“جاك السفاح”.. حل لغز الجرائم التي هزت لندن بعد 130 عاما
خاص-الوثائقية
قبل نحو 130 عاما أرعب العاصمة البريطانية لندن قاتل متسلسل سيء السمعة أطلق عليه اسم “جاك السفاح”، فالرجل الذي قتل عددا من نسوة خلال أشهر شكل بداية ظاهرة القتل المتسلسل المتعارف عليه الآن، لأنه ارتكب جرائمه بطريقة فظيعة وبتجرد كامل من العاطفة.
وفي السنوات التي تلت ذلك حاول كثيرون التعرف على هوية “جاك السفاح” لكنهم أخفقوا، ولهذا استخدم فيلم “جاك السفاح.. استئناف القضية” الذي عرض على الوثائقية كل التقنيات الحديثة التي توصل إليها الطب الشرعي في القرن الـ21 لمحاولة إغلاق هذه القضية التي طال أمدها.
ويعد هذا الفيلم أول تحقيق معمق لأحد أكبر الألغاز التي لم تحل في التاريخ الإجرامي، ووفر هذا التحقيق أدلة جوهرية للمساعدة في الوصول لحقيقة إحدى أشهر القضايا وأقدمها في العالم.
وايت تشابيل.. مسرح مقتل النسوة الخمس
نعود إلى عام 1888 وتحديدا للفترة الممتدة بين أغسطس/آب ونوفمبر/تشرين الثاني من ذلك العام، إذ شهدت منطقة وايت تشابيل في لندن، سلسلة من الجرائم ذهبت ضحيتها 5 نسوة، ورغم مرور كل هذه السنوات لم يصل الخبراء للعدد الحقيقي لضحايا “جاك السفاح” ولكن معظمهم متفقون على أن النسوة الخمس هن ضحايا هذا السفاح وأطلق عليهن “الخمس الرئيسيات”.
كثيرة هي الروايات والأخبار التي نشرت في الصحف البريطانية وقتها عما جرى في وايت تشابيل، وجرت تحقيقات وأطلقت عمليات بحث ضخمة وواسعة للقبض على القاتل، ولكن كل هذه المحاولات باءت بالفشل.
وعن هذه الجرائم يقول عالم الجنايات البروفيسور “ديفيد ويلسون”: من خلال القضايا التي درستها أو عملت عليها، كان هناك نمط للجرائم المتسلسلة، هذا النمط يوفر للمحققين عدة أدلة تشير إلى هوية الجاني.
غير أن العثور على أدلة جديدة لن يكون سهلا لأن الكثير من المواقع الأصلية التي حصلت فيها أو قربها الجرائم لم تعد موجودة أصلا ولكن فريق التحقيق استطاع الحصول على التقارير الطبية التي تحوي على معلومات مفصلة عن جرائم القتل.
ولهذا طلب الفريق من أحد أفضل الأطباء الشرعيين في بريطانيا المساعدة في كيفية تطور أساليب السفاح وعنفه ضد ضحاياه.
“العنف التعبيري”.. أسرار طاولة التشريح الرقمي
يقول الدكتور “جيسون باين جيمس” الأخصائي في الطب الشرعي وهو يقف قرب طاولة تشريح رقمية: إن هذه الطاولة وسيلة تعليمية مذهلة، فمثلا عند محاولة شرح إصابات تعرضت لها ضحية في أي جريمة أمام المحكمة، تمكننا هذه الطاولة وعبر شرائح خاصة من شرح الخريطة البنيوية للجسم وتكوين أعضائه.
ويشرح “ويلسون” أن السفاح كان يعتمد أسلوب الإفراط في القتل لأنه استخدم بطشا زائدا عن اللازم للإجهاز على ضحاياه، فقتل الضحية كان البداية فقط، فالقاتل كان يريد تحقيق مآرب أخرى من خلال قتل ضحيته الأولى “بولي نيكولز”.
يقول “ويلسون”: في هذه الجريمة كانت هناك عناصر مضبوطة ومنظمة وأخرى خلاف ذلك، فالعناصر المنظمة مثل قطعه للحلق لمنع الضحية من طلب النجدة، الأمر الآخر هو أن القاتل استخدم العنفيْن الآلي والتعبيري، فالأول يعني قتل شخص معين وتركه، لكن السفاح استخدم عنفا مفرطا لقتل ضحيته، أي أننا دخلنا في نطاق “العنف التعبيري” وهذا ما ولد لدي حيرة لأن تصرفات السفاح غير معتادة بشكل كبير.
“التشريح الجنائي”.. تقفي خطوات القاتل في مسرح الجريمة
يعتمد “ويلسون” تقنية جديدة لكشف الجرائم تدعى “التشريح الجنائي” وهي تتطلب السير في مسرح الجريمة وتتبع خطوات القاتل، وبما أن المواقع الأصلية للجرائم اندثرت فقد كان لا بد من إعادة بناء وتصميم مسرح الجريمة الثانية التي كانت ضحيتها “آني شابمان” والاستعانة بمحققين محترفين للمساعدة في كشف اللغز.
أحد هؤلاء المحققين هو “بيتر بليكسلي” الذي زار مسرح الجريمة المصمم ليوفر تحليلا حديثا لمسرح الجريمة، ويقول عن السفاح إن “مسرح الجريمة يخبرنا بشكل صارخ عن العقلية المروعة لهذا السفاح وعن سلوكه، فقد اتبع استراتيجية عالية الخطورة لتنفيذ جريمته في مثل هذا المكان الذي له مدخل ومخرج واحد، وإمكانية ملاحظة عدد كبير من سكان المبنيين المطلين على مسرح الجريمة لما يحصل فيها عالية جدا، وإمكانية مشاهدته من سكان المبنيين وهو يغادر وملابسه ملطخة بدماء الضحية كبيرة أيضا.
ومن خلال التشريح الجنائي استطاع “ويلسون” الوصول لخلاصة أولية مفادها أن القاتل يسكن في الجوار ويعرف المنطقة كمعرفته براحة يده.
إشباع الرغبة الجنسية.. جريمة مزدوجة في آن واحد
بعد مقتل “شابمان” ارتكب السفاح جريمة مزدوجة راحت ضحيتها “إليزابيث سترايد” و”كاثرين إيدوس”، إذ قتلهما بفارق زمني يصل لنحو ساعة وفي منطقتين يفصل بينهما 1.5 كيلومتر، ولهذا فإن توقيت وجغرافية المنطقة يعتبران بحد ذاتهما دليلين مهمين، لأنهما يخبران أن القاتل يعرف المنطقة بتفاصيلها.
يقول “ويلسون”: قتل السفاح “سترايد” ولكنه لم يستطع التمثيل بجثتها بعد ظهور شخص كان يركب عربة يجرها حصان، ولهذا شعر السفاح بالإحباط الجنسي الذي دفعه لمغادرة المكان بسرعة بحثا عن ضحية أخرى ووجد ضالته في “كاثرين إيدوس”.
ووقتها شاهد شخصان السفاح في المنطقتين اللتين وقعت فيهما الجريمتان وأعطيا تقريبا نفس الأوصاف ولكنهما اختلفا في الملابس، وهذا ما يفسره “ويلسون” بقوله: ذهب السفاح لمنزله وغير ملابسه، فالجريمة المزدوجة تعطي مؤشرات على أن الرجل ليس مهتما بالقتل فقط، لأن قتل “إليزابيث سترايد” لم يكن كافيا له، فهناك نوعان من القتلى، أحدهما يهتم بالقتل، والآخر يركز على تفاصيل العملية، فلو كان السفاح “جاك” من المجرمين الذين يركزون على القتل فقط لكان اكتفى بقتل الضحية الأولى وعاد لمنزله، ولكن ما يؤكد أنه من النوع الثاني هو تمثيله بجثة الضحية الثانية “إيدوس”، وهذا مرتبط بكراهيته للنساء وحاجاته الجنسية وعدم إشباع رغباته بقتل “سترايد”.
“ماري جين”.. ضحية خلف الأبواب المغلقة
في الجريمة المزدوجة قطع السفاح عنق “إليزابيث سترايد” ومثل بجثة “كاثرين” وشوه وجهها ونزع أحشاء البطن الداخلية، وهذا يدل على أن عنف “السفاح” يزداد مع كل جريمة يرتكبها، ووصل إلى مستوى غير مسبوق والذروة مع “ماري جين كيلي” ضحيته الخامسة.
كانت “ماري جين” الضحية الوحيدة التي لم تقتل في الشارع أو في ساحة بل خلف الأبواب وفي غرفتها، إذ تحقق للسفاح المكان والوقت اللازمان لتحقيق أحلك تصوراته السوداوية وإشباع رغباته الشاذة.
فحين عثر المحققون على جثة “ماري جين”، أُرسل المصور لالتقاط الصور الوحيدة لها ولمسرح الجريمة، ولهذا السبب أعيد بناء غرفة “ماري جين” بنفس الحجم والقياسات لتساعد في كشف ما حصل في ليلة 9 نوفمبر/تشرين الثاني 1888.
وبحسب “التشريح الجنائي” الذي قام به “ديفيد ويلسون” و”بيتر بيلكسلي”، فإن السفاح “كان يعطي انطباعا خادعا ويشعر النساء بالراحة، ولهذا لم يكن هناك فوضى في الغرفة، وملابس الضحية لم تكن مبعثرة ولا يوجد آثار خلع وكسر للغرفة، والواضح أن السفاح نفذ جريمته براحة ولم يكن مستعجلا لمغادرة المكان”، بحسب البروفيسور “ويلسون”.
وأوضح “ويلسون” أن “أكثر ما يصدم في جريمة “ماري جين” هو الوحشية الذي صبها السفاح على وجهها”. وبحسب تقرير الطبيب الشرعي وقتها فقد كان وجه “ماري جين” محطما ومثخنا بجراح بليغة وفي جميع الاتجاهات، وأن أنفها ووجنتيها وحاجبيها وأذنيها انتزعت من أماكنها، فهذه الجريمة لم تكن عملية قتل بل تشويها كليا مروعا.
ويلخص “ويلسون” شخصية السفاح وحالته العقلية –بعد هذه الجريمة- بقوله: كان يكره النساء بشدة، فعندما أتيح له الوقت الكافي للاستفراد بجثة امرأة ميتة عمد إلى تشويهها وطمس ملامحها البشرية وتقطيع أوصالها، فهناك عناصر في مسرح الجريمة تدل على حالة من الشبق الجنسي الشاذ وهي حالة من الولع الجنسي يبلغ فيها القاتل حالته من الذروة الجنسية بضرب ضحاياه وطعنهم.
تقنية “هومز”.. ربط صلات الوصل بين الجرائم
بعد تراكم المعطيات والتحليلات حول القضية التي تعود لأكثر من 130 عاما، كان لا بد من استخدام نظام جديد يستخدم في بريطانيا للكشف عن الجرائم الرئيسية، وهو تقنية “هومز” (نظام الاستعلامات الرئيسية لمكتب التحقيقات الرئيسي) للتحليل الجنائي، وهي المرة الأولى التي يستخدم فيها هذا النظام لسبر أغوار جرائم “جاك السفاح”.
وقد ربط نظام “هومز” جميع المعلومات المتوفرة عن الجرائم الخمس الأساسيات بجميع الجرائم المرتكبة في تلك الفترة، ووجد صلات الوصل بينها، وتوصل النظام إلى أن الجرائم الخمس التي ارتكبها “جاك السفاح” مشابهة لجريمة قتل سيدة تدعى “مارثا تابرام” التي لم تضف قط لقائمة جرائم السفاح رغم أنها هي أولى ضحاياه، والجريمة الأخيرة تساعد الفريق لمعرفة أين كان يسكن القاتل.
يقول “ويلسون” إنه يجب اللجوء لأسلوب “التنبؤ الجغرافي” الذي يقوم ببساطة على التنبؤ بمكان سكن القاتل من خلال الأماكن التي ارتكب فيها جرائمه.
تضييق النطاق الجغرافي.. استنطاق مواقع القتل
يستعين الفيلم بأحد أفضل المتنبئين الجغرافيين في بريطانيا الدكتورة “سام لاوندريغان” التي عملت مع الشرطة في كشف عدة جرائم، وقد شرحت الفارق بين “المتنقلين” و”المغيرين” وتقول: إن هذين النمطين متميزان ولكنهما يعطيان فكرة عن العلاقة بين مكان سكن المعتدي والمكان الذي يرتكب فيه جرائمه، فالمتنقل يكون مكان سكنه بعيدا عن الذي يرتكب فيها جرائمه أما المغير فهو الذي يكون مكان سكنه ضمن المنطقة التي يرتكب فيها جرائمه.
وتوضح أن “القتلى المتسلسلين وبنسبة 85% عادة ما يكونون من نمط “المغيرين”. ويتدخل “ويلسون” ليقول إنه: من الواضح أن “جاك” السفاح من نمط المغيرين ويسكن في منطقة وايت تشابيل أو على حدودها.
وهذا ما وافقته عليه الدكتورة “لاوندريغان” التي قالت: أحاول تضييق النطاق الجغرافي الذي تحرك فيه القاتل، لأنه عندما يرتكب جريمته الأولى لا يعرف ما الخطوة التالية، وقلة خبرته وثقته بنفسه تجعله ملتصقا بمكان إقامته كملاذ آمن يستطيع اللجوء إليه بعد تنفيذه لجريمته.
“التنبؤ الجغرافي”.. تقنية تطابق شهادة الشهود
بخلاصة “التنبؤ الجغرافي”، فإن المؤشرات تفيد أن السفاح عاش في منطقة وايت تشابيل أو على الحدود المتاخمة لمكان جريمة “مارثا تابرام” التي اعتبرت أولى ضحايا “جاك السفاح”، وهذا كان مفتاح حل اللغز.
وعن هذه الخلاصة يؤكد “ويلسون” أن “القاتل على دراية جيدة بمنطقة وايت تشابيل وهذا يساعدنا على استبعاد مجموعة من المشتبه بهم آنذاك”.
وبعد تفنيد أسباب عدم ارتكاب هؤلاء المشتبه بهم للجرائم، توصل “ويلسون” إلى مشتبه به جديد لم يكن اسمه مطروحا في السابق، ويعيش في وايت تشابيل، وهو شخص عادي جدا لدرجة تبعده عن الشبهات، ولكن هذا الشخص معروف بنزعته العنيفة وتنطبق عليه جميع معايير قضيتنا الغامضة، ويدعى “آرون كوزمنسكي”، وجميع الأوصاف التي كان قد كشف عنها شاهدا العيان تنطبق على “كوزمنسكي”.
وإضافة إلى شهادتي شاهدي العيان، هناك أدلة أخرى توصل لها التحقيق المعمق وتشير إلى “كوزمنسكي”، وهي:
– معرفة منطقة وايت تشابيل بشكل ممتاز.
– خلال ليلة الجريمة المزدوجة ذهب لمنزله لتغيير ملابسه بعد الجريمة الأولى.
– نظام “هومز” رجح أن تكون “مارثا تابرام” الضحية الأولى للسفاح.
– التنبؤ الجغرافي أظهر أن القتلة المتسلسلين يسكنون قرب أماكن سكن ضحاياهم وكان “كوزمنسكي” يعيش مئات الأمتار فقط بعيدا عن المكان الذي وقعت فيه جريمة “تابرام”.
مرض الغرغرينا.. مصرع السفاح المهاجر
هاجر “آرون كوزمنسكي” إلى بريطانيا مع عائلته عام 1881 واستقر في منطقة وايت تشابيل، وكان يسكن مع أخيه الذي كان وصيا عليه وأخته التي كانت تعيش معهما في المنزل نفسه، وتشير السجلات الطبية إلى أن “كوزمنسكي” عانى من مشكلات عقلية عام 1885، وأصبح مرتابا ويهذي بصوت عال، وكان يدعي أن هذه الأصوات كانت تأمره بالتصرف بطريقة عنيفة.
لكن ما الذي جذب الشرطة إليه يا ترى؟
يقول “ويلسون”: شرعت الشرطة في تحقيقات موسعة وطرقت أبواب المنازل للبحث بداخلها عن أي أدلة عن مرتكبي جريمة “ماري جين”، وخلال هذه التحقيقات وصلوا إلى عائلة “كوزمنسكي” وقابلوا “آرون” وراقبوه بشكل غير رسمي، وهذه المراقبة منعته من الاستمرار بجرائمه ولكن تلك لم تكن النهاية، إذ أودعته عائلته بدار للمختلين عقليا عام 1890 بعدما هاجم شقيقته بسكين، ومنذ ذلك الحين تنقل بين دور المختلين عقليا.
مات الرجل الذي يعد أسوأ القتلى المتسلسلين سمعة في بريطانيا وأشهرهم على الإطلاق بعد إصابته بمرض “الغرغرينا” عام 1919، أي بعد 31 عاما من ارتكابه جرائم ما كان يعرف بـ”جاك السفاح”.