“الغورال”.. شعب تقليدي يحارب من أجل التراث في أعالي أوروبا

خاص-الوثائقية
أوروبا هي أكثر القارات تمدنا في عالمنا اليوم، إذ يفضل الناس فيها العيش في المدن الكبرى بنمط عصري. غير أن هناك مجتمعا يخرق تلك القاعدة في إحدى السلاسل الجبلية الساحرة التي تدعى تاترا على الحدود بين بولندا وسلوفاكيا، وتحديدا في الجانب البولندي منها على سفح بودهالي، هناك يعيش مجتمع الغورال في ظروف استثنائية بعيدة كل البعد عن بقية القارة الأوروبية.
إنه مجتمع منعزل عن محيطه، بسبب صعوبة الوصول للمكان الوعر والطقس القاسي، ورغم ذلك يحافظ “الغورال” على ثقافتهم وعاداتهم وتقاليدهم وموسيقاهم وحتى لغتهم المحلية.
هذا الفيلم الذي تبثه الجزيرة الوثائقية يعرض أسلوب حياة أربعة رجال من “الغورال” يحافظون على تقاليدهم المتوارثة، كما تبنى أحداثه على انتظار البلدة حفل زفاف عروسين من أبنائها.
سيرافقنا في هذا الفيلم راعي الأغنام “ياريك”، و”إيان” آخر الحرفيين الذين يصنعون عجلات خشبية للعربات، والحطاب “ستاشيك”، وأخيرا الموسيقي وعازف القرية “بيوتر”.

“ياريك” الراعي.. رعي الغنم في مواطن الذئاب
يبدأ راعي الأغنام “ياريك” عمله في الجبال بعد ذوبان الثلوج، ويقضي الصيف في “الباتزوفكا” (كوخ الراعي)، ويقول إنه لن يتمكن أحد من العيش مع الأغنام إن لم يفهمها، فهي سرعان ما تصبح مخادعة، وسرعان ما ستشعرون بالضجر.
يطلق على “ياريك” لقب “باسا” أي الراعي المتمرس بالبولندية، ويأتمنه الناس على أغنامهم التي تحتاج للرعي من الربيع حتى الخريف في المراعي العليا، أما “بيوتر” أحد مساعديه، فيلقب بـ”يوهاس” أي المتمرن، فقد انضم إلى “ياريك” مع انتهاء المدرسة، وهناك أيضا المساعد “كاميل”.
ظهور الذئاب بين الفينة والأخرى للبحث عن فريسة سهلة يجعل الرعاة يعيشون في ضغط وتوتر مستمر، وحتى أثناء نومهم يبقون متيقظين ومترقبين لما قد يحدث، إذ عليهم مراعاة مساحات شاسعة ومراقبتها.
يبلغ عدد الأغنام في القطيع 700 رأس، ويقول “كاميل” إنه يستطيع تميزها كلها رغم تشابهها، فهي بالنسبة له كالأشجار تبدو متشابهة لكنها ليست كذلك. يقول ياريك: تحتاج هذه الأغنام للأكل لا للتفكير، وهي في المقابل تعطينا الحليب ونصنع منها الجبن، أي المال.

صنع جبن “أوسبيك”.. علامة تجارية محمية
ساعة الحلب تحدد إيقاع الحياة اليومية في “بازوفكا”، فاليوم يبدأ وينتهي بحلب الأغنام، وثمة هدف لعمل “ياريك” ومساعديه هو إنتاج جبن أوسبيك (جبن الأغنام المدخن) وهو منتج شهير في المنطقة وعلامته التجارية محمية بحسب قانون الاتحاد الأوروبي.
يقول “ياريك”: يعتمد شكل الجبن ومذاقه على الجهد المبذول لصناعته، فالتسرع في شيء لن تكون نتيجته مرضية، بل يجب أن ترعى الأغنام بمرعى مختلف كل يوم، والرعاة هم من يختارون مكان العشب الأفضل، كما أن الطقس يشكل عاملا آخر يؤثر على جودة الحليب.
وبحسب رأي “ياريك” فإن من الممكن صناعة جبن من المطر طالما أنكم تعرفون أسرار عملية الإنتاج، الله منحنا هذا وسيرشدنا لطريقة الاستفادة منه.
تضاف مادة “الرنت” للحليب وهو إنزيم تنتجه معدة الأكباش، وهو يسرع في تخثر الجبن، ويجب تسخين الحليب لدرجة ما دون الغليان، على نار هادئة، ويعجن بروية وبشكل جيد حتى يكون الطعم أشهى، بعد عجن الجبن، تبقى بعض المش (نوع من الجبن)، فقام “بيوتر” بغليه للحصول على شنتينزا وهو مصل حليب يضاف له الكحول، وكان الرعاة يتناولونه منذ قرون، لكن هؤلاء الرعاة لم يعتادوا عليه، وعليهم تناوله بحذر.
بدأ الضباب الكثيف يغطي “بازوفكا” وهناك رطوبة تنذر بأمطار غزيرة، وفي طقس كهذا ستحاول الذئاب الصيد في النهار، لكن كلاب الحراسة تستشعر خطرها، ويتمكن مساعدا “ياريك” من إبعادها هذه المرة.

“الناس يذهبون إلى القمر، وأنا أعجز عن إصلاح عجلة”
أما “إيان” فهو آخر الحرفيين الذين يصنعون عجلات خشبية للعربات، يقول عن نفسه إنه لم يتخيل نفسه يمتهن هذه المهنة، لكنه اضطر يوما لإصلاح عجلة قديمة، فخاطب نفسه قائلا “الناس يذهبون إلى القمر، وأنا أعجز عن إصلاح عجلة”، فكانت البداية.
يخبرنا “إيان” عن بعض مهارات هذه الصناعة، فيقول إنه لا يمكن صناعة عجلة من أي شجرة، فحين كنا نريد أن نقطع شجرة في الماضي يجتمع الناس حولها ويتناقشون لأي شيء تصلح هذه الشجرة، أما اليوم فهم يذهبون بمناشيرهم ليقطعوها ثم يفكرون بماذا قد تصلح، لا أحد يفكر مسبقا.
على “إيان” الذهاب إلى القرية المجاورة، لإحضار خشب مناسب للبرامق، وهو يتحضر جيدا لتلك الرحلة فلديه طعام منزلي معلب يكفيه لمواسم عدة دون الحاجة للذهاب إلى المتاجر، فهو يشبّه نفسه بشعب “الأميش” (وهي طائفة مسيحية تتبع للكنيسة المنيونية وتعيش في المناطق الريفية النائية في الولايات المتحدة وكندا).
يصل “إيان” إلى القرية المجاورة وهي قرية الحطاب “ستاشيك” الذي تجمعه به علاقة صداقة قوية، ويشعر بالراحة معه لأنهما متشابهان، ويريه أخشابا متينة يخبره أنه يستطيع الذهاب بها إلى الحرب والعودة دون أن تهتز تلك العجلات، تعلم “إيان” صناعة العجلات من غورال مخضرم واستغرق وقتا في إقناعه بتعلم أسرار المهنة.
يقول إن “أسرار المهنة كثيرة، خفتُ أن يأخذها معه إلى القبر، لكنه بالنهاية نقل المعرفة إلي، وتبين أنها مفيدة”، يصنع إيان كُم العجلة الأساسي على آلة خراطة عمرها مئة عام نقلت من مصنع يعود لما قبل الحرب.
ويتابع مداعبا أنه إذا تعلم المحكوم عليهم بالسجن المؤبد صناعة العجلات فستنقضي فترتهم سريعا، فالإنتاج الغزير غير ممكن في هذا العمل، إذ يجب الاستمتاع والتحلي بالصبر والمثابرة في آن واحد.
وتعد مرحلة تشكيل الإطار مرحلة مهمة، وعلى “إيان” التأكد من الاستدارة التامة للعجلة وإلا سيضطر للبدء من جديد، فأكبر مشكلة تواجهه هي عمل فتحات للبرامق، فكلما زادت المسافة بين برامق محور العجلة كانت أفضل وأمتن.

هجمة الهالي.. رياح العاصفة التي تقتلع الأشجار
يعتبر الحطاب “ستاشيك” الغابة بيته وموطنه، لكن زوجته دائما ما كانت تذكّر أولاده أن عليهم أن يدرسوا وإلا سينتهي بهم المطاف كوالدهم، يقول “ستاشيك”: كان الأمر يزعجني لأني لا أعتبر عملي أسوأ المهن في العالم، يمكنهم أن يكونوا ما يشاؤون، لكن عليهم التصرف بذكاء ودراسة خطواتهم.
ثمة أوقات يكون فيها الجو جميلا كما يقول “ستاشيك”، فعندما تولد فإنك لا تتذمر بشأن الجو أبدا بل تتقبله كما هو، وفي يوم زفافك أيضا لا تبالي، وحين تحتضر، فهذا هو واقع الحال.
تشكل قمم تاترا عازلا طبيعيا للكتل الهوائية، وحين تنكسر الجبهة الهوائية تتأثر بودهالي على السفح من الهالي، وهو مصطلح محلي يعني الرياح الجافة، تكون العاصفة فيه قادرة على اقتلاع الأشجار وسقوف المنازل، في تلك الليلة هبت الرياح، لكن كان عليهم الانتظار لرؤية الأضرار الناجمة في صباح اليوم التالي.

“أوديس” الجواد.. صهوة الصعود إلى أعالي الجبال
تتساقط الأشجار إثر العاصفة في المرتفعات التي يصعب الوصول إليها بالآليات، ولا يمكن الوصول إليها إلا بالجياد القوية كـ”أوديس” الذي يقوم بالمهمة على أكمل وجه. يقول ستاشيك إن العاصفة تدمر آلاف الأمتار المكعبة من الأشجار، كأنك تقوم بمسح منطقة أو رسم مخطط جديد للغابة كلها.
بعد العاصفة كان الحطاب وابنه مستعدين للعمل لبلوغ الأشجار الساقطة على قمم الجبال، حيث يقطعان الجزء الأول من الطريق بواسطة الجرار، بينما تكون المسافة المتبقية من نصيب حصانهما “أوديس” الذي يقطعها فعلا.
يقوم “أوديس” بكل ما هو مطلوب منه، فيدخل ويخرج من أي حفرة أو خندق مهما كان ضيقا وعميقا، “ولو امتلك كل شخص حصانا مثله فسيقدرون جمال هذه الحياة”. وكما يقول الحطاب، “لا يمكن إتمام هذا العمل الصعب لمن لا يحبه، فهو متعب جدا، ويعاني من يؤديه من البرد ويتعرض للاتساخ والبلل”.

نقل الأخشاب.. خسائر الأرواح في العمل الشاق
يجلس “ستاشيك” وابنه، وقد تلطخا بالوحل يأكلان وجبة من اللحم المقدد، وخلال الاستراحة يخبر ابنه عن بعض ذكرياته عن أول رحلة له عندما كان صغيرا إلى الغابة، فقد كان ألح عليه كثيرا ليرافقه، وكانت زوجته ترفض ذلك باستمرار، وحين وافقت ذهبا ليقطعا شجرة، وربط الحصان بشجرة الصنوبر، وطلب من ابنه أن يبقى بقربه، بعد قليل وقف الابن حيث تسقط الشجرة وصرخ عليه أن يركض فتنحى جانبا لكنه علق بين الأغصان وارتفع عاليا، حينها خاف الأب وظن أن الرياح ستحمل ابنه، وطلب منه أن لا يخبر أمه بذلك لأنها لن تسمح له بمرافقته مرة أخرى.
في عمل “ستاشيك” لا مجال للتفكير، بل لا بد من العمل بسرعة ومعرفة كيفية ربط الشجرة وتحديد المقدمة والمؤخرة لأنها تنقل من المقدمة، مات كثير من أصدقائه لأنهم لم يحسنوا التعامل مع الأشجار وجرها.
يعمل الحصان “أوديس” طوال اليوم، فبعد نقل الخشب للأسفل يعود ثانية لأعلى التلة، صحيح أن “ستاشيك” لم يعد شابا، لكنه ما زال في قمة النشاط، ولديه ابن صالح يقف دائما إلى جانبه، يحبه كثيرا ويحب العمل معه، وهو يرافقه منذ نعومة أظفاره.
بمساعدة جوادهما يتمكنان من نقل ثلاثين مترا من الأخشاب من الحطب، وبعد وضع الكمية الأولى في النهر يقومان بتشغيل الآليات لتوصيلها إلى الطريق العام، وهناك يقومان بتقطيعها قبل نقلها.

خسارة المزمار الأول.. إلهام صناعة الآلات الموسيقية
خسر العازف “بيوتر” مزماره الأول عندما كان ثملا، وبعد فترة أراد العزف ثانية فكان عليه الحصول على واحد آخر، وقد اقترحت زوجته أن يشتري مزمارا جديدا، لكنه أصر على أن يصنعه بنفسه.
لقد أتم العمل في مزمار الجلد وبقيت العناصر الأخرى في الآلة، والمرحلة الثانية هي قصبة النفخ، وهو الجزء الذي يصدر منه صوت المزمار، وعند الانتهاء منها سيقوم بتثبيتها في غطاء خشبي كرأس معزاة في الثقوب الثلاثة في القصبة، ثم توضع المفاتيح في قلب الآلة.
يقول “بيوتر”: عليك بلوغ المثالية حتى تكون صانع مزامير مبدعا، فإن لم تمتلك الوقت والرغبة فلا تكبد نفسك العناء، فما من مدرسة لتعلم ذلك، فهذه ليست كمدرسة صنع الكمان، حيث الأساتذة يراقبون ويزودونكم بمؤلفات ستراديفاريوس (أنتونيو ستراديفاري صانع آلات موسيقية)، لا هذا فلكلور بحت.
وللحصول على صوت مثالي للمزمار، لا بد من الاهتمام بأدق التفاصيل، فهذه المزامير المصنوعة بهذه الحرفية تعد تحفة فنية لهذا يوقع “بيوتر” ككل فنان على تحفته.
يقول “بيوتر”: موسيقانا بسيطة كتقطيع الخشب، تحرك يدك بطريقة عينك صعودا ونزولا، الطبيعة تحمي نفسها دوما، أشجار تنمو وأخرى تسقط، يولد البعض مثل الفلكلور، سأورث أبنائي العزف، وحينما أموت يمكنهم مواصلة تعليم الموسيقى، موسيقى المرتفعات تجري في عروقنا.

“نربي بناتنا ليبقين في المنزل، ثم يأتي لص ويسرق قلوبهن”
ستتزوج ابنة موسيقي وعازف القرية “بيوتر” قريبا، ويريد أن يصنع مزمارا خاصا لتلك المناسبة، وهذا العمل يحتاج عدة أسابيع لإنجازه، لأنه سيصنعه بالطريقة التقليدية المتوارثة، فلا مدارس لتعليم صناعة تلك الآلة، وعليهم اتباع طرق غريبة لإنجازها.
يبدأ “بيوتر” بتحضير جلد الماعز وتنظيفه، ويضع بداخله تبنا، ويقول إنه لا أحد يتفوق على “الغورال” بهذه الصناعة التقليدية، ولا حتى الإسكتلنديين أنفسهم، فهم يستخدمون أكياس النايلون.
تتمنى “كاشا” ابنة “بيوتر” أن لا يكون اليوم ممطرا، فهو يوم زفافها وستلبس الفستان الأبيض، كما أن المدعوين سيأتون للحفل بالعربات، على كل حال فصباح اليوم ملبد بالغيوم، وكل الأمنيات أن تنقشع قريبا.
يستعد “بيوتر” منذ الصباح الباكر، وهو فرح لأنه أنهى صناعة مزماره الجديد، وها هو يرتدي الزي التقليدي، ويقول مفاخرا: عندما تكون غوراليا، فعليك أن تفتخر بملابسك التقليدية في الزفاف، ولا داعي للبدلات الأنيقة، نحن نلبس زي سكان المرتفعات التقليدية.
يحضر “بيوتر” نفسه ويضع آلته الموسيقية في صندوق يحتوي على عدة العزف، ويقول: نربي بناتنا ليبقين في المنزل، ثم يأتي لص ويسرق قلوبهن، علينا تربيتهن جيدا وتوريثهن عاداتنا وتقاليدنا.
ها هو الموعد قد حان، ثلاثون عربة تنقل المدعوين إلى الكنيسة، كان الحطاب “ستاشيك” أحد سائقي العربات إذ استعد للمساعدة في هذه المناسبة التي تهم أهل القرية جميعا، إذ يعد الزفاف في الغورال فرصة لاجتماع كل السكان، وقد حضر اليوم نحو 300 مدعو، وهنا تظهر ثقافة الغورال جلية في العرس، أزياء تقليدية وموسيقى وطنية ومنشدين، وأخيرا فهو اليوم المنتظر الذي سيعزف فيه “بيوتر” على مزماره أمام عدد كبير من الحاضرين.

شعب الغورال.. “حين تتقبل النعمة تشعر كأنك صقر محلق”
لكي تكون من “الغورال” برأي “ستاشيك”، عليك أن تكون صادقا ومسؤولا. أما “إيان” فيقول: “عليك أن لا تحمل شيئا لما بعد موتك، فقد دُفن الفراعنة مع الذهب، لكن الذهب سُرق واختفى الفراعنة”.
أما “بيوتر” فيرى أن “الغورال” يتمتعون بشخصية مميزة ومندفعة، إذ يقول: الحدّاد إما جيد أو سيء، والموسيقي إما موهوب أو لا، لا يوجد حل وسط، أبيض أو أسود.
أما “ياريك” فمن جهته يقول: علينا أن نتقبل ما يمنحنا إياه الله، وحين تتقبل النعمة تشعر كأنك صقر محلق.
بقعة في أوروبا وتحديدا على سفح “بودهالي” ما زالت متمسكة بتقاليدها القديمة بفضل أشخاص مثل “ياريك” و”بيوتر” و”إيان” و”ستاشيك”، حيث ما زالت الموسيقى الفلكلورية والحرف والعادات أسلوب حياة.