مسبار باركر.. أول سفراء الحضارة البشرية إلى عالم النجوم

يمان الشريف
يرمز الصفر المطلق في الديناميكا الحرارية إلى تلك النقطة القصوى في البرودة التي لا يمكن لأي مادة تجاوزها، وهو الحد الأدنى من درجة الحرارة في الكون، ويعد العالم البريطاني “لورد كيلفن” أول من حدد قيمة الصفر المطلق وفق مقياس درجة الحرارة المئوية في عام 1848، وقد بلغت 273.15 درجة مئوية سالبة.
لقد تمكن العلماء من إيجاد هذه القيمة بالاعتماد على العلاقة الطردية التي تتمثل بدرجة حرارة غاز ما وقوة الضغط المؤثرة عليه. وعلى مستوى ذرات الغاز، فإنها تكون في أقل مستوى طاقة لها في مثل هذه الظروف، وبالتالي تكون سرعتها في أدنى مستوياتها على الإطلاق.
والأمر لا يبدو بالسهولة ذاتها إذا ما بحثنا عن الطرف الآخر من الخيط، حيث تكون ذرات الغاز في أعلى مستويات السرعة والطاقة، ذلك لكي نصل إلى أعلى درجة حرارة ممكنة.
إن الحديث عن أشد درجة حرارة في الكون لا يبدو منطقيا هنا، لأنّه ما من عقبات تمنع الذرات من الحركة السريعة، على الرغم من فرضيات تقترح سقفا لدرجة الحرارة القصوى التي تبلغ 140 نونيليون درجة مئوية، والنونيليون يعادل 10 مرفوعة للقوة 30. 1
والرقم يبدو كبيرا بلا شك، ويبقى فرضيا وفق حساباتنا وملاحظاتنا عن الأجرام السماوية، وبالحديث عما جرى رصده، فإنّ الكون الفسيح يحمل بين جنباته ما يذهل العقل ويذهبه، لكن المفاجأة الكبرى هي أقرب لنا من ما نتصوره.
فقد تمكن مؤخرا مصادم الهادرونات الكبير “سرن” (CERN) في إحدى تجاربه من الوصول إلى أعلى درجة حرارة مسجلة على الإطلاق، إذ بلغت 5.4 ترليونات درجة مئوية، وهذه أشد حرارة من مركز الشمس بـ366 ألف مرّة.2
إن التعامل مع درجات حرارة عالية جدا كهذه يضعنا أمام تحدٍ كبير، فلطالما كان اكتشاف الفضاء إحدى أولويات البشرية منذ الأزل، وباعتبار أن الشمس هي مركز مجموعتنا الشمسية، فهل حان الأوان لنخطو خطوة حقيقة ونقترب أكثر إلى نجمتنا المفضلة حيث لم يقترب كائن قط. وهذا ما سيجيب عنه مسبار “باركر” في رحلة نضاله أمام ألسنة الشمس الملتهبة.
“غاليليو غاليلي”.. مرقاب يفضح ندوب الشمس الداكنة
إنّ الشمس بلا شك تدير منهج الكائنات الحية على كوكب الأرض، فحياة مجمل المخلوقات محكومة بموعد شروق الشمس وغروبها، كما أنّها المصدر الأوحد لإمداد الكوكب بالطاقة والضوء، فحضورها دائما معلق في الأذهان، إلا أن فجوة معرفية كبيرة تفصل بيننا، وهذا ما سعى إليه علماء الفلك القدامى لتقليص هذه الفجوة، وكان التلسكوب خير أداة للقيام بهذه المهمة.
ظهر التلسكوب في عام 1609 في القارة العجوز أوروبا، وكان العالم الإيطالي “غاليليو غاليلي” أول من استخدمه لغرض مراقبة الأجرام السماوية، لا سيما الجرم السماوي الأهم والأسطع الشمس. لقد لاحظ “غاليلو” وجود ندوب سوداء على سطح الشمس، وعزز اكتشافه الفلكي الألماني “يوهانس فابريكوس” برصده لهذه الظاهرة الشمسية ثم كتب عن هذه البقع الداكنة في عام 1611 على نحو مفصل، ولاحقا سميت هذه البقع بالكلف الشمسية (Sunspots)، وتظهر بشكل دوري مستمر.3

لقد كان ظهور المرقاب “التلسكوب” أحد أعظم المحطات المفصلية في تاريخ علم الفلك، وقد حققت البشرية بفضله استفادة عظيمة، فطبقات الغلاف الجوي للشمس هي من أبرز الاكتشافات المباشرة التي وقعت بواسطة استخدام التلسكوب.
فعند حدوث ظاهرة الكسوف، يغطي القمر قرصَ الشمس، فيُحجب الجزء المضيء الأكثر سطوعا لتتاح الفرصة لرصد خيوط مشعة فوق بنفسجية تشبه الأنسجة المتطايرة تحيط بالشمس، ولا يمكن رؤيتها إلا بواسطة تلسكوبات ذات خصائص معينة.
مراقبة من خارج الغلاف الجوي.. رؤية النجم كما هو
تحتل عملية الرصد عن بعد جزءا كبيرا من إرثنا العلمي، ولكن في نقطة ما سيدرك الإنسان أهمية الذهاب والتحقق بنفسه أو استخدام من ينوب عنه، سواء كان ذلك إلى سطح القمر أو المريخ أو حتى الشمس، مع أخذنا بالاعتبار العقبات التي تحول بيننا وبين الوصول إلى نجم المجموعة الشمسية، وأبرز تلك العوائق هي: الحرارة المرتفعة وبئر الجاذبية العميق وتأثير حزم البلازما المتأيّنة المتطايرة مع الرياح الشمسية.
ومع بداية عصر الفضاء، فُتِحت آفاق جديدة للتعرف على الشمس عن قرب، لأن التلسكوبات المتمركزة على الأرض مهما بلغت كفاءتها، ستواجه عقبة الغلاف الجوي للأرض الذي يعمل مُنقيّا لجميع الأشعة القادمة من الشمس.

لذا كان خيار مراقبة الشمس من خارج الغلاف الجوي قرارا هاما لعلماء الفلك، وشهدت حقبة الستينيات إلى منتصف السبعينيات من القرن الماضي إرسال 8 أقمار صناعية ضمن برنامج “المرصد الشمسي المداري” (Orbiting Solar Observatory) برعاية وكالة الفضاء الأمريكية ناسا.
وقد كانت تلك هي المرّة الأولى التي ترصد بها الأشعة السينية (X-rays) التي لا تملك القدرة على اختراق الغلاف الجوي والوصول إلينا، كما رصدت أشعة غاما (Gamma) المنبعثة من الانفعالات النووية عبر التأججات الشمسية (Solar Flares) باستخدام جهاز “مرسام الإكليل” (Coronagraph) المخصص لحجب أشعة الشمس المرئية وإظهار “الهالة الشمسية” أو كما يصفها الفلكيون بـ”الإكليل الشمسي” (Corona).
وفي وقت لاحق من عام 1973 استطاعت الولايات المتحدة الأمريكية إرسال وإرساء محطة الفضاء “سكاي لاب” (Sky Lab) العائمة لتكون ورشة عمل هي الأولى من نوعها، وقد استطاع رواد الفضاء في المحطة التحقق من وجود “الثقوب الإكليلية” (Corona Holes) في الغلاف الجوي للشمس، وهي تعد مصدرا للرياح الشمسية القادمة بسرعات عالية والمسؤولة عن الاضطرابات المغناطيسية الأرضية.
كما أنّ اليابان هي الأخرى كان لها بصمتها في هذا المضمار العلمي، إذ نفذت عمليتين ناجحتين للغاية بإرسال قمرين اصطناعين هما “هينوتوري” (Hinotori) و”يوهكوه” (Yohkoh) في عامي 1981-1991، وكان من نتائج المراقبة الفلكية رصد سحابة شديدة الحرارة تتراوح درجتها بين 30-40 مليون درجة مئوية ناتجة من التوهجات الشمسية، وهي أول حالة رصد من نوعها، كما أنّ القمر الصناعي “يوهكوه” تمكن من التقاط عدة صور متتالية لطيف الأشعة “السينية الضعيفة” (Soft X-ray) في أثناء لحظة فوران الشمس، منتجة لوحة فنيّة علمية هامة للغاية.4
قوانين الميكانيكا المدارية.. بوابة التحليق إلى قطب الشمس
إن علم الميكانيكا المدارية (Orbital Mechanics) الذي صاغ لبناته العالم الألماني “يوهانس كيبلر” بقوانينه الشهيرة الثلاثة لتفسير حركة الكواكب، يستلزم بالضرورة وجود مدار أو مسار لأي جسم فلكي سابح في الفضاء، على أن يتأثر هذا المسار بجاذبية الأجرام السماوية الأخرى بالقرب منه.
وفي عصر التنقيب في الفضاء، منحت قوانين الميكانيكا المدارية الفرصة لمهندسي الفلك لاستبدال الأجرام السماوية بالأقمار الصناعية بتحديد مدارات لها وفق ما تقتضيه الحاجة، سواء لغرض مراقبة الأرض أو أي جسم آخر. وإنّ جميع ما سبق ذكره من الرحلات الفضائية كان ضمن نطاق الفضاء القريب للأرض، وهو ما يطلق عليه المدارات الأرضية (Geocentric Orbits).

أما المدارات الشمسية (Heliocentric Orbits)، فلم تكن شائعة في الرحلات الفضائية الأولى حين كانت تتطلب طاقة أكبر (وقود)، لكن بين عامي 1975-1985 أرسلت وكالة الفضاء الألمانية بمشاركة وكالة “ناسا” مسبارين بمدار حول الشمس على الرغم من الأخطار المجهولة.
ولاحقا أقدمت وكالة الفضاء الأوروبية “إيسا” (European Space Agency) في عام 1990 على إرسال المسبار الفضائي “أوليسس” في مدار حول قطبي الشمس مستغرقا قرابة 5 سنوات لإتمام كلّ دورة، وكانت أدنى نقطة التقاء تبعد 200 مليون كيلومتر عن الشمس.5
لقد مثّلت هذه البعثات الفضائية حجر الزاوية الذي بنت عليه رحلات الفضاء اللاحقة نحو الشمس ركائزها المعرفية والعلمية، سواء كان ذلك بدراسة المدار حول الشمس أو بالتحقق من مدى قدرة تحمّل المواد المكوّنة للأقمار الصناعية.
وخلال العقود التالية، زاد عدد الرحلات ذات المدارات الشمسية التي تتيح الفرصة للاقتراب من نجم المجموعة الشمسية الضخم أكثر مع توخي حذر فشل المهمة، إلى أن ظهر أخيرا الأعجوبة الهندسية مسبار “باركر”.
غلاف الشمس.. درجات حرارة الجحيم المتقلبة
لعلها فكرة انتحارية أن تلقي بنفسك إلى الجحيم، بمحض إرادتك، ويكون الأمر جنونيا أكثر حينما تدرك مدى سوء هذا الجحيم وتعزم على هذا الفعل، ورحلة “مسبار باركر الشمسي” (Parker Solar Probe) ليست سوى إحدى تلك اللحظات الجنونية في عالم الهندسة التي تهدف إلى الذهاب إلى الشمس، وهي الجحيم بعينه.
إنّ خطة الذهاب تعتمد بشكل أساسي على الاقتراب من الشمس بأكبر قدر ممكن وفق ما توصلنا إليه من تكنولوجيا، وبنظرة سريعة على تركيبة الشمس يمكننا تدارك مدى صعوبة المهمة، فربما ليست شمسنا من ضمن أعظم النجوم في الكون، لكنها بالنسبة لكوكب الأرض فهي بلا شك كبيرة للغاية، إذ أنّ حجمها قادر على استيعاب 1.3 مليون كوكب بحجم الأرض، فضلا عن كتلتها الضخمة التي تصنع حقل جاذبية يمكنها من إحكام قبضتها على جميع كواكب المجموعة الشمسية.

وتولّد الشمس الطاقة الحرارية والضوئية عبر التفاعلات النووية المستمرة منذ ملايين السنين، وتصل حرارة اللب إلى 15 مليون درجة مئوية، وكلما ابتعدنا عن المركز نقصت الحرارة كما لو أننا نبتعد عن المدفأة حتى نصل إلى السطح الذي يبعد عن المركز قرابة 696 ألف كيلومتر، وتبلغ درجة حرارته 6000 درجة مئوية.
وكحال الأجرام السماوية الأخرى، فإنّ للشمس غلافا جوّيا يحيط بها ويمتد إلى مسافات شاسعة، ومما أثار حيرة علماء الفلك هنا وخلق معضلة حقيقية امتدت لعقود طويلة هو أنّ درجة الحرارة في الغلاف الجوي الخارجي “الإكليل الشمسي” (Corona) تقفز فجأة إلى أرقام مهولة، قد تصل إلى 3 مليون درجة مئوية، وهي أضعاف درجة حرارة السطح.
وهذا ما دفع عالم الفلك السويدي “هانس ألفان” عام 1942 إلى وضع فرضيته التي تنص على أنّ موجات بلازمية ممغنطة قادرة على النفاذ من قلب الشمس حاملة طاقة هائلة عبر ما يعرف بأنابيب التدفق المغناطيسي التي تظهر على البقع السوداء، فتصل إلى الغلاف الجوي الخارجي بعد أن تقطع مسافات كبيرة، ثمّ تنفجر هناك، فيكون بذلك تفاوت كبير بين درجة حرارة السطح والغلاف الجوي.6
ويكمن التحدي الأكبر هنا في عملية تجاوز هذه الظروف القاهرة وسط تدفق حراري عظيم.
“إننا ذاهبون لنلمس الشمس”.. مسبار باركر
في الثاني عشر أغسطس/آب عام 2018، أرسلت وكالة ناسا الفضائية أعجوبتها الهندسية مسبار “باركر” في رحلة طويلة في مدار فلكي حول الشمس، حيث سيقترب المسبار إلى نقطة لم تصلها يد بشري مطلقا من قبل، وبتعبير آخر كما يحلو للمسؤولين على الرحلة أن يقولوا: إننا ذاهبون لنلمس الشمس.
إن الأولوية لرحلة “باركر” هي دراسة الطبقة الخارجية من الغلاف الجوي للشمس، وتعرف بطبقة “الإكليل” (Corona)، وذلك لحماية الحضارة البشرية على الأرض التي باتت تعتمد بشكل كامل على التطور التقني الذي يوجد تحت طائلة الخطر، بفعل تهديدات التفاعلات الشمسية المستمرة.

ويمكن اختصار الأهداف العلمية لمسبار “باركر” في ثلاثة نقاط رئيسة، وفق ما أعلنته وكالة الفضاء الأمريكية ناسا، وهي:
· تتبع تدفق الطاقة التي تُسخّن طبقة الإكليل الجوية، وتُسرّع الرياح الشمسية (Solar Winds).
· تحديد الشكل الهيكلي والديناميكي للبلازما وللمجالات المغناطيسية عند مصدر إنتاج الرياح الشمسية.
· استكشاف الآليات التي تعمل على تسريع ونقل الجسيمات النشطة (Energetic Particles).
وبواسطة صاروخ “دلتا 4 الثقيل” (Delta IV Heavy)، تمكن المسبار الصغير من الهروب من جاذبية الأرض منطلقا باتجاه الشمس.
المقلاع الجاذبي.. توليد السرعة من حقل جاذبية الزهرة
حدد مهندسو مسبار “باركر” الطريقة المثيرة للاقتراب من الشمس على نحو متصاعد، في رحلة تستغرق 7 سنوات قبل أن يستقر في مداره.
يعتمد المسبار في تحديد وتوجيه مداره على كوكب الزهرة في خاصية فلكية يُطلق عليها “المقلاع الجاذبيّ” أو الجاذبية المساعدة (Gravity Assist Slingshot)، إذ يستعين الجسم بحقل جاذبية جرم سماوي ما لتغيير الاتجاه أو كسب سرعة إضافية للجسم.

وفي نهاية المطاف أي في عام 2025، سيستقر مدار المسبار في نطاق ما بين الشمس ومدار كوكب عُطارد، أقرب الكواكب إلى الشمس، وتعد هذه المسافة أقرب بسبع مرات من أي مسافة وصلت إليها مركبة فضائية حلّقت بالقرب من الشمس.
كما أنّ فترة المدار (Orbit Period) ستستغرق 88 يوما فقط في لفة كاملة حول الشمس، وهذا يتطلب سرعة عالية للغاية.
نطاق السرعة الفائقة.. مسبار يحطم رقمه القياسي
إن قانون “كيبلر” الثاني يشير بشكل أو بآخر إلى أنّ الكواكب تكون في سرعتها القصوى عندما تكون في أقرب نقطة لها من الشمس، وذات الأمر ينطبق على الأقمار الصناعية، إذ تعزز جاذبية الشمس سرعة القمر الصناعي عند اقترابه إليها، وهو ما ساعد مسبار “باركر” في تحطيم رقم قياسي في أقصى سرعة وصلها الإنسان.
وعبر تغريدة لصفحة ناسا على منصة تويتر في شهر نوفمبر/تشرين الثاني 2021، عبّرت وكالة الفضاء عن سعادتها بتحطيم المسبار لرقم مسجل كان باسمه كذلك، إذ بلغت سرعته نحو 532 ألف كيلومتر في الساعة، أي 147 كيلومتر في الثانية، وهو نطاق السرعة الفائقة (Hypersonic). وذلك على مسافة 10.4 مليون كيلومتر تفصل المسبار عن سطح الشمس.7
اختراق أسوار الشمس المشتعلة.. أسرار الدرع الحراري
ذكرنا آنفا أنّ درجة الحرارة ترتفع بشكل جنوني في الغلاف الجوي، وتصل إلى مليون درجة مئوية، والطريقة الوحيدة لتجاوز هذه العقبة تمكن في الدرع الحراري المخصص (Custom Heat Shield)، وأيضا بالنظام الآلي المستقل الذي يساعد على حماية المركبة من انبعاثات الأشعة الشمسية الشديدة.
وإذا ما تساءلنا كيف لا يذوب المسبار في مثل هذه الظروف، فإنّ “ناسا” تجيب كالآتي، علينا في البداية أن نميّز بين الحرارة/السخونة (Heat) ودرجة الحرارة (Temperature)، فعلى سبيل المثال وخلافا لما هو متوقع، لا يشترط بالضرورة أن تؤدي درجات الحرارة المرتفعة إلى تسخين الجسم.
ولتبسيط الفكرة أكثر، فإن “درجة الحرارة” ترتبط بسرعة تدفق الجزيئات، بينما “الحرارة” تكون معنية بمقدار الطاقة الإجمالي التي تستطيع هذه الجزيئات نقلها. فعلى سبيل المثال، قد تسير الجزيئات بسرعات عالية -أي درجة حرارة مرتفعة-، لكن بكميات قليلة -أي حرارة منخفضة-.
ونظرا إلى أن الفضاء شبه فارغ، فإنّ ثمة عددا قليلا من الجسيمات القادرة على نقل الطاقة الحرارية إلى المركبة مهما بلغت درجة حرارتها.

ووفقا لدراسات حثيثة، وجد علماء الفلك أن كثافة الغلاف الجوي للشمس تُعد ضئيلة، وأنّ المسبار “باركر” في ظل هذه ارتفاع درجة الحرارة إلى عدة ملايين، سيتعرض الدرع الحراري الذي يواجه الشمس إلى “عملية تسخين” ينتج عنها ارتفاع درجة حرارة الدرع إلى حدٍ أقصاه 1400 درجة مئوية.
الدرع الحراري.. قربان أمام فوهة جهنم
يكمن نجاح المهمة الفضائية في الدرع الواقي الذي قدّم نفسه قربانا أمام فوهة البندقية، دون إجحاف بحق المهندسين والعلماء الذين عملوا على تطوير المدار الميكانيكي والنظام الكهربائي وغير ذلك.
يستخدم المسبار درعا حراريا يتمتع بخاصية النظام الحراري الواقي (Thermal Protection System) بنصف قطر يعادل 2.4 متر، وسماكة تصل إلى 115 مليمتر. وهذه السماكة كفيلة بأن تمنح بيئة ملائمة في الجانب الآخر لعمل بقية الأجهزة الإلكترونية بدرجة حرارة تبلغ 30 درجة مئوية، بغض النظر عن درجة الحرارة في الخارج.
وقد صمم الدرع الحراري في مختبر “جونز هوبكينز للفيزياء التطبيقية” بالاستعانة بآلية “تقنيات الكربون-الكربون المتقدمة” (Carbon-Carbon Advanced Technologies) وباستخدام رغوة الكربون المركبة محصورة بين لوحتين من الكربون، بالإضافة إلى لمسة نهائية من طلاء السيراميك الأبيض على اللوح المواجه للشمس ليعكس أكبر قدر ممكن من الحرارة، ومن شأن ذلك أن يمنح عزلا ملائما وبوزن لا يكاد يُذكر.
إنّ هذه التركيبة الخاصة قادرة على تحمل درجة حرارة تصل إلى 1377 درجة مئوية، كما أنّ نظام التبريد داخل المركبة الذاتي يمنح استقرارا لجميع القطع الكهربائي لتعمل بشكل سليم.8
إن البشرية قد لمست الشمس”
في سابقة تاريخية، وعلى لسان “نيكولا فوكس”، مدير قسم الفيزياء الشمسية في ناسا، أعلن للملأ قبل أيام معدودة، بالتحديد في الرابع عشر ديسمبر/تشرين الأول 2021، إلى أننا أخيرا وصلنا، ثمّ أردف قائلا: إن البشرية قد لمست الشمس.9

وعلى الرغم من أنّ الحدث قد وقع قبل عدة شهور في منتصف شهر أبريل/نيسان، لم يكن الإعلان إلا حديثا، لكن هذا لم يمنع الاحتفالات الواسعة التي شهدتها مواقع التواصل الاجتماعية بهذا الخبر الذي يمثّل قفزة عريضة في قدرة الإنسان على الاكتشاف والتقدم.
إننا أمام أعجوبة هندسية تنبئ بمستقبل جديد لنظرتنا عن الشمس، ومما لا شك به، أن مسبار “باركر” سيطرح أسئلة أكثر من التي سيجيب عليها.
المصادر:
[1] جريتون، جوليني (2015). العلم يشرح: ماهي أقصى درجة حرارة ممكنة؟. تم الاسترداد من: https://futurism.com/science-explained-hottest-possible-temperature
[2] وينز، جون (2017). 12 شيء من أشد حرارة في الوجود. تم الاسترداد من: https://www.popularmechanics.com/science/g3127/welcome-to-summer/
[3] محررو الموقع (التاريخ غير معروف). البقع الشمسية. تم الاسترداد من: http://galileo.rice.edu/sci/observations/sunspots.html
[6] زيرين، هارهولد (التاريخ غير معروف). الشمس: تاريخ الرصد. تم الاسترداد من: https://www.britannica.com/place/Sun/History-of-observation
[5] آصف، صيدقي (2018). أوليسس. تم الاسترداد من: https://solarsystem.nasa.gov/missions/ulysses/in-depth/
[6] كورسوس، ماريانا (2021). لماذا غلاف الشمس الجوي أشد حرارة من سطحها؟. تم الاسترداد من: https://earthsky.org/sun/why-suns-atmosphere-hotter-than-its-surface/
[7] هويل، إليزابيث (2021). حطم مسبار باركر الشمسي فائق السرعة التابع لناسا الرقم القياسي في السرعة بالقرب من الشمس. تم الاسترداد من: https://www.space.com/parker-solar-probe-sun-speed-record-november-2021
[8] دارلينج، سوسناه (2018). السفر نحو الشمس: لماذا لا يذوب المسبار الشمسي باركر؟. تم الاسترداد من: https://www.nasa.gov/feature/goddard/2018/traveling-to-the-sun-why-won-t-parker-solar-probe-melt
[9] وايتز، ألكساندرا (2021). ناسا “تلمس” الشمس للمرة الأولى. تم الاسترداد من: https://www.nature.com/articles/d41586-021-03751-5