“من الاضطهاد إلى سُدة الحكم”.. قصة الدعوة المسيحية منذ عهد المسيح
خاص-الوثائقية
يحكي الفيلم القصير الذي عرضته الجزيرة الوثائقية “المسيحية.. من الاضطهاد إلى سدة الحكم”، الجزء المغيّب من تاريخ المسيحية، أي علاقتها بالسلطة السياسية في روما، وكيف عاشت قرابة ثلاثة قرون من الاضطهاد، قبل أن يحوّلها الإمبراطور قسطنطين إلى حليف قوي في السلطة، حيث أضفى الشرعية على الكنيسة، في مقابل استمداده منها سبل الوحدة وبسط السيطرة الروحية على كامل الجزء المعروف من العالم حينها، أي العالم المحيط بالعواصم الكبرى وقتها، روما وأثينا والقدس ومصر.[1]
فقد عانت الديانة المسيحية اضطهادا كبيرا طيلة القرون الثلاثة الأولى من وجودها، وذلك على يد حكام الإمبراطورية الرومانية. وكان معتنقو المسيحية يتعرضون لأصناف مختلفة من العذاب، لما كان يراه فيهم الحكام من اختيار فكري مخالف لمبدأ عبادة الأباطرة كنوع من الخضوع السياسي والوحدة البشرية بين أطراف الإمبراطورية.
وقد استمر هذا الاضطهاد حتى العام 313 للميلاد، أي مع صدور الوثيقة المعروفة لدى المؤرخين باسم “مرسوم ميلان” الذي أعلن المسيحية ديانة أخرى مسموحا باعتناقها داخل الإمبراطورية.[2]
اضطهاد المسيحية.. معاناة القرون الثلاثة الأولى
عاشت المسيحية فترات مختلفة على مدى أكثر من الألفي عام التي مرت على وجودها، حيث ترسم حقب تاريخها حسب معايير مختلفة، منها معيار علاقتها بالعقلانية والعلم، حيث استمر المسيحيون في النظر إلى العلم وتفسيره من داخل المنظور الديني المسيحي وعبر نصوص الأناجيل، وذلك لما يفوق 1500 عام، قبل أن تدخل المسيحية في احتكاك مباشر مع العقل في عصر النهضة الأوروبية، كما يبرز ذلك فيلم “الكنيسة والعلم”، من ثلاثية “تاريخ المسيحية” التي قدمتها “الجزيرة الوثائقية”.[3]
أكثر ما تتداوله المصادر التاريخية والمؤلفات الدينية والفكرية، هو الاستبداد الذي مارسته الكنيسة الكاثوليكية على مدى قرون، وهو ما تؤكده الآثار والمؤلفات التي توثق لتاريخ المسيحية، حيث كانت الكنيسة العدو الأول للفكر العقلاني والمنطق العلمي، كما حاربت واضطهدت كثيرا من العلماء والمفكرين.[4]
احتاجت المسيحية إلى انتظار بروز علماء النهضة ومفكريها، مثل “نيوتن” و”جون لوك” و”بنجامين فرانكلين” الذي قام بتفسير ظاهرة الصواعق بطريقة علمية بدل اعتبارها مظهرا لغضب الرب.[5]
وكان أن تحوّل علماء مثل “شارلز داروين” إلى رموز لتحدي سطوة الكنيسة وقيودها المفروضة على الفكر والعقل الإنسانيين.[6]
لكن ما لا ينال النصيب نفسه من البحث والتداول، هو الاضطهاد الذي عاشته المسيحية نفسها، طيلة القرون الثلاثة الأولى من وجودها، على يد السلطة السياسية الممثلة في الإمبراطورية الرومانية، إلى أن جاء إمبراطور اسمه قسطنطين، لينهي هذا الاضطهاد.
عهد الإمبراطور أغسطس.. تعطّش النخبة لدين جديد
كانت الإمبراطورية الرومانية قبل ميلاد عيسى عليه السلام تشهد تنوعا في الديانات المنتشرة بين سكانها، منها بعض الديانات الشرقية كديانة الإله اليوناني “ديونيسيوس” وديانة “كابيلا” في آسيا الصغرى وأتباع الإله “أيل” في بلاد الشام وإله الشمس “مثراس” في بلاد فارس وديانة “إيزيس” التي كانت سائدة في مصر، إضافة إلى ديانات أخرى انتقلت إلى الإمبراطورية الرومانية آتية من الغرب، من فرنسا والجزر البريطانية، لكن سكان الإمبراطورية -وخاصة منهم النخبة المثقفة- كانوا قد سئموا من هذه المعتقدات على الرغم من انتشارها في صفوف الشعب، حيث كان بعضهم يرى فيها وسيلة لحمل الشعوب على الخضوع دون تفكير أو مقاومة.[7]
هكذا صادف ظهور الديانة المسيحية على يد مجموعة من “التلاميذ”، مناخا فكريا متشبعا بالتطلع نحو معتقد جديد، خاصة بعد ازدهار الفكر الفلسفي مستندا إلى الإرث اليوناني الغني.
وعندما ولد عيسى عليه السلام في عهد الإمبراطور أغسطس مؤسس الإمبراطورية الرومانية، كان مفكرو الإمبراطورية قد شرعوا في الجهر بسأمهم من المعتقدات الوثنية السائدة في الأوساط الشعبية، كما باتوا يعلنون رفضهم لفكرة تقديس الأباطرة وتبجيلهم، ولم يكن هؤلاء المفكرون يجدون في الديانات المنتشرة حينها ما يلبي تطلعاتهم الرامية إلى الرقي بالإنسان، ولم يكن هذا الوضع يخلو من خلفيات سياسية، ذلك أن الوضع الفكري والعقدي السائد وقتها كان 2يخدم مصلحة الفئات المهيمنة والحاكمة، دون غيرها من فئات الشعب.[8]
رجم “استفانوس”.. ديانة بين فكي اليهود والرومان
ظهرت المسيحية في سياق سياسي واجتماعي تتقاسمه قوتان، الأولى هي السلطة اليهودية القائمة في فلسطين، والثانية هي السلطة اليونانية-الرومانية.[9]
وطيلة القرنين الأول والثاني من وجود الديانة المسيحية، بقي الأمر أشبه بالدعوة السرية، حيث تخلو الوثائق الإدارية والقانونية لتلك الفترة من أي إشارة إلى هذه الديانة، حيث كان معتنقوها يخشون البطش والاضطهاد.
وحسب سفر “أعمال الرسل”، فإن اضطهاد المسيحيين بدأ مع رجم أحد المسيحيين في القدس، ويدعى “استفانوس”، ويطلق السفر على هذه المرحلة اسم “الاضطهاد العظيم”، حيث كان المسيحيون خلالها عرضة للاستباحة الشاملة، من خلال مهاجمتهم في بيوتهم واقتيادهم إلى السجون وتقتيلهم ومصادرة ممتلكاتهم.
واجهت المسيحية في حقيقة الأمر اضطهادا مزدوجا:
– الأول يمكن وصفه بالاضطهاد اليهودي، فأول من تضايق من الديانة المسيحية الناشئة وحاربها هم اليهود الذين رأوا فيها انشقاقا عنهم وتحريفا لمعتقداتهم، وهو ما تجسده حرب اليهود المعروفة ضد عيسى عليه السلام ثم ضد أتباعه.
– الثاني الاضطهاد الروماني الذي لم يكن يرى في الديانة الجديدة سوى خيانة سياسية بما أن أتباعها لا يقدسون الإمبراطور، وهناك من يفسّر اضطهاد الإمبراطورية الرومانية للمسيحيين على أنه مجرد نتيجة لتحريض اليهود.[10]
وأد المسيحية في مملكة اليهود.. تشابك السياسة والدين والمال
بدأت الدعوة المسيحية بشكل سابق عن ميلاد المسيح عيسى عليه السلام نفسه، حيث كانت انتقادات حادة آخذة في الصدور من داخل الديانة اليهودية ضد بعض الممارسات التي اعتبرها البعض فاسدة وظالمة، وكانت تشمل جوانب عقدية وأخرى اقتصادية متمثلة في التجبّر في جباية الضرائب فوق ما هو واجب شرعا. وهو السياق الذي يفسّر كيف أن مريم العذراء هاجرت بابنها عيسى من فلسطين إلى مصر إلى أن توفي الملك اليهودي “هيرود” لتعود إثر ذلك إلى ديارها.[11]
وكانت هذه الفئة المنتقدة لما آلت إليه الديانة اليهودية وقتها، تعتنق أفكارا مخالفة في كثير من مناحي الحياة، بما فيها عادة الختان أو تقديس يوم السبت، وهو ما كان يجعل مهمة التحريض ضد أصحاب الديانة الجديدة سهلا، سواء في صفوف اليهود أو حتى معتنقي بعض الديانات الوثنية.
لكن المسيحية لم تكن تحمل أي عداء تجاه الديانة اليهودية، بقدر ما كانت فئة معينة من اليهود المسيطرين سياسيا واقتصاديا تقف وراء إشاعة فكرة استبطان الديانة المسيحية لعداء خاص تجاه اليهودية، من أجل تشريع القمع والاضطهاد الذي سيمارس ضد المسيحيين. وكانت تلك الفئة تحمي موقعها المهيمن بغطاء ديني، حيث كانوا يشكلون فئة من الأثرياء والكهنة اليهود، ويتمتعون بموقع مؤثر داخل المحكمة اليهودية العليا، وكان يطلق عليهم اسم “الصدوقيون”.[12]
لقد وجد اليهود أنفسهم في حيرة حقيقية أمام المسيحية، ففي قرارة أنفسهم كانوا يعتبرون معتنقي الديانة الجديدة جزءا منهم، لكنهم في الوقت نفسه يعتبرونهم منحرفين ينبغي إرجاعهم إلى الدين اليهودي. لكن الخلاف مع المسيحيين ظل لأكثر من قرنين في المستوى الشعبي والفكري، ولم يكن اضطهادا رسميا.[13]
محاكمة المسيح.. شأن ديني داخلي في فلسطين
كان نهج الإمبراطورية الرومانية هو النأي بنفسها عن الخلافات والصراعات الداخلية للولايات التابعة لها، وهو ما يفسّر حيادها في الصراع المبكر بين اليهودية والمسيحيين. بل إن حكام الإمبراطورية رفضوا الاستجابة لضغوط اليهود الرامية إلى استعداء المسيحية، وكانت الإمبراطورية ترد كلما طلب منها اليهود أن تتدخل، بكون هذا شأنا دينيا داخليا ينبغي حله بالوسائل المحلية لفلسطين.
اتهمت جماعة اليهود المسيطرين النبي عيسى عليه السلام بالهرطقة، كما تشير بعض المصادر الى اتهامه بادعاء كونه ابن الله، بينما تجسد الشق السياسي في التهم التي وجهت إليه قصد محاكمته وإقصائه في اتهامه بالتحريض ضد الإمبراطور.[14]
يدور جدل كبير في المصادر التاريخية والدينية حول أطوار محاكمة النبي عيسى عليه السلام وما انتهت إليه تلك المحاكمة، حيث توجد روايات طويلة ومختلفة في الأناجيل المتداولة، بينما تدعي بعض الروايات النصرانية أن المسيح عليه السلام جرى قتله وصلبه على يد جماعة من بني إسرائيل ممن خرجوا عليه وحاربوه رفضا لرسالته الإلهية. إلا أن القرآن الكريم كان حاسما وجازما بهذا الخصوص، حيث يقول: (وما قتلوه وما صلبوه ولكن شُبّه لهم).[15]
“وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم”.. رواية القرآن
اختلف المفسرون في شرح التشبيه الذي شبه لليهود في أمر عيسى. فقال بعضهم إنه لما أحاطت اليهود به وبأصحابه الـ12، كانوا لا يقدرون على معرفة عيسى بعينه، ذلك أنهم جميعا حُوِّلوا في صورة عيسى، فخرج إليهم بعض من كان في البيت مع عيسى، فقتلوه وهم يحسبونه عيسى.[16]
وقال آخرون: بل سأل عيسى من كان معه في البيت أن يلقى على بعضهم شَبهه، فانتدب لذلك رجلا، فألقي عليه شبهه، فقتل ذلك الرجل، ورفع عيسى ابن مريم عليه السلام. بينما يذهب تفسير آخر إلى أن اليهودَ الذين أحاطوا بعيسى وأصحابه حين أرادوا قتله كانوا قد عرفوا عدد من في البيت قبل دخولهم، فلما دخلوا عليهم، فقدوا واحدا منهم، فالتبس أمرُ عيسى عليهم بفقدهم واحدا من العدَّة التي كانوا قد أحصوها، وقتلوا من قتلوا على شك منهم في أمر عيسى الذي كان الله تعالى قد رفعه إنقاذا له من القتل.
أما تفسير “ابن كثير” فيبدو جازما في شرح رفع المسيح عليه السلام، ويقول إن اليهود لما بعث الله عيسى ابن مريم بالبينات والهدى، “حسدوه على ما آتاه الله من النبوة والمعجزات الباهرات”، مما جعل عيسى عليه السلام يهجرهم ويكثر الطواف في الأرض “ثم لم يقنعهم ذلك حتى سعوا إلى ملك دمشق في ذلك الزمان – وكان رجلا مشركا من عبدة الكواكب، وكان يقال لأهل ملته “اليونان”، وأنهوا إليه: أن ببيت المقدس رجلا يفتن الناس ويضلهم ويفسد على الملك رعاياه”.
غضب هذا الملك اليوناني -بحسب ابن كثير- وكتب إلى نائبه بالقدس أن يصلب عيسى “فلما وصل الكتاب امتثل متولي بيت المقدس ذلك، وذهب هو وطائفة من اليهود إلى المنزل الذي فيه عيسى عليه السلام، وهو في جماعة من أصحابه، اثنا عشر أو ثلاثة عشر – وقيل: سبعة عشر نفرا – وكان ذلك يوم الجمعة بعد العصر ليلة السبت، فحصروه هنالك”.
ويخلص تفسير ابن كثير إلى أن المسيح طلب من أصحابه متطوعا ليتشبّه به ويضحي بنفسه فداء له، على أن يكون رفيقا له في الجنة، فتطوّع أصغرهم، وهو المعروف باسم يهودا، “فقال: أنت هو – وألقى الله عليه شبه عيسى، حتى كأنه هو، وفتحت روزنة من سقف البيت، وأخذت عيسى عليه السلام سنة من النوم، فرفع إلى السماء وهو كذلك”.[17]
وبصرف النظر عن الجدل والتناقض الذي يغشى الروايات التاريخية حول ما تعرض له عيسى عليه السلام، فإن ما تتفق حوله هو أن نبي النصرانية تعرض لمحاكمتين اثنتين، الأولى في محكمة يهودية قضت عليه بالإعدام، وأخرى ذات طبيعة سياسية، حيث حاول خصومه اليهود استصدار حكم مؤيد من داخل الإمبراطورية الرومانية خوفا من تبعات تنفيذهم حكم الإعدام بشكل مباشر، واستعملوا في سبيل ذلك مزاعم كثيرة، منها أن عيسى عليه السلام يعتبر نفسه إلها، أو ينوي تنصيب نفسه ملكا لليهود.[18]
حريق روما الكبير.. وقود اليهود ونيران الإمبراطور
لم تبدأ معاناة المسيحيين من الرومان إلا أواسط القرن الأول للميلاد، وذلك بفعل خروج دعوتهم التبشيرية بالدين الجديد من الأوساط اليهودية إلى بقية العالم، حيث بدأ حكام الإمبراطورية يستشعرون خطر انتشار الأفكار المسيحية، من خلال عمليات تمرد على الديانة الوثنية السائدة، وهو ما أثار مخاوف الإمبراطور نيرون، ليقدم على أول تحرك إمبراطوري للفتك بالمسيحيين، حيث قام بقتل القديس بولس وقلب الأب بطرس الذي كان يتولى مهمة التبشير بالمسيحية في روما.[19]
اتسم عهد الإمبراطور نيرون بتحول المسيحيين إلى موضوع للسخرية، وكان يجري الخلط بينهم وبين الفلاسفة، خاصة منهم الذين كانوا يجملون أفكارا معارضة للإمبراطور، ويعرفون باسم “الرواقيين”. وبينما كان أفراد النخبة المثقفة من الفلاسفة يتمتعون ببعض الحماية لكونهم ينتمون إلى طبقات اجتماعية عليا، فإن معتنقي المسيحية كانوا في مجملهم من عامة الناس، وهو ما سهّل استهدافهم بالاضطهاد والتقتيل بطرق وحشية.[20]
ويربط المؤرخون بين اشتعال نار الاضطهاد في صفوف المسيحيين من طرف الرومان، بالحريق المهول الذي أتى على قسم كبير من روما في تموز/يوليو عام 64 للميلاد، ويحتمل أنه اشتعل بأمر من “نيرون” نفسه، ساعيا من وراء ذلك إلى إعادة بناء روما من جديد كي تحمل اسمه وتخلّده، حسب زعم بعض الروايات، ثم عمد إثر ذلك إلى إلصاق التهمة بالمسيحيين، بإيعاز من خصومهم اليهود، مطلقا العنان لمسلسل التقتيل والتشريد ضد معتنقي الديانة الجديدة.
راح ولاة الأقاليم بعد حريق روما، يتنافسون في أساليب التنكيل بالمسيحيين وتقتيلهم، من إحراق بالنار ودق للمسامير في أجسادهم لتعليقهم فوق الصلبان وتحريض كلاب الصيد كي تقطّعهم أحياء، وكان اليهود في ظل كل تلك الأحداث يلعبون دور التأجيج وتأكيد الوقيعة بين المسيحيين وبين الإمبراطور، حيث كانت غايتهم من وراء ذلك مزدوجة: التخلص من المسيحيين، وتخفيف ضغط الإمبراطور عليهم بسبب تنامي المخاوف الرومانية من فكرة خروج شخص من فلسطين لبسط سيطرته على الإمبراطورية.[21]
انتحار نيرون.. سقوط عرش الإمبراطورية
لم ينته هذا الاضطهاد الأول للمسيحيين من طرف الرومان إلا بعد وفاة “نيرون”، حيث انتحر في سياق حرب أهلية طاحنة انتصر فيها “الفيلافيون” الذين قاموا بحيازة عرش الإمبراطورية، وهم الذين كانوا يتسمون بقدر من التسامح تجاه المسيحيين، وعاش أتباع المسيحية في الفترة ما بين 81 و96 للميلاد، في سلام نسبي.
لكن مع نهاية القرن الأول للميلاد، كانت سياسة الإمبراطورية الرومانية تجاه المسيحيين تنحرف من جديد نحو الاضطهاد، وذلك على يد الإمبراطور دوميتيان، ليوجه إليهم رسميا تهمة الإلحاد، واستأنف سياسة نيرون في هذا المجال، وشكّل ذلك بداية للاضطهاد الرسمي من جانب الإمبراطورية الرومانية ضد المسيحيين.[22]
لقد أصبحت المسيحية في القرن الثاني للميلاد في مواجهة مفتوحة وشاملة مع سلطة الإمبراطورية الرومانية، لما شهدته هذه الديانة من انتشار كبير، وبالتالي تهديد للأساس العقدي للإمبراطورية المتمثل في المعتقد الوثني السائد وقتها.
عهد الإمبراطور أنطونينوس بيس.. أيام العافية
استشعرت الإمبراطورية خطورة الوضع عندما باتت الطبقة المفكرة منقسمة بشكل حاد بين أنصار الوثنية ودعاة المسيحية. واتسم عهد الإمبراطور تراجان -الذي امتد حكمه قرابة 20 عاما، إلى غاية 117 ميلادية- بوضع الكثير من القيود على تأسيس الجماعات الدينية أو تنظيم اللقاءات الفكرية المفتوحة، منعا لانتشار المسيحية.
لقد أصبح اعتناق الديانة الجديدة بمثابة جريمة في القوانين الرومانية خلال بداية القرن الثاني للميلاد، وكان مصير من يحاكمون بسببها يتراوح بين القتل والنفي، واستمر هذا الوضع إلى غاية وصول الإمبراطور أنطونينوس بيس” إلى العرش، أواسط القرن الثاني للميلاد، حيث عاش المسيحيون في ظل تسامح نسبي جديد، حيث لم تعد المسيحية جريمة في حد ذاتها، بل أصبح العقاب ينصب على التآمر ضد الإمبراطورية بغض النظر عن الديانة.
ويسود غموض كبير حول طبيعة السياسات التي انتهجها الإمبراطوران ماركوس أوريليوس وكومودوس تجاه المسيحيين، خلال النصف الثاني من القرن الميلادي الثاني، حيث تتضارب الروايات بين القول بتسامحهما معهم أو تشديد قبضتهما عليهم. لكن الثابت هو أن خيار التضييق والاضطهاد استمر في تلك الفترة، وكان الأباطرة يستفيدون في ذلك من غطاء من التأييد الشعبي بسبب وصم المسيحيين بالإلحاد والإساءة للمعتقدات.
الإمبراطور سبتيميوس.. موجة اضطهاد جديد في القرن الثالث
شكّلت بداية القرن الثالث للميلاد، إيذانا بانطلاق موجة جديدة من الاضطهاد ضد المسيحيين، وذلك على يد الإمبراطور سبتيميوس الذي حكم بين 193 و211 ميلادية، وكان أشهر ضحايا هذه الموجة أب الفيلسوف المسيحي “أوريجينيس”.
كان “أوريجينيس” هذا هو أشهر علماء الكنيسة المسيحية في قرونها الثلاثة الأولى، فقد ولد في أسرة مسيحية بالإسكندرية، وتعلّم أولا على يد والده “ليونيذاس” ثم “أفليمس السكندري”، ليصبح أحد أكثر المفكرين إنتاجا في تلك الحقبة، وتتحدث بعض المصادر عن كتابته 6 آلاف كتاب، محاولا التقعيد لما يعرف بالاتجاه العقلي في المسيحية.[23]
وفي العام 249، أصدر الإمبراطور ديكيوس مرسوما خاصا باضطهاد المسيحية، وكان بذلك أول من سن تشريعا عاما يستهدف معتنقي هذه الديانة. وأخضعت الإمبراطورية سكانها لاختبار شامل، يتمثل في تقديم قربان للآلهة الوثنية، مقابل الحصول على شهادة رسمية كدليل على الامتثال لأوامر الإمبراطور.
وقد اختيرت لجان محلية في كل القرى الرمانية لإحصاء المنفذين لهذا الأمر من خلال مشاهدتهم وهم يقدمون القرابين ويسكبون الخمر، ويستدل المؤرخون على ذلك بنماذج من تلك الشهادات عثر عليها في أماكن مختلفة من الإمبراطورية الرومانية القديمة، منها مصر وآسيا الصغرى.[24]
مرسوم الأضاحي.. محكمة مفتوحة لتصفية الحساب
تحوّلت الإمبراطورية بالفعل إلى محكمة مفتوحة ضد كل من غابوا عن حملة التفتيش العقدي هذه، وهم بشكل خاص المسيحيون. ثم عمد الإمبراطور فاليريان -الذي تولى الحكم سنة 253- إلى توجيه الاضطهاد بشكل خاص إلى رجال الدين المسيحيين، حيث خصهم بمرسوم يأمرهم بتقديم الأضاحي للآلهة الوثنية، وتم تقديم من رفضوا منهم للمحاكمة وتنفيذ الإعدام في بعضهم، بما في ذلك الإعدام حرقا.
انتهى حكم فاليريان إثر هزيمته أمام الفرس عام 259، وفتح عهد ابنه غالينوس مرحلة تسامح جديدة، حيث حاول هذا الإمبراطور استمالة المسيحيين وكسب تأييدهم في مواجهة التهديد الفارسي، واستمرت هذه الهدنة إلى ج 284 ميلادية، لتدخل المسيحية في عهد الإمبراطور دقلديانوس مرحلة الإقرار الرسمي بقوتها ونفوذها، حيث باتت تحظى بفرصة التناظر مع الفكر الوثني بداعي التقريب والتوفيق بينهما، وكان في قصر الامبراطور الكثير من المسيحيين، وإن كان ذلك لم يمنع الجناح الوثني داخل الدولة من الإمعان في التقتيل والاضطهاد ضد المسيحيين، وإعادة السياسة الرومانية الرسمية الى سابق عهدها في الاضطهاد، حتى أن بعض المصادر تتحدث عن قتل 140 ألف مسيحي في عهد “دقلديانوس” فقط، وهو التاريخ الذي جعله الأقباط بداية لتقويمهم، وسمى البعض تلك المرحلة بعصر الشهداء[25].
بلغ الاضطهاد الروماني للمسيحيين ذروته في بداية القرن الرابع للميلاد، في عهد الامبراطور “ماكسيمينوس”. ففي أول خطاب وجهه إلى ولاية فلسطين التابعة له، طلب بزيادة عدد الاضاحي الموجهة للآلهة الوثنية، والحرص على تنفيذ جميع السكان لهذا القرار، فوضعت قوائم للسكان يستدعون بناء عليها لتنفيذ الأمر الامبراطوري، حيث كان هناك حرص كبير على إرغام المشاركين على تذوق الأضاحي وسكب الخمر. وشهدت الفترة بين 305 و311م نشرا ممنهجا للمعابد الوثنية ومكافآت للقرى التي تضطهد المسيحيين وتقصيهم، قبل أن تخفف هذه السياسة تدريجيا بعد سنة 311م بسبب نتائجها العكسية.[26]
“مرسوم ميلانو”.. انتصار الإمبراطور المخلص
شكّل وصول قسطنطين إلى عرش الإمبراطورية الرومانية طوق نجاة للمسيحيين بعد قرابة ثلاثة قرون من الاضطهاد، حيث أصدر بمجرد دخوله روما منتصرا على خصمه ماكسيمينيوس أوامر بوقف استهداف المسيحيين في ولايات الشرق، ثم أصدر في عام 313م أمرا إلى حاكم ولاية أفريقيا بإصلاح الكنائس المهدمة وتسهيل توزيع الأموال على الأساقفة انطلاقا من قرطاجة، وإعفاء الكهنة من كل الضرائب والأعمال المفروضة على مواطني الإمبراطورية. وجاءت لحظة الحسم بصدور “مرسوم ميلان” الشهير الذي نص على منح الكنائس الحرية الكاملة، ورد الاعتبار إليها وتمكينها من ممتلكاتها المصادرة.[27]
كان قسطنطين قائدا لجيش روما الغربي، وخاض حربا ضارية ضد قائد الجيش الشرقي، ليظفر بعد انتصاره بلقب الإمبراطور. وقبل يوم واحد من المعركة، رأى رؤيا كان فيها يقف موجها بصره نحو السماء، ليرى رمز الصليب، وهو ما اعتبره بشارة بالنصر، وهو ما تحقق بالفعل، لكن الرؤيا كانت قد غيّرته للأبد، وهو ما تجسد في إنهائه الاضطهاد التاريخي للمسيحيين.[28]
وتعود تسمية هذا المرسوم الشهير إلى المكان الذي عقد فيه قسطنطين مؤتمرا جمعه بممثله في ولايات الشرق وهو “ليكينيوس”، وأعلن خلاله الاعتراف بالمسيحية كديانة شرعية معترف بها داخل الإمبراطورية الرومانية. وأقر هذا المرسوم حرية ممارسة الشعائر الدينية المسيحية وحرية اعتناقها. وقد ظلت علاقة الإمبراطور قسطنطين بالمسيحية غامضة، بين من يقول باعتناقه لها ومن يعتبر ما أقدم عليه مجرد تدعيم لحكمه بتحالفه مع الديانة الآخذة في الانتشار، وهو ما مكنه من حسم الصراع والتنافس الداخليين حول السلطة في روما.
لكن مرسوم “ميلان” الذي أنهى اضطهاد المسيحيين، كان في الوقت نفسه بداية لمرحلة جديدة من الصراع ضد سلطة الكنيسة في أوروبا، والتي ستستمر إلى غاية عصر النهضة.
المصادر
[1] https://www.youtube.com/watch?v=nRC4B4cJ800
[2] ناجي, م.د. تأثير عبد الجبار. “اضطهاد الأباطرة الرومان للمسيحيين ( 54م– 313م ).” journal of the college of basic education 26 (2020): 192-220.
[3] https://www.youtube.com/watch?v=kbuMEbu_SnU&feature=youtu.be
[4] https://www.youtube.com/watch?v=kbuMEbu_SnU&feature=youtu.be
[5] https://www.youtube.com/watch?v=LqnSSoaEP5U&feature=youtu.be
[6] https://www.youtube.com/watch?v=02_CRMdpOek&feature=youtu.be
[7] [7] ناجي, م.د. تأثير عبد الجبار. “اضطهاد الأباطرة الرومان للمسيحيين ( 54م– 313م ).” journal of the college of basic education 26 (2020): 192-220.
[8] [8] ناجي, م.د. تأثير عبد الجبار. “اضطهاد الأباطرة الرومان للمسيحيين ( 54م– 313م ).” journal of the college of basic education 26 (2020): 192-220.
[9] https://www.youtube.com/watch?v=gdjY4zBeGFw
[10] ناجي, م.د. تأثير عبد الجبار. “اضطهاد الأباطرة الرومان للمسيحيين ( 54م– 313م ).” journal of the college of basic education 26 (2020): 192-220.
[11] عبد الغني محمود السيد، أضواء على المسيحية المبكرة، دار المعرفة الجامعية، 1997، ص 16
[12] موسوعة الكتاب المقدس، الصفحة 194
[13] https://www.youtube.com/watch?v=W9Yx1lADPMo
[14] Glover, T., The Conflect of Religions in early Roman Empire,Boston,1960 ,pp.167-168.
[15] القرآن الكريم، سورة النساء، الآية 157
[16] https://quran.ksu.edu.sa/tafseer/tabary/sura4-aya157.html
[17] http://quran.ksu.edu.sa/tafseer/katheer/sura4-aya157.html
[18] جي, م.د. تأثير عبد الجبار. “اضطهاد الأباطرة الرومان للمسيحيين ( 54م– 313م ).” journal of the college of basic education 26 (2020): 192-220
[19] جي, م.د. تأثير عبد الجبار. “اضطهاد الأباطرة الرومان للمسيحيين ( 54م– 313م ).” journal of the college of basic education 26 (2020): 192-220
[20] https://www.youtube.com/watch?v=-eiM4dCEdao
[21] Appian ,Roman History,Tr.By,Horacewite,4ched ,Cambridge :Harvard university press,1995
[22] جي, م.د. تأثير عبد الجبار. “اضطهاد الأباطرة الرومان للمسيحيين ( 54م– 313م ).” journal of the college of basic education 26 (2020): 192-220
[23] رستم أسد، آباء الكنيسة (القرون الثلاثة الأولى)، منشورات النور، 1983
[24] Knipling ,J.,R., The Libelli of the Decian persecution, HTR 16,1923.
[25] اسحق عبيد، الامبرادورية الرومانية بين الدين والبربرية، مؤسسة المعارف للطباعة والنشر، بمصر، 1972
[26] جي, م.د. تأثير عبد الجبار. “اضطهاد الأباطرة الرومان للمسيحيين ( 54م– 313م ).” journal of the college of basic education 26 (2020): 192-220
[27] الناصري سيد أحمد علي، تاريخ الإمبراطورية الرومانية السياسي والحضاري، دارالنهضة العربية، القاهرة، الطبعة الثانية، 1991
[28] https://www.youtube.com/watch?v=nRC4B4cJ800