“حريق متعمد”.. معارك رجال الإطفاء الشاقة في الجنوب الفرنسي

خاص-الوثائقية

كما في أي حرب، تتدخل الطائرات لحسم المعارك الضارية وتأكيد تفوق خصم على الآخر. وهذا ما حصل بالضبط، عندما أقلعت الطائرات من جنوب فرنسا لوقف زحف عدو كاد أن يفتك بالبشر ويهلك الحرث والنسل. لكن هذه المعركة ليست بين البشر أنفسهم، بل بين الإنسان والنار.

في هذه الحلقة التي تأتي بعنوان “حريق متعمد” -التي بثتها الجزيرة الوثائقية ضمن سلسلة بعنوان “في قلب الخطر”- نسرد قصص مجموعة من حرائق الغابات رصدها مركز القيادة المتنقلة في منطقة بوشدورون جنوب فرنسا.

وقد نتجت هذه الحرائق عن أفعال بشرية إما استهتارا أو تعمّدا أو عن غير قصد، وتقوم السلطات والإعلام بنشر التوعية للحد من هذه الأخطاء.

 

استجابة الطيران.. رقصة الباليه المنسجمة في السماء

تقوم طائرة “داش 8” بجولة تفقدية في المنطقة، وتشتبه في دخان متصاعد في موقع قرب قرية إبغوي بالقرب من إكسون بروفونس مما يضع القاعدة الجوية في حالة تأهب قصوى، وقد هرع الطياران “بيير” و”جان مارك” إلى طائرتهما الكاندير، وملآها بالماء من بحيرة بير، ووصلا إلى موقع الحريق بعد 12 دقيقة من تلقي الإنذار.

انتشرت النيران إلى عدة أميال رغم الاستجابة السريعة، وساهم في انتشارها هبوب رياح مسترال وعاصفةٌ بسرعة 80 كم/ساعة.

كان مسرح العمليات غابة من أشجار الصنوبر تقع على تلة صغرة، محاطة بحقول ومنازل قليلة متناثرة على أطرافها. وصلت كذلك مروحيتان قاذفتان للماء، تتناوبان مع الكاندير في الأجواء، مثل رقصة باليه عالية الانسجام.

كان المقدم “فونتير” أول الواصلين، وتولى إدارة العملية وطلب التعزيزات فورا، وانضم إليه “فابريس موسيه” المتخصص في المناطق الوعرة.

صورة جوية لمنطقة الحريق تم تقسيها إلى ثلاثة أقسام ليتولى كل فريق إطفاء منطقة

 

جرى تقسيم منطقة النار إلى ثلاثة أقسام: اليمنى واليسرى ورأس الوحش، وسيتولى “موسيه” القسم الأيمن، لكن يبدو أن أجهزة الاتصال متعطلة في بعض شاحنات الإطفاء، ولذلك فطواقمها يقومون بالإطفاء اليدوي، متجاهلين أنهم بذلك يعطلون عمل الطائرات.

يطلب “موسيه” من الطاقم مغادرة المنطقة وإبعاد شاحناتهم، حتى يتسنى للطائرات إسقاط حمولتها من الماء، إن وزن الماء كفيل بقتل إنسان وتحطيم شاحنة إذا سقط بتلك السرعة الكبيرة، وسلامة طواقم الإطفاء أهم أولويات المسؤول.

يقول “موسيه”: في طفولتي شاهدت حريقا في جبال ألبيز، وقد احترق كثير من الأشجار يومئذ، ولم يستطع رجال الإطفاء فعل شيء، كان ذلك محزنا.

“إغراق الحريق”.. إطفاء الجمر الخامد تحت الرماد

لا تزال طائرة الاستطلاع “هورس 13” تحلق في المنطقة وتنقل البيانات إلى مركز القيادة، وتلتقط الصور الحرارية لتحديد المناطق الساخنة.

أصيبت إحدى عاملات الإطفاء وعمرها 19 عاما، وقد أجليت بسيارة إسعاف إلى مستشفى إيكس. تقول: كان الجو حارا، والنار والدخان يملآن المكان، وبعد نصف ساعة أصبحت بحالة سيئة، ثم وجدت نفسي ملقاة على الأرض، وزميلي أمامي، ولا أدري إن كان سيراني، وألسنة اللهب تحاول التهامي، إن غادر دون رؤيتي فسأموت.

لاحظ رجال الإطفاء على الجبهة الأمامية أن حركة النيران بطيئة، كان ذلك بفضل الطائرات والمروحيات، ولكن الفضل الأكبر بعود إلى تضاريس المنطقة، والرياح التي حوّلت النيران إلى مناطق فارغة، لقد أحكمت السيطرة على النيران، ولكن بعد أن احترق نصف الغابة. والمطلوب الآن إغراق المنطقة بالمياه حتى لا يتجدد الحريق بفعل الجمر الكامن تحت الرماد.

بوجود طائرات الإطفاء، يجب على الإطفائيين وسياراتهم مغادرة الموقع خوفا من ماء الطائرات القاتل

 

وها هو حريق آخر يشتعل من جديد، سارع الرجال الموجودون إلى إطفائه، بينما “موسيه” يوضح لهم أهمية “إغراق الحريق” بالكامل، حتى تقطع الطريق أمام حدوث حرائق جديدة.

جاء رئيس البلدية إلى موقع الحريق ووضع متطوعي إطفاء الحرائق في البلدية تحت إمرة “موسيه” وجهزهم بالمعدات المتوفرة، وقد شكرهم “موسيه” على وجودهم، وبيّن لهم أن بعض طاقمه سيعودون إلى القسم ليكونوا جاهزين لحادث آخر، ثم شرح لهم حدود المنطقة التي عليهم مراقبتها والتأكد من عدم وجود بؤر ساخنة فيها.

“هنالك نار تشتعل في مارتيغ”.. تعددت الحرائق والفريق واحد

فجأة يأتي إنذار يقول “هنالك نار تشتعل في مارتيغ”، ليقطع حديث “موسيه” لمتطوعي البلدية، وينسحب هو وفريقه إلى مارتيغ على بعد 64 كم من هنا، ويتابع الصور والبيانات التي تصله من طائرة “هورس 13″، إنها صور فائقة الدقة تظهر حجم الحريق والنقاط الساخنة، وقد جرى توجيه الطائرة القاذفة لمخمدات النيران وقاذفات الماء إلى الموقع، وحوصر الحريق بسرعة. وحينها كان على “موسيه” التوجه إلى حالة طوارئ أخرى.

بعد خمس ساعات من العمل المتواصل، وبعد أن نال التعب والإنهاك من طاقم الإطفاء، انفجرت ثلاثة إطارات دفعة واحدة، وكان السبب بقايا الأشجار المحترقة، وهي عصيّ قصيرة بطول 10سم، وجذورها عميقة في الأرض، ويمكنها ثقب الإطار بسهولة. وقد قام الفريق بإصلاح الإطارات، والاطمئنان على إخماد آخر جمرة، وحان الآن موعد العشاء وأخذ قسط من الراحة.

“المتحف”.. مكتب “فابريس موسيه” المليء بشهادات وهدايا تذكارية ورسومات لعمليات الإطفاء القديمة

 

في اليوم التالي توجه “موسيه” إلى محطة الإطفاء إكسون بروفونس، ودخل مكتبه الذي يسميه زملاؤه “المتحف”، وهو مليء بشهادات وهدايا تذكارية ورسومات لعمليات الإطفاء القديمة. يقول “موسيه” عن مكتبه: هذه شهادة دبلوما صدرت في 1897 عن استراتيجيات ضخ المياه، وهذا سيف كان يحمله رجال الإطفاء في خمسينيات القرن الـ19، أما بالنسبة لي فقد التحقت بالإطفاء عام 1988 عن طريق متطوع آخر.

بعد عشر سنوات ترقى “موسيه” لرتبة قائد إطفاء في محطة إكسون بروفونس، وما زال يحتفظ في مكتبه بشعار المحطة، مع أن هذا الشعار يجب أن يكون في مكتب القائد، وهو يعمل بنظام المناوبات ضمن طاقم مكون من 35 فردا، وهم تحت ضغط هائل بسبب قلة العدد، ولكن في جو من التعاون والإخاء.

إغلاق الغابات.. خطة سد المنافذ على اشتعال النار

يجتمع “موسيه” و”فونتير” كل ليلة لتخطيط أعمال اليوم التالي، ويتحدثون مع قائد عمليات بوشدورون عبر دائرة تلفزيونية. في هذه الليلة يناقشون حادثا تعرضت له طائرة “كاندير” في أجاكسيو، فقد كان يفترض أن تهبط الطائرة في مرسيليا، لكنها سقطت على بعد أمتار قبل وصولها إلى وجهتها، وكُسر ذيل الطائرة وتوقفت الحركة الجوية بالكامل خمس ساعات لإخراج الطائرة من المدرج.

تحطم ذيل طائرة “كاندير” إحدى الطائرات العاملة في الفريق الإطفائي بمرسيليا

 

يتحدث العقيد غريغوري، قائد عمليات بوشدورون، عن تعويض النقص الذي سببته الطائرة المتعطلة قائلا: جبال بوشدورون معرضة باستمرار لرياح مسترال، وهذا يثير الدخان الذي يعرض حياة رجالنا للخطر، يجب أن تحمي رجالنا قوة كافية من الطائرات القاذفة للماء.

لا تزال طائرة الاستطلاع تقوم بعملها، ولكنها أقل كفاءة من “كاندير”، وهذا يحتم وجود قوات أرضية أكبر لأي خطر قادم، ويرتفع خطر نشوب النيران نظرا لهبوب الرياح وجفاف النباتات، ولذا أغلقت الغابات تماما أمام العامة، ولم يعد يسمح إلا لرجال مصلحة الغابات فقط بالدخول، وذلك للتأكد من تطبيق القانون في هذه الظروف الاستثنائية، ولذلك تتفهم العائلات والزوار هذه الظروف، ويغادرون الغابة فور طلب ذلك منهم. أما السيارات فيجري تغريمها بقيمة 135 يورو إذا تجاوزت الحدود الممنوعة.

إن 20% من الحرائق تأتي بسبب تصرفات خاطئة، مثل تشغيل محرك السيارة في منطقة جافة، أما 30% من هذه النيران فتسببها تصرفات متعمدة، مثل رمي أعقاب السجائر، وتأتي الظواهر الطبيعية مثل البرق بنسبة 10%.

نجدة المروحيات.. قوة جوية تمطر أرضية الحريق بالماء

أثناء بقاء طائرة “كاندير” على الأرض تكون المروحيات في حالة تأهب عالية، وقد عُززت المروحيتان في قاعدة “سالون بروفونس” بثالثة يقودها الطيار “غادو”، حيث يبدأ يومه بتفقد مروحيته بمساعدة فني ميكانيك، وبعد التأكد من استعداد مروحيته يتلقى “غادو” إنذارا بوجود حريق، وعلى الفور ينطلق برفقة رجل إطفاء.

ملأ الطيار خزان طائرته من الماء من أقرب مصدر، ثم شقّ طريقه باتجاه مصدر الدخان، وعلى الأرض سبقته شاحنات الإطفاء التي كانت في حالة تأهب قصوى، وأطفأت الحريق حتى قبل أن يصل، فقام بإغراق الحريق بما لديه من مياه من أجل قتل أي فرصة لإعادة تجدد النيران، ثم عاد أدراجه إلى القاعدة. أكبر ما يعوق عمل المروحيات وجود خطوط نقل الكهرباء، ولذلك يحبذون العمل في المناطق المفتوحة.

لا وقت للراحة، فها هو ذا إنذار عن حريق في منطقة تشاتانوف، يركب “ديلكي” و”غادو” مروحية ويتجهان إلى موقع الحريق، هذه المرة يبدو الحريق أكبر من سابقه، لذا تحوم الطائرة حول الحريق لتقدير الموقف ثم تتوجه إلى بحيرة بير لملء خزانها بماء مالح، ويرش الماء على الحريق، ويعاود الكرة مرة تلو أخرى حتى يتأكد من إطفاء الحريق تماما بعد ست جولات.

تدريب “التحطم والإغراق” أحد التدريبات الشاقة في التحضير للسيطرة على الحرائق

 

ويتلقى طيارو المروحيات تدريبات خاصة وشاقة قبل أن يتقنوا السيطرة على الحرائق بكفاءة، أحد هذه التمرينات هو التحطم والإغراق، ويحاكي خروج الطاقم من المروحية لدى تحطمها في الماء، حيث يوضع الطياران في صندوق يحاكي المروحية، ويجري إسقاطهما في الماء، وعليهما التخلص من مقعديهما والغوص القسري في الماء، والخروج خلال ثلاث ثوان حتى لا يغرقا.

في التمرين الثاني عليهما البقاء في الصندوق بعد دخول الماء فيه، في محاكاة لانقلاب مروحيتهما رأسا على عقب، وامتلاء مقصورتها بالماء، وفي هذه الحالة يتعرضان لفقدان التوازن، ويصبح التخلص من المقعد وفتح باب الطائرة أصعب عليهما. هذا ويعتبر ضخ المياه من المروحية من أخطر التجارب التي يمر بها الطيار.

يقول الطيار “ديلكي” عن تجربته في الإطفاء: بعد أن أنهيت دراستي كان علي أداء الخدمة العسكرية، لم يعجبني أن أخدم في الجيش ليلقوني على الحدود في شمال فرنسا لتفتيش البيوت دون أدنى فائدة، ولذا آثرت الانضمام إلى رجال الإطفاء، فأنا تعجبني روح الفريق التي يتعاملون بها، والانضباط والتطوع والإيثار، وخدمة الناس والحفاظ على البيئة، إنها قيم مثالية.

“قبل أن يصل إلى المساكن”.. حلف صقور الجو ورجال البر

هنالك تطور جديد، فقد ألقت الشرطة القبض على رجل خلال تحقيقاتها في حرائق شهر تموز/يوليو. إذ يستطيع عابث أن يشعل ثلاث حرائق في ساعتين، إنه مجرمٌ بحق. لقد عاد هذا الشخص إلى مكان جريمته ليرى حجم الضرر الذي أحدثه، ولدى عرضه على أطباء نفسيين أفادوا بأنه طبيعي ومسؤول إلى حد كبير عن تصرفاته.

إنه عامل نظافة، ولم يُدلِ بأي اعتراف طوال يومين، ثم أخبر الشرطة أنه ألقى عقب سيجارة، وقد يكون تسبب في الحريق بدون قصد، لكنه في النهاية استسلم واعترف بكل شيء، وأودع إلى السجن، ولكن هذا لا يعني نهاية النيران، فقد اشتعل حريق آخر، واعتقل مشتبه به آخر.

أعقاب السجائر المشتعلة ربما تكون سببا مباشرا في حريق غابة بأكملها

 

يتدرب الطيارون ويدرسون الخطط التي تمكنهم من مدّ يد العون لرجال الإطفاء على الأرض، والتنسيق معهم لأجل قذف الماء بالتناوب بين الأرض والجو، ويتدرب العقيد “سكيلاري” يوميا على القيادة وتوزيع القوات على مناطق الحريق بحيث تجري تغطيته من كل الجهات.

وليس الضباط والقادة وحدهم هم من يشعرون بالضغط، بل إن الأفراد كذلك يشاركونهم التفكير بالمسؤولية الملقاة على عاتقهم، فالجميع يتنبؤون بأن هذا الموسم سيكون صعبا، لذا يقوم الأفراد بتفقد الشاحنات والمعدات قبل الانطلاق إلى الموقع. ويقول هذا الطاقم عن أدائه: نحن لا نفعل مثل الأمريكيين، إنهم يحددون مساحة ويدعون الحريق ينتشر فيها، نحن لسنا مثلهم، نحن نبعث قوات كافية لمهاجمة الحريق قبل أن يصل إلى المساكن.

مستودع النفط.. استنفار لحماية مرسيليا من الخطر المحدق

عند عدم وجود حرائق، فإن الفريق يخرج إلى الغابات ليتلقى التعليمات ومحاضرات التوعية من القادة، وهي فرصة للقادة كذلك لمعرفة طباع جنودهم ونفسياتهم، وبعد المحاضرات يتوزع الفريق في الغابة للراحة والأكل وتجاذب أطراف الحديث. فهذه التدريبات الموقعية أشبه بالمخيمات الكشفية التي تجمع بين التدريب والترفيه والسمر.

ها قد وصلت أخبار سارة، فطائرة الكاندير مكسورة الذيل قد أصلحت وعادت إلى الخدمة، لكن تبعتها على الفور أخبار غير سارّة، فقد تلقى مركز القيادة المتنقلة إنذارا بنشوب حريق في فوسورمير خلف ميناء مستودع النفط، إنها منطقة حساسة وخطيرة للغاية، فهي تحتوي خزانات النفط العملاقة التي تزود مرسيليا كلها بالوقود، وقد نتج الحريق عن شرر تطاير بسبب تعطل مكابح إحدى الشاحنات.

نشوب حريق في فوسورمير خلف ميناء مستودع النفط في مرسيليا

 

طلب العقيد “غريغوري” إرسال 150 رجل إطفاء على الفور، بينما رصدت طائرة الاستطلاع “هورس” حريقا آخر غير بعيد عن الأول، وخلال عشرين دقيقة كانت النيران قد أتت على 150 هكتارا من الأرض، وتوقفت حركة المرور على الطريق الرئيسي وتعطلت حركة الشاحنات والسيارات في المنطقة الصناعية، وتلاشى 35 ألف طن من الأخشاب بفعل النيران.

تقلع ثلاث طائرات كاندير لرش الحريق بالماء، ونظرا لقلة عدد الرجال في مواجهة ضخامة الحريق فإنهم يحاولون فقط تحويل وجهة الحريق إلى منطقة خالية. وبعد ساعة من بدء الحريق، وتحديدا في الثالثة بعد الظهر استطاع رجال الإطفاء السيطرة على معظم أجزاء الحريق، وإيقاف تقدم النار تدريجيا.

وقد عملوا بعدها على إغراق البقع الساخنة، والتأكد من عدم وجود جمر تحت الرماد، وعلى الرغم من انتشار الحريق في 1000 هكتار من الأرض، فإن الفرق تفوقت على نفسها واستطاعت منع كارثة محققة، في منطقة يعمل بها 45000 موظف، وتغذي مرسيليا بالوقود.

إن موسم الصيف لا يدع للقادة والأفراد فرصة لترك الحذر، ولو للحظة واحدة.


إعلان