“إنقاذ البندقية”.. أخطار تتهدد آخر ما بقي من فخر المدائن البيزنطية

خاص-الوثائقية

البيوت النابتة من الماء، والقوارب التي تتهادى أو تبحر مسرعة في قنوات الماء والمركبات التي نراها تنتظم في مسارات على طرقات المدن.. أجواء جعلت مدينة البندقية (فينيسيا) الإيطالية، واحدة من أشهر المدن الجاذبة للسياحة في العالم.

لكن خلف هذا الجمال والفرادة في تصميم المدينة وجه آخر، وجه مدهش لعالم ما تحت الماء الذي يحمل هذه المدينة، مدهش في حقائقه العلمية ومعارك العلماء مع الطبيعة وتفاعلاتها مع أساسات المدينة. وبقدر الخوف الذي يخلفه هذا التفاعل، فإنه يزيد من روعة المدينة وعظمة بنائها، منذ كانت فكرة ولادة لبناتها في القديم إلى معركة أبنائها اليوم للحفاظ عليها.

 

فيلم “إنقاذ البندقية” الذي بثته قناة الجزيرة الوثائقية، يصطحبك في رحلة تاريخية وعلمية ومعرفية تزيد من دهشتك وانبهارك بمدينة البندقية وعالميها العلوي والسفلي.

زهرة أعظم إمبراطورية بحرية.. تقنيات ثورية

البندقية زهرة جديدة، كانت على رأس أعظم إمبراطورية بحرية، أما الآن فهي موضع إعجاب الملايين من السياح، وأساس كل هذا الجمال إنجاز هائل للتكنولوجيا. فعندما أسست البندقية -أو كما يسمونها “لسرينسما” أي الهادئة- كان على بنائي المدينة ابتكار طرق جديدة للحفاظ على مدينتهم من الغرق.

تصنف البندقية كرابع أكثر المدن الأوروبية زيارة بمعدل 15 مليون زائر سنويا، لكنها تواجه اليوم أحد أكبر التحديات في تاريخها، وهو الاحتباس الحراري وانهيار المؤسسات والسياحة الجماعية، فالمدينة تتعرض للهجوم من جميع الجهات وهي مهددة بالغرق، إذ كل شيء في تسارع منذ الـ50 سنة الماضية.

البندقية هي رابع المدن الأوروبية مقصدا للسياح، حيث يزورها سنويا 15 مليون زائر

 

والبندقية مدينة إيطالية فريدة في تصميمها وتكوينها، وتحفة معمارية لا مثيل لها، حيث بنيت بأكملها على سطح الماء، وشهدت تاريخا حافلا زمن الإمبراطورية، مرورا بالحقب اللاحقة، وما زالت إلى يومنا هذا تزهو بجمالها الساحر، الذي يجذب ملايين السياح سنويا.

فقد بنيت البندقية بتقنيات ثورية في ذلك الوقت، لكنها اليوم مهددة بالغرق. وللحفاظ عليها لا بد من ابتكار طرق جديدة، فهي عرضة للملح والماء، وهما خطر بات يتسارع في الآونة الأخيرة، بسبب حركة المد والجزر وارتفاع الأمواج، بالإضافة لنشاط الإنسان المتزايد والمدمر لهذا الكنز الهش.

دفن مستنقعات البحيرة.. ملاذ آمن بين اليابسة والبحر

تقع البندقية في شمال إيطاليا، أعلى البحر الأدرياتيكي، حيث بنيت على حوض مائي ضخم يغطي أكثر من 322 كيلومترا مربعا، وهي خزان عملاق تختلط فيه مياه الأنهار العذبة ومياه البحر الأدرياتيكي المالحة. والبحيرة في الأصل مستنقع، وليست مكانا مثاليا لتأسيس مدينة قبل 1500 عام، حين استقر مجموعة من اللاجئين خوفا على حياتهم، وبنوا مدينة لا مثيل لها.

يقول المهندس المعماري “جيورجيو جيانيجيان”: إن أهل البندقية مجانين، لكنهم صنعوا معجزة، كيف استطاعوا بناء مدينة بلغ تعدادها السكاني 150 ألف نسمة في مثل هذا الموقع، مستخدمين مواد ثقيلة مثل الحجارة والطوب؟ إنها مهمة صعبة للغاية، لكنها الطريقة الوحيدة لتحويل موقع سيئ إلى عاصمة حقيقية خلال عصور النهضة.

بنيت البندقية على الماء، بعد إحاطته بجذوع الأشجار وتجفيفه ومن ثم البناء عليه

 

اكتسحت أتيلا وقبائل الهن أوروبا الوسطى، وبعد 100 عام اندفع السلاف من الشرق، وتقدم اللمبارديون نحو شمال إيطاليا، فخاف سكان إيطاليا على حياتهم بعد أن حاصرهم الغزاة، فلجأوا إلى البحيرة بحثا عن ملاذ آمن بين اليابسة والبحر، يحميهم من الفرسان البرابرة.

ولبناء بيوتهم وسط المستنقعات كان عليهم أن يفصلوا الأرض الجافة عن الماء، فاستخدموا لذلك تقنيات صانعي الملح القديمة بتجفيف المستنقعات، فاختاروا قطعا متجاورة من الأرض الجافة وغرسوا أوتادا خشبية في الطين لتحديد مواقع بنائهم، ثم حفروا قنوات لتصريف المياه، وبمجرد جفاف السطح قاموا بتسوية الأرض وصنع جزر صغيرة يمكن البناء عليها.

ويقول “جياليجيان”: لقد ملأوها بالنفايات الثقيلة من قطع الحجارة غير الصالحة للاستعمال وقاموا بضبطها، وكانت هذه هي الأرض التي بنوا عليها البندقية.

ومنذ بداية نشأتها في القرن الـ8 الميلادي وصولا إلى القرن الـ15 نمت البندقية، وأصبحت أرخبيلا صناعيا مكونا من 124 جزيرة، تتصل جميعا بقنوات، وتبلغ مساحة الأرخبيل 124 كيلومترا مربعا، وكل جزيرة مبنية على شكل حي من أحياء القرون الوسطى، وفيه كنيسة وساحة عامة محاطة بالبيوت.

غرس الأوتاد في الطين.. أركان بناء الحضارة المعمارية العظيمة

تعتبر قناة “جراند” شريان البندقية الرئيسي، وينتشر عليها ما يقرب من 400 قصر جعلتها الواجهة الأرستقراطية للبندقية.

وعن تقنية البناء على هذه القناة، يقول “جيانيجيان”: بدأ العمل ببناء جدار مائي بهدف حماية العمال الذين كانوا يجففون الماء ثم يغرسون الكثير من الأوتاد في التربة الطينية إلى أن تصطدم بالصخور الصلبة، فالطين يعمل على عزل الأوتاد عن الأوكسجين، مما يؤدي إلى تحجرها مع مرور الوقت، ولمنع تفكك الأساسات فوق القاعدة وضعوا طبقتين من الألواح الخشبية لتعزيز صلابة الأرض، وتوزيع ثقل المباني، ثم وضعوا عدة طبقات من الحجر المضغوط والمقاوم للماء، لكي يحمي من التسرب، وهي تقنيات ثورية في ذلك الوقت.

فعلى سبيل المثال، تقع ساحة سان ماركو في أدنى نقطة في الجزيرة، على ارتفاع 74 سم عن سطح البحر، لذلك يغمرها المد 130 مرة خلال العام.

“البازيليكا” أو القاعة الملكية هي أعجوبة الفن البيزنطي في البندقية

 

ومن أجل إنقاذ أعجوبة الفن البيزنطي “البازيليكا” (القاعة الملكية)، يقوم فريق ضخم من المهندسين المعماريين والمصممين والمرممين بالتصدي لتأثير الماء والملح اللذين يعملان على تآكل الأساسات.

وعن ذلك يقول “ماريو بيانا” كبير المهندسين المعمارين لكنيسة القديس مرقص: تُسبب المياه المالحة والعكرة أضرارا كبيرة، خاصة على الحجارة والقاعدة المصنوعة من الرخام، لأن المياه اخترقت العمود وتسببت بتشققات في قاعدة العمود، وهو ما نعمل على معالجته.

فسيفساء البازيليكا.. وحش الملح يلتهم لحية القديس مرقص

يهدد الماء فسيفساء البازيليكا التي تتجاوز مساحتها 15 ألف متر مربع، وتخضع هذه الأعمال لتدخلات جراحية بشكل دائم. ويقول “ماريو بيانا”: إن الفسيفساء تتحرك مع البناء، ومن الممكن أن يؤدي التبلور الملحي مع الزمن إلى انفصال بعض العناصر، ثم السقوط، ونحن نعمل على جمعها مرة أخرى وإدخال مادة التدعيم لملء الفراغات وإعادة الاستقرار.

يتم حقن الفسيفساء بمواد داعمة لإيقاف أثر الأملاح التي تأكل الجدران

 

ولا تبدو مهمة المرممين سهلة، فعليهم فحص الفسيفساء بدقة متناهية، والاستماع لأقل صوت، ثم يقومون بحقن المواد الداعمة بعناية، ويتطلب الأمر ما بين 20-30 حقنة لملء ثقب واحد، فهو عمل لا يتوقف ولا ينتهي، فالملح يصل إلى كل مكان حتى ارتفاع 40 مترا، وصولا إلى لحية القديس مرقص.

يقول “بيانا”: يتعرض الجزء السفلي بشكل مباشر لتأثير الماء، لكن حتى في الجزء العلوي يتعرض لرذاذ الماء الملحي الناتج عن الأمواج التي تصل إلى ارتفاعات عالية، وصولا إلى برج سان ماركو في أعلى البرج على ارتفاع 70 مترا.

تجاويف الطوب.. حشوات مسامية لصد سوسة الماء الفتاكة

في مختبرات البناء في البندقية يعمل فريق بحثي على إيجاد وصفة سحرية تجعل جميع الجدران مقاومة للماء. تقول “إليزابيتا زيندري” عالمة الكيمياء في جامعة كافوسكاري: تتكون جدران البندقية من الطوب المسامي بنسبة ٣٠%، أي أن هذه النسبة عبارة عن تجاويف يتخللها الماء والملح المتبلور بقوة ضغط عالية، لدرجة أنه يكسر ويفكك الحجارة.

مختبرات علمية تحضر حشوات مسامية لامتصاص بلورات الملح وحماية الطوب أسفل بناء البندقية

 

وتعمل “زيندري” على إيجاد حشوة مسامية تمتص بلورات الملح وحماية الطوب، وعندما تتآكل الحشوة يمكن استبدالها بأخرى، وهي عملية أرخص من استبدال الطوب، وتمزج “زيندري” الرمل مع صخور بركانية تسمى “بوزولان”.

وتقول “زيندري: لوضع الحشوة نضع طبقتين؛ إحداهما صغيرة المسام، مما يسهل عملية انتقال المحاليل الملحية إلى الخارج، نحو الطبقة الثانية كبيرة المسام، وهي قادرة على مقاومة الضغط الفيزيائي والميكانيكي أثناء التبلور.

هجوم البكتيريا.. آكلات الخشب المختبئة تحت الماء

يقول عالم الأحياء في معهد علوم البحار “ديفيد تاليابيترا”: ظهرت رخويات ذات صدفتين تحفر الأخشاب، وقد اكتشفت في عهد النهضة أثناء الاكتشافات الملاحية، وكان يطلق عليها اسم المشفرة، وهي محلية، لكننا اكتشفنا نوعا آخر جديدا، وهو استوائي شديد العدائية، وعلى الأغلب فإنها أتت من الهند والبحر الأحمر عن طريق القطع الخشبية المنجرفة عبر البحر، وظهرت في تركيا والبرتغال قبل سنوات، وهي اليوم في البندقية، وهي تأكل الأخشاب الطازجة الملامسة للمياه الجارية، ولا تأكل الأوتاد العالقة في الوحل، ولا تشكل خطرا على النسيج العمراني للبندقية.

وفي الآونة الأخيرة ظهر اكتشاف جديد وسط المدينة زعزع الثقة وأحدث قلقا في المجتمع العلمي، فقد هبط برج الجرس في البازيليكا فراري -أحد أجمل أبراج البندقية- بمقدار 60 سم خلال 600 عام، ويحاول فريق “ألبيرتو لايونيلو” المهندس الخبير في بناء الهياكل، معرفة السبب وراء ذلك.

برج الجرس في “البازيليكا فراري” يهبط في الطين مسافة 60 سم خلال 600 عام مما يهدد بقاءه مستقبلا

 

يقول “ألبيرتو”: هبط البرج لأنه ثقيل، ولأن التربة التحتية من الطين، وقدرة تحملها ضعيفة، ووجدنا مشكلة أخرى، وهي أن الأوتاد تحت البرج تعرضت للتلف، ووجدنا أحجار الأساس محفوظة، كذلك الألواح الخشبية المصنوعة من الأرز، لكن تحت تلك المادة وجدنا أعمدة من خشب “النغت” وكانت متضررة بسبب هجوم بكتيري، وهي تأكل الليغنن (السيليلوز) الذي يربط الألياف ببعضها، وهذا يجعل العمود يفقد وظيفته الهيكلية، وهذه البكتيريا تعيش بدون أوكسجين.

ضخامة السفن السياحية.. بطش الإنسان بأطلال التراث

إلى جانب كل الأخطار، يعد الإنسان عدوا شرها للبندقية، فنشاطه الدائم أدى إلى تدهور حال المدينة منذ نصف قرن، فالمدينة تستقبل نحو 27 مليون سائح سنويا، وفي بعض الأحيان يتجاوز عدد السائحين في موسم الذروة 100 ألف سائح في اليوم، بينما يعيش فيها 65 ألف نسمة.

كما تصل مجموعة من سفن “غراند نافي” الضخمة إلى شواطئها كل يوم، ويصل وزن السفينة 130 ألف طن، وارتفاعها 11 طابقا، وتزيح مئات آلاف الأطنان من المياه عند خروجها ودخولها، مما يضر بأساسات البندقية. وقد أدركت سلطات المدينة هذا الخطر، لذلك منعت السفن التي يزيد وزنها عن 100 ألف طن من الدخول إلى قلب المدينة، لكن هناك شكوك حول تطبيق هذه الإجراءات بسبب الرحلات السياحية.

الباخرات العملاقة على شواطئ البندقية تتسبب بإزاحة مئات آلاف الأطنان من الماء ما يضر بأساسات البندقية

 

وهناك المراكب الأقل ضخامة والأكثر تدميرا، وهي القوارب ذات المحركات، والمراكب البخارية، وسيارات الأجرة العائمة، لأن عددا كبيرا من المراوح تنتج موجات عكسية مستمرة باتجاه المباني التي تسمى “موتو أندرسو”، وهي موجات منتظمة تتكسر بشكل دائم على الجدران، وتدمر أساسات جميع المباني.

تجفيف القناة.. عودة إلى التقنية القديمة لإنقاذ الأساسات

من أجل وقف دمار الأساسات، هناك فريق كامل من البنائين الغواصين الذين يعملون بظروف صعبة للغاية. وعن ذلك يقول الغواص “نيكولو مازوليني”: ينطوي العمل تحت الماء على تعقيدات وجهد كبيرين، فهناك مشكلة الحرارة، لكن نقص الرؤية هي المشكلة الأساسية، فنحن نقوم بأعمالنا دون رؤية أي شيء.

أدى تجفيف بعض القنوات قديما إلى تعريض القواعد إلى الأكسجين، ما أضعف أساسات المدينة

 

وقد اتبع المختصون ذات التقنية في تجفيف القناة حين جففوا القنوات سابقا، فأفرغوها من الماء ووضعوا السقالات كما يفعلون على الأرض لإصلاح البناء، لكن هذا كشف الأوتاد وعرضها للأوكسجين، وهو ما أضعف أساسات المدينة.

يقول “إيروس تورتشيتو” قائد فريق الغواصين: إذا عرضنا أساس الأوتاد للهواء فإنها ستتضرر بغضون أيام قليلة، يجب على الأوتاد أن تبقى في الطين من دون أوكسجين حتى تبقى 2000 عام أخرى، لكن بمجرد وضعها في الخارج ستبدأ بالتحلل الفوري، وخلال يوم واحد تصبح أضعف، ولا يمكن بعدها حمل الأساسات.

فوضى التلوث وانهيار الحياة الحيوانية.. خطر ما بعد الحرب العالمية

بني ميناء مارغيرا في عشرينيات القرن الماضي، وأصبح بعد الحرب العالمية الثانية أحد أكبر الموانئ في إيطاليا. وعلى بعد كيلومترات قليلة عن المدينة يوجد مصنع الكيميائيات الصناعية في ميناء مارغيرا الذي بني في عشرينيات القرن الماضي، وأصبح أكبر الموانئ في إيطاليا أثناء الثورة الصناعية، دون أي احترام لبيئة البحيرة وطبيعتها.

يقول “ديفيد تاليابيترا”: هناك أنواع عدة من التلوث الذي تتسبب به المصانع، مثل مصنع البتروكيميائيات الذي أطلق الكثير من الملوثات، وخزن مواده الملوثة، مما أدى إلى تسربها إلى قعر البحر، وهو ما أثّر على الحياة النباتية والحيوانية، وأدى لانهيار التجمعات البيولوجية في المنطقة.

قناة ضخمة تم شقها في البحيرة، لربط ميناء مارغيرا بأحد مداخل البحيرة الثلاث لتمر منها ناقلات البترول

 

ويواصل “تاليابيترا” حديثه قائلا: بعد الحرب العالمية الثانية قاموا بضخ المياه الجوفية لاحتياجات التبريد الصناعي، وهو ما أدى لانخفاض المياه الجوفية. لقد أفرغوها كما يفرغون إطار السيارة، فتسبب ذلك بهبوط قعر البحيرة 9 سم، وفي نفس الوقت عمل الاحتباس الحراري على رفع منسوب مياه البحيرة إلى 30 سم، وهو ما جعل الأمر أسوأ لمباني البندقية، ولم يتوقف الجشع الإنساني عند هذا الحد، فقاموا بحفر قناة ضخمة في البحيرة، تربط ميناء مارغيرا بأحد مداخل البحيرة الثلاث لتمر منها السفن الضخمة، ويبلغ عرض القناة 137 مترا، بطول 19 كيلومترا، وعمق ما بين 9-15 مترا، وجُرف أكثر من 274 كيلومترا مكعبا من قعر البحيرة.

وإذا أصبحت البحيرة جزءا من البحر، فستنتشر المياه المالحة في كل مكان، ولن يعوق قوة الأمواج أي شيء، وستصبح المدينة في خطر مميت.

في 4 نوفمبر/ تشرين الثاني 1966 تعرضت المدينة لظروف جوية قاسية، فقد كانت الرياح عاتية، فارتفع منسوب المياه 180 سم، وكان لا بد من إجلاء 5000 نسمة، وانقطعت البندقية عن العالم لمدة ثلاثة أيام، ولم ير سكان المدينة مدا بهذا الحجم، فوقوع المدينة في حوض مغلق يعرضها دائما لتقلبات الطقس.

وكان المد في البندقية يرتفع 130 مرة خلال العام، بمقدار 90 سم، و60 مرة بمقدار 122 سم، لكن مع التغير المناخي قد يصبح ارتفاعه 150 سم.

مليارات إنقاذ البندقية.. نجدة الاتحاد الأوروبي لعروس البحر

لحماية المدينة وضعت خطة دعم وطنية ودولية في العام 2003، وتوصل العلماء لخطة واسعة في حمايتها عن طريق حجر المياه عند مداخل البحيرة الثلاث، بحيث تستخدم من أربع إلى سبع مرات في العام خلال المد الربيعي، وسيجري استخدامه على مدار 100 عام القادمة، مع أخذ مستوى ارتفاع مياه البحر في الاعتبار.

جرى تركيب 78 سدا متحركا ومثبتا بمفاصل قوية تحت الماء بقواعد خرسانية، وعند وصول الخط المحدد عند 112 سم سوف ترتفع من أماكنها في أقل من 30 دقيقة، وتتحمل المد حتى ارتفاع 3 أمتار.

إقامة سدود اصطناعية بارتفاع 5 أمتار لحجز مياه المد من الوصول إلى قنوات البندقية

 

ويبلغ عرض السد 20 مترا بسمك 5 أمتار، وتزن السدود ما بين 170-330 طنا. ويشرح رئيس مهندسي المشروع “موس ألبيرتوبيز” آلية عمل السدود بالقول: تخيل أن هذا صندوق، لكنه داخل البحر مليء بالماء، ويبقى بانتظار أمر من الحاسوب الرئيسي أن يرتفع، حينها يرسل الهواء المضغوط في الأنابيب باتجاه مقدمة البوابة، وهو المكان الذي سيتجمع فيه الهواء، فيملأ نصف البوابة بالهواء والنصف الآخر بالماء، ويستمر الحاسوب بإرسال الهواء حتى يتوقف، ويستأنف ذلك للحفاظ على البوابة بزاوية ما بين 42-44 سم.

ويواصل “ألبيرتوبيز” شرحه قائلا: يجري إنزال السدود بواسطة رافعة عملاقة بشكل دقيق جدا، ويستغرق الأمر ساعات ليستقر السد في موقعه، حيث يجب وضع 40 سدا في مداخل البحيرة الثلاث، حيث ستبقى ثلاثة أعوام لاختبار السدود، لمعرفة مدى كفاءتها، وقد ارتفعت تكلفة المشروع من مليار يورو إلى 6 مليارات يورو، تكفلت بها إيطاليا والاتحاد الأوروبي، لكن هل سيكون بمقدور هذا المشروع حماية البندقية في حالات المد والأسوأ من ذلك؟ وهل سيشوه هذا المشروع بهذه الضخامة شكل البحيرة؟

يستشعر أهالي البندقية الخطر الداهم الذي يهدد مدينتهم الساحرة، ذات الكنوز العائمة، فهي بحاجة للحماية والرعاية في خضم موج متلاطم يعصف بجذورها، وجشع إنساني لا يرحم هشاشة هيكلها الجميل.