“نحن والكلاب”.. سر صداقة الإنسان والكلب منذ آلاف السنين

مراد بابعا

تعددت الكتابات والروايات التي أسهبت في وصف وفاء الكلب تجاه صاحبه، حتى أن الكاتب المصري الراحل أنيس منصور قال في إحدى جمله المشهورة: “كلما عرفنا الإنسان، ازددنا حبا للكلاب”، فحكى قصصا مذهلة عن الإخلاص والتضحية التي تربط الكلاب بأصحابها.

واعتمد البشر منذ الأزل على الكلاب في القيام بأعمال مختلفة، مثل الحراسة والرعي والصيد وجر العربات، قبل أن تتطور هذه العلاقة أحيانا إلى شبه صداقة، تجاوزت في قوتها علاقات الإنسان الأخرى بالحيوان.

واستطاع باحثون يابانيون مؤخرا الكشف علميا عن وجود حب فطري متبادل بين البشر والكلاب، من خلال ازدياد إفرازات هرمونية عند الاقتراب والاحتكاك بها، كما يحدث عندما تنظر الأم إلى رضيعها، أو تتلاقى نظرات الأحبة والعشاق.

ويعرض الفيلم الوثائقي “نحن والكلاب.. سر صداقتنا” الذي بُث على الجزيرة الوثائقية، قصصا حقيقية عن الولاء غير المشروط للكلاب تجاه البشر، ويبحث في الذكاء الملحوظ لهذه الحيوانات وقدراتها الحسية المتميزة، وما يربطها بنا عاطفيا نحن البشر.

فما هو إذن سر هذه العلاقة المتميزة بين البشر وهذه الحيوانات الأليفة؟ وكيف بدأت قبل آلاف السنين؟ ولماذا اختار الإنسان الكلب بالضبط لمساعدته في حياته اليومية؟ وهل وفاء الكلب تجاه صاحبه فعلا وفاء غير مشروط؟

فيلم “نحن والكلاب.. سر صداقتنا”

 

علاقة المنفعة المتبادلة.. سر الصداقة التاريخية بين البشر والكلاب

لطالما سعى الإنسان منذ وجوده فوق الأرض لتطوير نمط عيشه، وإيجاد المواد والأدوات التي تساعده في ذلك، خصوصا عندما استقر واحترف الزراعة منذ حوالي 6 آلاف سنة. وكانت الحيوانات بمثابة المساعد الأول للبشر في الأعمال الشاقة، خصوصا الدواب، وبعضها الآخر أصبح مع الوقت الرفيق الأول للإنسان كالقطط والكلاب.

وتعود العلاقة بين البشر والكلاب إلى آلاف السنين، فعندما بحث الإنسان عن المساعدة وجدها في الكلب، لسرعة بديهته وتفاعله السريع وقدراته المميزة في الركض والشم. وهكذا نشأت العلاقة بين الطرفين أول مرة عندما بدأت الكلاب البرية -التي يعتقد أنها فصيلة منقرضة من الذئاب- تقترب من البشر لسرقة الطعام، قبل أن تطور من قدرتها على العيش على طعام الإنسان بشكل تدريجي.

وتطورت هذه العلاقة شيئا فشيئا، عندما فطن “الإنسان الصياد” قبل أكثر من 15 ألف سنة، أنه يمكنه استغلال هذه الحيوانات في عمليات الصيد أو الحراسة، في علاقة ذات منفعة متبادلة، إذ يصطاد الإنسان مزيدا من الفرائس، وتحظى الكلاب بمزيد من الطعام. ليبدأ ترويض الكلاب إلى أن صارت الرفيق الدائم للإنسان في الصيد حتى يومنا هذا.

تعود أقدم النقوش صور الكلاب إلى حوالي 8 آلاف سنة على صخور رملية في الصحراء العربية

 

نقوش الصحراء العربية.. فن ترويض الكلاب منذ آلاف السنين

كشفت مجلة “علم الآثار الأنثروبولوجي” في 2019 عن أدلة ملموسة للعلاقة بين البشر والكلاب، من خلال دراسة لعالمَي آثار هولنديين وآخر بريطاني، فقد قاموا بتحليل عظام الحيوانات التي عضتها ومضغتها الكلاب قبل 11500 سنة.  وكشفت نتائج الدراسة أن الكلاب كانت تعيش مع البشر بشكل يومي، كما سهلت الكلاب اصطياد الفرائس الصغيرة والسريعة، مقارنة بفترة سابقة قبل وصول الكلاب، وذلك من خلال زيادة واضحة في عدد عظام الأرانب في المنطقة التي شملتها الدراسة.

وساهمت النقوش الصخرية في اكتشاف تاريخ العلاقة بين البشر والكلاب، وتعود أقدم هذه النقوش إلى حوالي 8 آلاف سنة، وقد اكتُشفت فوق صخرة رملية على حافة نهر قديم في الصحراء العربية، وتظهر صيادا يسحب قوسه للرمي، يرافقه 13 كلبا كل واحد منها يحمل علامة مميزة، ويمتد خطان من عنق اثنين من الكلاب إلى خصر الرجل، مما يدل على إتقان البشر في تلك الفترة لفن تدريب الكلاب والتحكم فيها.

وأكدت أيضا دراسة الحمض النووي عند الكلاب قدم العلاقة بين الإنسان وصديقه الوفي، إذ تعود إلى 11 ألف سنة مع نهاية العصر الجليدي الأخير. وكشفت أحدث دراسة علمية قام بها خبراء في مجال علم الوراثة، أن سلالات كلاب جر العربات والزلاجات في سيبيريا ظهرت منذ 10 آلاف سنة على الأقل، بعدما أخضعوا حوالي 144 سلالة من الكلاب والذئاب الحالية للفحص، وقارنوا حمضها النووي بعينات أخذت من فك “كلب جر”، عُثر على عظامه في أحفورية عمرها 35 ألف سنة في سيبيريا.

للكلاب البوليسية مهام كثيرة في الكشف عن الجرائم والمخدرات وحتى الناس تحت الأنقاض

 

حاسة الشم والبصر.. قدرة الكلب الخارقة التي سخرها لخدمة البشر

ساعدت حاسة الشم القوية لدى الكلاب البشر على مر التاريخ في عدة ميادين، فمع بداية القرن العشرين أصبحت الكلاب البوليسية المدربة حاضرة في تحقيقات الشرطة، واستطاعت بحاستها القوية التمييز بين الروائح، والكشف عنها لمسافة طويلة، ويستعان بها دائما في الكشف عن مخابئ المخدرات، وتستعملها فرق الإنقاذ لإيجاد الجثث، أو العالقين تحت الأنقاض في حال وقوع كوارث، خصوصا الزلازل والانهيارات الأرضية.

وتستطيع الكلاب المدربة تمشيط ما يقرب من 100 متر مربع في أقل من خمس دقائق، أما المنقذون البشر فيلزمهم خمس وأربعون دقيقة على الأقل من أجل ذلك. وتتوفر بعض أصناف الكلاب البوليسية على عدد ضخم من خلايا الشم يقدر بـ220 مليون خلية شمية، مقابل 5 ملايين خلية شمية لدى الإنسان.

ووصلت قدرة الكلاب على الشم إلى مستويات كبيرة جدا، حتى أن كلبين من فصيلة “الراعي الألماني” استطاعا تشخيص سرطان البروستاتا لدى الإنسان بمعدل 98%، عبر شم عينات للبول للأشخاص المصابين بحسب دراسة إيطالية أجراها باحثون في جراحة المسالك البولية.

ولا يقتصر الأمر على حاسة الشم، فحتى قدرات الكلاب على السمع تفوق بكثير مثيلاتها لدى البشر، ويستطيع الكلب أن يسمع على مسافة 30 متراً الصوت نفسه الذي يستطيع الإنسان سماعه من مسافة لا تزيد عن 5 أمتار.

وتؤكد الدراسات أن الكلاب لا تستطيع رؤية الألوان، وإنما ترى فقط الأبيض والأسود، لكن هذا لا يعني بالضرورة ضعف حاسة النظر لديها، فبعض الفصائل التي تُستعمل خصوصا في الرعي، ترى على مسافات أبعد وبشكل أفضل، وتتمتع بإطار رؤية أوسع، يصل إلى 120 درجة من الجانبين، مقابل 90 درجة كحد أقصى عند الإنسان.

 

تزاوج الأصناف لتحسين السلالات.. آثار الإنسان على تناسل الكلاب

يسعى البشر دائما إلى الحصول على أفضل النتائج من أداء الكلاب، وتطوير قدراتها بشكل أكبر من خلال تدابير مكثفة، تجعلها قادرة بشكل تدريجي على اتباع حدسها، والعمل باستقلالية تامة عن البشر. ومن أجل ذلك، يجب أولا اختيار السلالة القادرة على التفاعل بسرعة مع التعليمات والإرشادات بفضل حواسها القوية.

وأظهرت التجارب والأبحاث أن بعض السلالات تتفوق على أخرى، وتحظى بمزايا تجعلها مطلوبة لدى أجهزة الشرطة مثلا، وأشهر هذه الفصائل، “الجيرمن شيبرد” أو الكلب الراعي الألماني، والكلاب البوليسية الألمانية والهولندية، بالإضافة إلى سلالة “اللابرادور” البريطانية وسلالة “الدبرمان” التي تتميز بالذكاء والسرعة.

وأصبح اليوم اختيار الكلاب المناسبة لكل مهمة مرتبطا بالفصيلة التي تنتمي إليها، ولأن الإنسان يسعى دائما للحصول على أفصل النتائج، فقد أصبح يعتمد على التكاثر الانتقائي للكلاب، من خلال عزل السلالات النقية والحرص على مزاوجتها فيما بينها، للحفاظ على خصائصها في الأجيال المقبلة، أو حتى مزاوجة صنفين مختلفين للحصول على سلالة جديدة تجمع بين عدة خصائص وسمات إيجابية وجذابة، فـأصبحت الكلاب الحالية تتوفر على “شجرة عائلة” تتضمن مزيجا من الاسم أو “العلامة التجارية” للمربي أو سلالة محددة أنتجها المربي.

ومنذ ظهور الكلاب الأليفة الحالية قبل حوالي 15 ألف سنة، التي يعتقد أنها تطور لسلالة من أنثى ذئاب شرق آسيا؛ قام الإنسان من خلال تدخلاته بتطوير ما لا يقل عن 350 فصيلة متعددة الأشكال، ومكنت الأبحاث الجينية على الكلاب منذ تسعينيات القرن الماضي في الولايات المتحدة وفرنسا من تطوير العديد من السلالات التي وقع تحديد التسلسل الجينومي الخاص بها، وهو يشبه كثيرا الخريطة الجينية للبشر.

علاقة الكلاب بالإنسان علاقة استثنائية

 

هرمون “أوكسيتوسين”.. دراسة تؤكد الحب الفطري بين الكلب والإنسان

أكدت عدة دراسات أن العلاقة بين الإنسان والكلاب لا تقتصر على حدود الغريزة والرابط القائم على تقديم الطعام كمكافأة على الطاعة والولاء، بل تتجاوز ذلك إلى حب فطري نشأ تدريجيا طيلة سنوات من استئناس البشر بالكلاب.

وكشفت دراسة أنجزها باحثون يابانيون ونشرت في مجلة “ساينس” العلمية سنة 2015 أن هرمون “أوكسيتوسين” الذي يوصف بأنه هرمون الحب والثقة واللذة، يزيد إفرازه لدى البشر وكلابهم الأليفة عندما ينظران إلى بعضهما كما يحدث بين الأم وطفلها، مما يؤدي إلى توطيد العلاقة بينهما.

وأجرى الباحثون اليابانيون التجربة نفسها على الذئاب من خلال وضعها بقرب البشر لفترة معينة، وقاموا بقياس نسبة هرمون “أوكسيتوسين” لدى الطرفين، فلاحظوا عدم إفرازه، حتى عندما تكون ذئابا معتادة على وجود الإنسان في محيطها. ويدل ذلك على أن تفاعل الكلاب لم ترثه عن الذئاب سلفها الأول، ولكنها قامت بتطويره طيلة سنوات من احتكاكها مع البشر.

ولا يقتصر الأمر على الهرمونات فقط، فهناك دراسات عدة أجريت على الدماغ بطريقة التصوير بالرنين المغناطيسي، وقد أظهرت وجود مناطق تتفاعل بقوة عند احتكاك البشر مع الكلاب. وتوصل أيضا باحثون من المجر إلى أن أدمغة الكلاب تستجيب للأصوات بطريقة مماثلة لاستجابة الدماغ البشري، وتكفي أصوات الإنسان المفعمة بالعاطفة مثل الضحك والبكاء، لإثارة استجابات مماثلة لدى الكلاب.

داء الكلب أحد أخطر الأمراض التي يمكن للكلاب أن تؤذي بها البشر

 

داء الكلب.. تحول الحيوان الأليف إلى وحش مفترس

يوجد وراء هذا التقارب المذهل بين البشر والكلاب جانب مظلم ظل حاضرا في أطروحات معارضي تربية هذه الحيوانات الأليفة التي يصفونها بالعدوانية والمفترسة أحيانا، خصوصا عند تكرار حوادث اعتداء الكلاب على أصحابها أو على أجانب يكونون أحيانا أبرياء.

وزاد هذا الهلع والخوف بعد ظهور داء الكلب الذي خلق موجة هلع بسبب تحويله للكلاب من حيوانات أليفة إلى عدوانية، وتسببه في نقل عدوى قاتلة نحو الإنسان إثر تعرضه للعض أو الخدش من الكلب أو الحيوان المصاب، وتمثل حالات العدوى البشرية المنقولة من الكلاب المصابة 99% من الحالات.

وساهم العالم الفرنسي “لويس باستور” في محاربة “داء الكلب” من خلال تطوير لقاح فعال في العام 1885، وقد جرى تطويره فيما بعد على مر السنين، ورغم ذلك فما زال هذا المرض ينتشر في جميع أنحاء العالم، لكن أزيد من 95% من الوفيات البشرية تسجل في قارتي آسيا وأفريقيا.

وبحسب منظمة الصحة العالمية يحصل سنويا أكثر من 29 مليون شخص في العالم على التطعيم بعد التعرض لعض الحيوانات وعلى رأسها الكلاب، ويقدر العبء الاقتصادي السنوي لداء الكلب المنقول بواسطة الكلاب بنحو 8.6 مليار دولار أمريكي.

 

ذكريات الكلاب القديمة.. سلوك انتقامي ولو بعد حين

بعيدا عن داء الكلب الذي يعتبر مرضا فيروسيا يسبب التهابا حادا في الدماغ، حاول العلماء إيجاد تفسير للتحولات التي قد تطرأ في سلوك الكلب، فيتحول معها ليصبح عدوانيا، ويهاجم أحيانا حتى صاحبه.

وتوصلت دراسات علمية أجريت في السنوات الأخيرة إلى أن الكلاب تتمتع بذاكرة قوية، وتستطيع أحيانا استرجاع بعض الذكريات الإيجابية مع صاحبها قد تعزز من الرابط الموجود بينهما، ولكن في أحيان أخرى قد تتذكر أشياء سلبية كسوء المعاملة أو التعذيب أو الاحتجاز، رغم مرور وقت طويل عليها، ويمكن بسبب ذلك أن يصدر عنها رد فعل عنيف قد يصل إلى اعتداء الكلب على صاحبه بشكل شرس.

وتعتبر ردود فعل الكلاب العنيفة مبنية بالأساس على سلوك بشري سيء لفترة طويلة، لكن هناك أيضا تصرفات يومية يقوم بها الإنسان قد تغير سلوك الكلب الذي لا يهاجم أحدا في الوضع الطبيعي، رغم وجود أصناف معينة معروفة بشراستها، وأخرى تميل أكثر للألفة.

وهنا يُنصح بمراقبة لغة الكلب الجسدية، وطريقة تعامله مع محيطه الخارجي، فالكلاب عموما، كائنات حساسة، لا تتحمل الحركة السريعة أمامها، وتغيظها أحيانا تصرفات الأطفال، ولا تستطيع أحيانا فهم سبب فرض عقوبات عليها كالضرب أو الحجز أو التجويع.


إعلان