحول وقفزة نوعية في إعادة ابتكار المدن، فكرة هدسون يارد كانت مختلفة في بداية الأمر، فقد اقتضت الخطة الأولية أن يُبنى ملعب رياضي، ويصبح محور الحي السكني الجديد الذي يبنى حوله، وهذه كانت الخطة الأساسية.
وكان “كينيث لويس” مشاركا في التخطيط لإعادة ابتكار مانهاتن الغربية، ويفترض بهذه المدينة الجديدة، توفير كل ما تقدمه مانهاتن الأساسية من مكاتب وشقق ومطاعم ومحال تجارية وأسواق وحضارة، وستكون مدينة نموذجية ومتطورة للغاية، تُزينها المساحات الخضراء وعدد من المساحات العامة.
وصمم “يوجين كوهن” (مؤسس مشارك ورئيس مجلس إدارة شركة “كوهن بيدرسن فوكس”)، و”ويليام بيدرسن” (مؤسس مشارك ومدير تصميم شركة “كوهن بيدرسن فوكس)، 3 ناطحات سحاب من بناء هدسون يارد.
يقول “كوهن”: إن هناك سمتين أساسيتين تميزان هدسون يارد، أولا: إنها مدينة لم يفكر فيها أحد أي أنها مدينة لم يكن يريد أحد الذهاب إليها أو العيش فيها، إنها أشبه بمنطقة مهجورة لا طرقات فيها، وترمى هناك الحافلات المعطلة والنفايات، ليس فيها شيء مميز. والميزة الثانية تكمن في الفريق، فقد جمعت فريقا للعمل على مدى أسبوعين من دون العودة إلى المنزل، كنا نعمل ونأكل ونستحم في المكتب، وأنهينا المشروع وقدمناها للموافقة كجزء من الخطط الكبيرة، ثم بدأنا بإنشاء المباني، واليوم، يعتبر المكان ذا قيمة عالية، ولا أصدّق أن المستأجرين الكبار ينتقلون إلى هنا.
وقد صمم “ويليام بيدرسن” البرج الأعلى، وأعطاه شكلا خاصا به، وأراده أن يكون مثاليا ونموذجا للمباني السكنية الجديدة. ومنذ البدء لم تكن هدسون يارد مجرد حي جديد، بل صممت لتمثل مانهاتن الجديدة. يقول “ويليام”: ما من سابقة حضارية من حجم هدسون يارد، إنه أمر ليس له مثيل، والتحدي يكمن في كيفية تحويل الحي إلى شيء فريد له وقع خاص، لطالما اعتقدت أن التخطيط الحضاري أشبه بحفل مختلط، إذا أحضرت شخصيات بارزة لتقف في الزاوية من دون التحدث إلى أحد، فلا يكون الحفل ناجحا، فعلى الناس التفاعل مع بعضهم، والأمر نفسه ينطبق على المباني التي يجب أن تتفاعل مع بعضها.
وبعد افتتاح الجزء الأول من هدسون يارد، قال رئيس مجلس إدارة عدة شركات في هدسون يارد “ستيفن روس”: نحن اليوم في حي سكني جديد، وتجتمع فيه كل أحياء الجهات الغربية، ابتكرنا اليوم نموذجا جديدا للعالم، ليتمكن من رؤية هذا التطور والذي يشجع على الاستدامة والقدرة على التكيف، أنشأنا اليوم مركزا ديناميكيا للإبداع والابتكار.
حضر الآلاف بعد الافتتاح لرؤية مركز التسوق الجديد، وسيعمل فيها 65 ألف شخص قريبا، ومع انتهاء مشروع هدسون يارد عام 2025، ستكون 4 آلاف وحدة سكنية قد بنيت.
“نحن نتجه إلى بيئة نظيفة”.. حاجة التنوع المعماري والاجتماعي
يقول “دانييل لويس دوكتوروف” المؤسس والمدير التنفيذي لشركة “سايدووك لابس”: هدسون يارد أساسية في مستقبل نيويورك لأسباب متعددة، أحدها: رغبتنا في تطوير المدينة بشكل مستمر، وعلينا إيجاد مساحة تتلاءم مع هذا التطور، ثانيا: أظن أن هدسون يارد نموذج رائع لإنشاء المباني الحديثة متعددة الاستخدامات، والتفكير بمستقبل الحياة الحضارية.
فليس هدسون يارد حيا سكنيا أو استثمارا جيدا فجسب، بل منطقة لديها طابع تنافسي، وتتنافس المدن حول العالم، على توفير المقرات الرئيسية للشركات الكبرى، بينما تتنافس هذه الشركات على أفضل المبدعين، هذه الشركات لا تريد العمل في أماكن مزدحمة ومكاتب قديمة، لذا فإن إنشاء حي مختلط، من شأنه توفير ما تقدمه الحياة الحضارية.
ويقول “كينيث لويس”، وهو شريك إداري لشركة “سكيدمرو أووينغز وميريل”: المدينة لها طابع حياة الشوارع، وتختلف عن نماذج السبعينيات الذي بدأ بالتلاشي تدريجيا، نحن نتجه إلى بيئة نظيفة، بحيث تدخل المركز التجاري أو البرج وتصعد إلى أعلاه، وتقوم بعملك ثم تغادر المدينة.
وتمثل التكلفة وكلفة الحياة مشكلة التخطيط الحضاري في القرن الـ21، فكلما كانت المنطقة جاذبة كان التخطيط أفضل، وارتفعت أسعار الشقق والأراضي، لكن ما من مدينة تهتم بتجانس أحيائها لاستقطاب الأغنياء فقط ولا حتى مانهاتن. ولتجنب ذلك، يجب أن تكون الشقق السكنية متوفرة بأسعار في متناول الجميع، فالمدينة بحاجة للتنوع من الناحيتين المعمارية والاجتماعية.
ويقول “توماس والتس”، وهو مهندس مناظر طبيعية: إن أحد مهندسي المناظر الطبيعية يشارك في عدة أنظمة مرئية وغير مرئية، فالوعي بكيفية التنقل مطلوب، لكن من المهم كذلك الوعي بموقع الشمس وعلاقتها بالزراعة التجميلية والغذائية، والرياح السائدة ومتى يكون اجتماع هذه العوامل مطلوبا أو غير مطلوب.
هاي لاين.. مرتع المخدرات والجريمة يصبح أحد معالم المدينة
ابتكرت المهندسة “ليز ديلر” مع شركائها 3 عناصر رئيسية لهذا الحي الجديد، فتاريخهم وتاريخها كمهندسة تأثر بشكل كبير بنجاح إعادة تصميم حديقة “هاي لاين”. تقول “ديلر”: عندما صممنا حديقة هاي لاين، قدرنا أن حوالي 300 ألف شخص، سيأتون إليها وتحدثنا عن أهمية خلق مساحات خضراء في هذه المنطقة التي تفتقر لمثل تلك المساحات، كانت هذه المنطقة تنهار بعد إغلاق المتاجر الصغيرة أبوابها، لم يبق سوى بؤرة واسعة لركن السيارات، لذا شعرنا أن حديقة هاي لاين ستفي بالغرض.
في أواخر التسعينيات نجحت محاولات قادها السكان لمنع هدم هاي لاين، وجمعوا أفكارا تعود بالفائدة على العامة، وافتتح الجزء الأول عام 2009، وأصبح مدخلها -الذي لم يلفت نظر أحد يوما- مشهورا عالميا، وتحولت هذه الأرض القاحلة التي كانت مرتعا للمخدرات والجريمة، إلى محط أنظار سكان نيويورك، وبات واضحا حينها أن مشروع هدسون يارد قد يحقق النجاح.
وتكشف “ديلر” أنها لم تكن تتخيل وصول عدد زوار حديقة هاي لاين عام 2006 إلى 7 ملايين ونصف من الأشخاص، وأصبحت قيمة الأرض المحيطة بالحديقة -التي كانت بلا قيمة- مرتفعة جدا، وواصلت ارتفاعها لتصبح من أغلى العقارات في نيويورك.
تمتد حديقة هاي لاين من جنوب المدينة مباشرة باتجاه أبراج المكاتب ثم تتجه يسارا وتتقابل مع مبنى “ذا شيد” المصمم بالكامل من التراث الحضاري الرائع للمباني التي أعادت الأحياء المنسية إلى الحاضر، ودفعتها نحو المستقبل.
وعن هذا المبنى يقول “دانييل لويس دوكتوروف”، المؤسس والمدير التنفيذي لشركة “سايدووك لابس”: عندما وضعنا جانبا جزءا من الأرض، وقدرنا أنه سيكون الأعلى قيمة في الجهة الغربية بالكامل، لإنشاء مؤسسة ثقافية، ووضعت مع “مايكل بلومبرغ” وباقي الحكومة في ذلك الوقت معيارين اثنين لما ستكون عليه المؤسسة، الأول: أنه يجب أن لا يكون لها مثيل في نيويورك والعالم، وهذا ليس معيارا سهلا مع وجود 1200 مؤسسة ثقافية في مدينة نيويورك فقط.
ويبدو المبنى مستوحى من المستقبل كمدرج مطار يتحول إلى منصة تطفو في الهواء الطلق، فأي مقاطعة جديدة هدفها استقطاب الناس حول العالم تحتاج إلى معالم مماثلة، فهي تجعل المدينة متميزة وحضارية دون أن تكون مقسمة، وهي ما يفتخر به كل العاملين بهدسون يارد.
فمبنى “ذا شيد” يستطيع تلبية متطلبات متعددة، وإقامة المعارض أو الحفلات كل على حدة أو في الوقت نفسه، بهدف توفير مساحة ومنصة لكل أنواع الفنون، إنه موطن الحضارة في القرن الـ21 أو على الأقل، هذا هو الهدف منه.
متحف ويتني.. “الفن لا يحدث بمعزل عن الحياة، بل إنه جزء منها”
بدأت إعادة إحياء الجهة الغربية لمانهاتن من ضاحية مين باكينغ التي تقع على بعد حوالي كيلومترين جنوبي هدسون يارد، وتغيرت الضاحية القديمة وتحولت متاجرها ومسالخها القديمة إلى أستوديوهات للفنانين ومعارض للتصميم والموضة، حتى أصبح موقع مين باكينغ القديم، ملفتا للنظر.
وعن هذا الموقع، يقول “رينزو بيانو”، وهو مؤسس وصاحب شركة هندسة معمارية: حين أتيت إلى هنا، قلت: ممتاز، هذا هو المكان، ولكن كان في فوضى عارمة، فسوق اللحوم كان موجودا ورائحتها تعبق في المكان، وفجأة لمحت تلك اللافتة المكتوب عليها “للإيجار”، وقررنا استئجار هذا المكان ليكون مكتبا لنا في هذه المنطقة.
ويقع مدخل حديقة هاي لاين مقابل مدخل المكتب الذي استأجره “رينزو بيانو”، ويقع خلفه تماما متحف “ويتني” للفن الأميركي، المبني على أعمدة كقارب على رصيف عائم، متحف يشبه السفينة وله العديد من الهياكل الصلبة، والجسور والشرفات الخلابة.
ويقول مدير متحف ويتني للفن الأمريكي: عندما عملنا مع “رينزو بيانو” أخبرناه أننا نريد مبنى ينظر الناس إليه ويرون ما يحدث بداخله، وأن يكون لديهم إحساس بالفن المرتبط بالحياة والحياة المرتبطة بالفن، عندما تكون في أحد المعارض، غالبا ما تنظر إلى تحفة فنية وتربطها بالمدينة، وتفهم أن الفن لا يحدث بمعزل عن الحياة، بل إنه جزء منها.
ويدخل في تصميم متحف ويتني كل ما تود المؤسسات الثقافية في الحقبة الرقمية بالحصول عليه، منصة تعرض كافة الأشكال الحضارية الممكنة، من معارض وأفلام ومسرحيات ومحاضرات وعروض، إنه متحف يتخطى التوقعات، ومكان تندمج فيه ببساطة، ويمكن القول إن هذا المفهوم، وهذا المكان قد اتخذا نموذجا لمبنى “ذا شيد” في هدسون يارد.
وتربط 3 جسور خلابة مانهاتن بمدينة بروكلين، وهو المكان الذي انتقل إليه الفنانون نهاية القرن العشرين، فقد انتقلوا أولا إلى الجانب الآخر من النهر الشرقي، ثم إلى حي ويليامز بيرغ الشهير، لكن مؤخرا غابت كافة أنشطة الفن المعاصر بالكامل عن مانهاتن.
وفي نهاية القرن العشرين تولى معرض الفن الحديث، إدارة معرض “بي أس 1″، وهذا الفن كان يعرض في مدرسة ابتدائية سابقة، ويجري الافتتاح كل عامين في الربيع، حيث يحضر الفنانون المعاصرون فقط، المشهورون منهم والأقل شهرة، وتكمن رؤية أمناء المعرض إلى إعادة الفن والفنانين لمانهاتن، وليس لإقامة معارض فنية مبهرة فحسب، بل لجعل المتحف مكانا فنيا نابضا بالحياة وهذا هو حال الجهة الغربية للمدينة، ولهذا فإن اختيار مكان إقامة متحف ويتني لم يكن بالصدفة.
وفي الحقبة الرقمية تجد الأناقة والكمال في كل مكان، لذلك فالأماكن العملية المناسبة للجميع هي كل ما يهم. وتتميز مانهاتن عن باقي المدن بالتنوع الهائل في الحياة اليومية والكثافة والعمق، فعدد من الثقافات والجذور تجتمع معا، في بضعة أميال مربعة. وهذا جزء أساسي من مفهوم مدن القرن الـ21.
كلية الطب.. تصميم استثنائي لبداية جديدة
يمتد مشروع هدسون يارد من الطرف الجنوبي لمانهاتن، عبر ضاحية ميت باكينغ وعلى طول نهر هدسون، وإذ اتجهنا شمالا نصل إلى وست هارلم التي وضعت فيها أهم جامعة في نيويورك خطة أساسية للقرن الـ21.
تقول المهندسة “ليز ديلر”: كان موقع الجامعة غير فعال، ويفتقر إلى المساحات الواسعة، لذا قررنا تحويله إلى شيء منتج، ولكن كيف نحول هذا المكان العامودي ونضيف إليه ضعف علوه ونزيد من مساحته، وتكون جميع أجزائه متصلة ببعضها، ولهذا أردنا بناء مبنى يتمتع بخصائص ومساحات مختلفة متصلة بهذه الشبكة العامودية ليكون المكان الأكثر راحة في أي وقت.
والجامعات اليوم منخرطة في منافسة عالمية، من أجل جذب أفضل العقول وتأمين البيئة المناسبة للتعاقد مع أفضل الأساتذة، والأساتذة الأكفاء غالبا ما ينجذبون إلى المؤسسات المعاصرة التي تتمتع بمنشآت حديثة. وتصميم “ليز ديلر” لكلية الطب يوحي ببداية جديدة، فالعلم عملية تبادل معرفي مستمر في بيئة مخصصة تماما لهذه الغاية.
ويأتي التقدم من العلوم كالعلاجات والأدوية الجديدة، وهذا يتطلب تكنولوجيا وأنظمة قد تكون موجودة في أحد طوابق هدسون يارد، ويشكل قرب المواقع من بعضها ميزة تنافسية، وهذا ينعكس إيجابا على الاقتصاد والحضارة، وبالتالي على مستقبل المدينة برمتها.
وكان تصميم فريق “ليز ديلر” أول تصميم للمباني الجديدة لجامعة كولومبيا، ويبنى حرم الجامعة الجديد على بعد 4 كيلومترات جنوبا قرب هدسون وعلى موقع صناعي قديم، ففي الماضي كان يُنتج الحليب في هذا الموقع لمانهاتن، ويوزع بواسطة القطارات، غير أن المهندس “رينزو بيانو” رسم خطة للحرم الجامعي والمباني الثلاثة الأولى.
مانهاتن فيل.. أصغر حرم جامعي بالعالم
تحتل كلية علم الأعصاب أغلب مساحة الجامعة، أما المنتدى فيقع عند مدخل الحرم الجامعي، وعلى يمين كلية العلوم، صمم مبنى كلية الفنون. ويقول “رينزو بيانو”: لربما كان هذا الحرم الجامعي الأصغر بالعالم في الوقت الحالي، وهذا الحرم في وست هارلم يتضمن ما نسميه بالنظرة الإنسانية للعالم، ليس عليك التكلم بلغة التاريخ لتكسب ثقة الناس، يمكنك صناعة الفخر بطريقة مختلفة، يمكنك مثلا خلق إحساس بالانتماء والشفافية والإشراق أو غيرها، أحب أن أسميها المصنع النظيف، لأنه مصنع لا يلوث بل يصنع الأفكار.
افتتح المنتدى الجديد في خريف 2018، ويستقبل فعاليات ومناقشات حول مواضيع علمية واجتماعية، متعلقة بالقرن الـ21. ويستقبل رئيس الجامعة -إلى جانب “بيانو”- حاملي جوائز نوبل، ليكونوا مرشدين لبرامج الأبحاث العلمية.
وعلى غرار الجامعات الإغريقية، تهدف جامعة “كولومبيا” الجديدة إلى أن تكون مركزا فكريا للشعب وتكون جامعتهم، وينصب اهتمامهم في الحرم الجامعي على التغيير والتطلع للمستقبل.
ويقول “لي بولينغز”، رئيس جامعة كولومبيا: أردنا في حرم جامعة مانهاتن أن نعكس الصورة التي نرى من خلالها عالمنا اليوم، وهذا يعني شعورا متزايدا بالاندماج في المجتمعات المحيطة، وتنتشر المحال في الطابق الأرضي على طول شارع برودواي 125، ولن تكون هناك بوابات، وسيرحب بالأشخاص داخل المساحات العامة في الطابق الأرضي والطوابق الأخرى للمبنى.
جامعة كولومبيا.. جزء لا يتجزأ من المدينة والمجتمع
وتهدف جامعة كولومبيا إلى أن تكون جزءا لا يتجزأ من المدينة والمجتمع، وتؤدي الهندسة المعمارية دورا هاما في تحقيق ذلك، ويجب جعل المعرفة متاحة أمام الجميع، لتذكيرنا بمدى أهميتها إذا أردنا مواجهة التحديات، وقد يكون مفاجئا أن تكون أكاديمية الفنون إحدى ركائز الجامعة الجديدة، لكن الأكيد أن ثمة منطلقا واضحا من وراء ذلك وخطة ملموسة للمستقبل.
وتقول “كارول بيكر” عميد كلية الفنون في جامعة كولومبيا: إن هذا المبنى كان بمثابة الحلم لنا، هذا هو المبنى المثالي ويعود الفضل بذلك إلى العلاقة التي أقمناها مع المهندسين والاهتمام بالتفاصيل، ولأنه صغير الحجم ولم نكن نريد إهدار أي شبر منه، وكانت النتيجة رائعة، إنشاء مبنى خاص لكلية الفنون ومعرض للفنون عند مدخل الحرم الجامعي يشجع العامة على الدخول والانضمام لجامعة كولومبيا، فالاتجاه السائد اليوم يؤكد أن الحواجز بين العلوم انتهت نهائيا.
صحيح أن المبنى صغير، ولكن الرؤية التي تكمن خلفه هائلة، فهي تتمثل في تعزيز الإبداع في جميع الاتجاهات والأنظمة، وجعل كل شيء جاهزا للإجابة عن الأسئلة التي تطرح بإلحاح حول القرن الـ21.
ويقول “دانييل لويس دوكتوروف”، المؤسس والمدير التنفيذي لشركة “سايدووك لابس”: المدينة العظيمة لا تكتمل أبدا، بل تتطور باستمرار، وهي منصة للابتكار والتغيير، لا يمكننا النظر إلى الخلف، وتكون صلبا في تعاملك مع الماضي، عليك استعمال الماضي كميزة تفاعلية لرسم المستقبل، وعليك أيضا أن تكون قادرا على التكيف وتشجيع التغيير.