“200 مليون مفقودة”.. خطط الغرب في إفناء الفقراء

خاص-الوثائقية
بعد الحرب العالمية الثانية، أسس أمريكيون أثرياء وعلماء بارزون حركة جديدة هدفها العمل على تقليص عدد الفقراء في العالم. فكيف فعلوا ذلك؟
نساء يجهضن بناتهن، ورجال يبحثون عن زوجة، وفتيات يُختطفن للسبب ذاته، وآباء وأمهات يائسون، و200 مليون امرأة مفقودة، كيف حدث ذلك؟
هذا ما يسلط الضوء عليه الفيلم الذي بثته الجزيرة الوثائقية تحت عنوان “200 مليون مفقودة”.
هناك في “وان شي”، وهي مقاطعة في جنوب الصين، يبحث “دونغ” و”شي” عن ابنتهما المفقودة التي اختفت قبل شهر. لم يصدق أحد في البداية أن يحصل هذا في هذه القرية الوادعة، ولكنه حدث، ولم يبق لهما سوى ذكريات طفلتهما وصورها.
“دو يان” باحث اجتماعي يعمل في مؤسسة للإغاثة، يعرف الكثير من العائلات اليائسة، ضمن 200 ألف متطوع في الصين يبحثون عن فتيات مفقودات.
يقول: “زواج الأبناء في الصين مكلف، فأهل العروس يتوقعون هدايا بمبالغ ضخمة يوم الزفاف، وهذا ما لا يتوفر غالبا، فتقوم عائلة باختطاف فتاة وتربيتها حتى تكبر ثم تزوجها لابنها”.
تعاني الصين من نقص حاد في عدد المواليد من الإناث، فمقابل كل 135 مولود ذكر، هناك 100 أنثى فقط.
انفجار سكاني.. أفكار شيطانية تلعب برأس الساسة الأمريكيين
بعد الحرب العالمية الثانية، أسس أمريكيون أثرياء وعلماء بارزون حركة جديدة هدفها العمل على تقليص عدد الفقراء في العالم. وكانت عائلة روكفلر ومثلها عائلة فورد على علاقة خاصة بالحكومة، ولهما تأثير على أعلى المستويات السياسية في البلاد من خلال مؤسسات مثل روكفلر ومجلس السكان.
لقد أثار هؤلاء النافذون الكثير من المخاوف بشأن حدوث انفجار سكاني، وما لبث أن انتقل الخوف إلى دول أخرى حول العالم، وشكلت بدايات خطة عالمية للتخلص من 10% من سكان العالم.

لم يكن التركيز فقط على عدد السكان، بل نوعيتهم كذلك، فتلك المؤسسات قالتها صراحة “لا بد من فعل شيء حيال معدلات النمو والخصوبة حول العالم خشية أن يحدث ذلك الانفجار، وخصوصا أولئك الناس الفقراء”.
إذا فالهدف ليس الارتفاع بمستوى الرعاية الصحية والتعليم كما كان يروج أحيانا، ولكن القضاء الصريح على شريحة الفقراء في العالم.
سيطرت هذه الأفكار على السياسة الأمريكية الرسمية في الستينيات، فقد أقر الرئيس جونسون شروطا لمنح المساعدات للدول، وعلى رأس هذه الشروط أن تقلص الدولة المستفيدة عدد سكانها، وكانت التعليمات واضحة لوزارة الزراعة، دراسة المساعدات الغذائية للدول، وماذا تستفيد أميركا في المقابل، ورأى العالم أن هذه سياسة غربية تهدف إلى استعمار جديد للدول.
لكن البرامج الأمريكية لم تتوقف، بل اكتسبت صفة دولية عندما تبنتها الأمم المتحدة من خلال صندوق الأمم المتحدة للسكان (UNFPA)، وساندتها دول مثل السويد وبريطانيا وألمانيا وسويسرا.
كوريا الجنوبية.. الدعم مقابل تحديد النسل
كانت كوريا الجنوبية من أوائل الدول التي خضعت لبرامج تقليص النمو السكاني، فهي بلد مدمر في أعقاب الحرب الكورية، وعدد الأطفال في تزايد، وقد تبنت أمريكا إعادة الإعمار بالكامل، مع إعطاء أولوية لتقليص عدد الأطفال. ولم يكونوا معنيين بمعالجة الفقر قدر اهتمامهم بالحد من إنجاب الفقراء.

وقامت جيوش من المتطوعين تزور القرى والمزارع من أجل التوعية بوسائل منع الحمل بل وتوزيعها علنا، وقدمت الدول الغربية الوحدات المتنقلة لإجراء عمليات الإجهاض، وزرع وسائل منع الحمل، وذلك بعد تعليمات محددة من مجلس السكان الأمريكي إلى السلطات الكورية الجنوبية من أجل تحديد عدد السكان.
أنديرا غاندي.. إجهاض الملايين من أجل حفنة من الدولارات
كانت الهند تعاني من مجاعة حادة في مواسم الجفاف، ورضخت أخيرا للشروط الأميركية، وتعهدت أنديرا غاندي بالعمل على تقليص عدد سكان الهند للحصول على المساعدات. ومنذ 1956، وصل الطبيب “شيلدون سيغل” وأسس دائرة لطب الإنجاب في أكبر مستشفيات نيودلهي، ودرّب طلاب الطب الهنود، وقام بتهريب النسخ الأولى من اللولب الذي لم يكن مرغوبا في الغرب، وقال إنها أدوات زينة لعيد الميلاد، وقام بتركيبها في أرحام النساء دون علم الحكومة، وزرع بعضا منها في أرحام القرود.
أعطت الحكومة الضوء الأخضر لتوزيع اللولب في كافة أنحاء البلاد، وبدأت المنظمات الأمريكية تصدّر هذه المواد إلى الهند حتى دون العناية بتعقيمها، الأمر الذي أحدث مشاكل صحية كبيرة في أنحاء متعددة من الهند. ولكن تمت تغطية هذه التجاوزات، واستهدفت خصوبة النساء الفقيرات لتركيب هذه المواد مقابل مبلغ من المال، وأعطيت العلاوات للطواقم الطبية لتركيب المزيد.

كانت المساعدات المالية تنهال من أمريكا والأمم المتحدة والسويد والنرويج إلى جميع دول العالم من أجل تنفيذ برامج السكان، من خلال عمليات التعقيم (إفناء الخصوبة) بأسوأ الطرق الممكنة، حتى إن الدكتور سيغل وصف أحد مخيمات تعقيم الهنديات بأنها أسوأ حالا من مخابر تعقيم القرود.
وفي 1975، فيما عرف بفترة الطوارئ، أجبرت حكومة أنديرا غاندي 8 ملايين من الهنود على إجراء عملية التعقيم، وذلك لاختصار المسافة للوصول إلى الدولة العصرية، بزعمها. ولكن ما لم يخطر ببال هؤلاء أن الأطفال يعتبرون ثروة لآبائهم في بعض المناطق الريفية البعيدة، وأمانا في مرحلة الشيخوخة، خصوصا إذا كان المولود ذكراً.
أتاحت الرغبة بالمولود الذكر للسكان أفكارا شيطانية جديدة، وتركزت جهودهم العلمية على تحديد نوع الجنين، وابتكار أساليب لمنع الحمل والإجهاض، ليتأكد الزوجان من الحصول على مولود ذكر فقط. وفي 1971 أمكن إجراء اختبارات على أجزاء من المشيمة توصل الباحثون من خلالها إلى تحديد جنس المولود مسبقا، وبذلك ألغي الإجهاض في كثير من الدول.
كيسنجر.. عرّاب سياسة تحديد النسل في آسيا
بعد زمن طويل، تسربت وثيقة سرية خطيرة للغاية أعدها هنري كيسنجر للرئيس فورد، مفادها الضغط على الدول النامية لتقليص المواليد بكل السبل، بما فيها الإجهاض، وذلك في نفس الوقت الذي خرجت فيه مظاهرات نسائية في أمريكا تدعو لحرية المرأة في التحكم بجسدها وخصوبتها.
أدى هذا إلى زيادة المواليد الذكور في دول آسيا، الأمر الذي نتج عنه خلل في التركيبة السكانية، ومشاكل للإناث في البيئات الفقيرة. فهذه “ساجينا” فتاة هندية في التاسعة عشرة من عمرها، تحكي قصتها المريرة، وكيف أن أخاها الذي تعيش في بيته أنقذها عدة مرات من عمليات اختطاف تعرضت لها.

ويضيف أخوها “شامزول” أن ساجينا استطاعت الاتصال به وأبلغته عن مكانها، ولكن لأنهم من طبقة فقيرة دنيا لم يستطع فعل شيء لها، بل إن الشرطة لم تستجب لشكواه واستغاثته، فسافر 2000 كلم لإيصال شكواه لمنظمة حقوقية تمكنت من الضغط على الشرطة لإنقاذ شقيقته.
تحدث كبير القرية إلى الشرطة، وقال إنه دفع 50 ألف روبية من أجل تزويج ساجينا لأحد شباب القرية، وأنه أشهد على زواجها 11 رجلا، وكل ذلك بالقانون، ولكن تبيّن بعد سماع أقوال ساجينا أنهم زوجوها لشاب واحد من أجل أن يستمتع بها جنسيا سبعة آخرون، وهذا كله بسبب نقص عدد الفتيات في تلك المنطقة.
يتحدث الدكتور “بيدي” عن تجربته في اختيار جنس الجنين، فقد موّلت مؤسسة فورد المشروع بالكامل في السبعينيات، ودرَّبت أطباء هنودا في برامج ماجستير في علم الجينات من أجل تحديد الجنس.
ويذكر أن المرأة الحامل كانت تدخل غرفة العمليات، ويتم فحص الجنين عن طريق السائل الأمينوسي، فإذا تبين أنها أنثى تُجهض الحامل فورا وينتهي كل شيء.
كانوا بهذا يصطادون عدة عصافير بحجر واحد؛ تخفيض عدد المواليد، وتحقيق رغبة الآباء في ولد ذكر، وتقليص عدد الإناث الحوامل مستقبلا.
“اضربوه أو اقتلوه.. لكن لا تنجبوه”
في الصين أيضا يتخلصون من الأجنة الإناث، وهنالك واحد من كل خمسة ذكور يولدون لن يحصل على زوجة في المستقبل، ولذا تلجأ الأمهات للترويج لأبنائهن في أسواق الزواج المتعددة، وهناك قسم في هذه الأسواق للأمهات ذوات الولد الواحد، حيث انتهجت الصين سياسة الولد الواحد عدة عقود خلت.
ففي العام 1972 قام الرئيس الأمريكي نيكسون ووزير خارجيته كيسنجر بزيارة تاريخية للصين، التقيا خلالها بالزعيم ماو تسي تونغ. وبالرغم من اللهجة الدبلوماسية التي سادت اللقاء، فإن أمريكا لا تُخفي توجسها من تزايد القوة البشرية للصين، فكان من النتائج الهامة للزيارة فتح الأبواب الصينية أمام منظمات السكان لتروّج لمشاريعها في الحد من الانفجار السكاني الصيني.

ولم يتأخر خليفة “ماو” في تنبني توصيات هذه المنظمات، فشرَّع سياسة الولد الواحد، وجنّد الملايين في خدمات الرعاية الصحية من أجل توزيع وسائل منع الحمل على النساء، وكان العقاب الشديد في انتظار الأسر التي لا ترضخ للتشريع الجديد، وكتبت اللافتات على جدران المنازل: “يمكنكم أن تضربوه أو تقتلوه، ولكن لا يمكنكم أن تنجبوه”.
لقي البرنامج الصيني دعما دوليا كبيرا سواء من المنظمات أو الدول، وحتى الأمم المتحدة دعمت المشروع بـ50 مليون دولار في العام 1979، بل ومنح صندوق الأمم المتحدة جائزة للصين لتفوقها في مجال تحديد النسل، وللأسف لم تحصل على هذه الجائزة النساء اللواتي عانين من قسوة الإجهاض وفقْد المواليد، إنما تقلَّدها رئيس لجنة تنظيم النسل جنرال التحديد القسري.
تواطؤ الأمم المتحدة.. تحديد النسل تحت غطاء التنمية
ويدافع صندوق الأمم المتحدة للإسكان عن دعمه للدول بقوله: “نحن فقط نقدم لهم أمثل الحلول التي تحمي حقوق الإنسان وحقوق الأفراد، ونسعى لنصح الدول بتبني طرق أحسن من التحديد القسري الذي يتبعونه”.
ويضيف أبو بكر دونغاس المسؤول الإعلامي بالصندوق: “ليس الصندوق هو الذي منح الجائزة لغاندي والجنرال الصيني، ولكنها مجموعة الدول الداعمة لتنظيم النسل”.

وتدعم الولايات المتحدة لوحدها الصندوق بـ40% من ميزانيته، فهل هذا مؤشر على أن الصندوق لعبة في أيدي من يدعمونه؟
وتفيد الإحصاءات أنه بعد 40 عاما من الدعم للصين، هناك 30 مليون رجل صيني عازب لا يجد الفتاة المناسبة للزواج، ولذلك ينزح الكثير منهم من القرى إلى المدن الكبيرة طمعا في تحسين مداخيلهم، وليتسنى لهم الظفر بفتيات للزواج.
وبالتوازي مع معضلة نقص النساء، ظهرت مشكلة أخرى تتمثل في ظهور عصابات المتاجرة بالنساء، وتفاقمت الدعارة واختطاف الأطفال بشكل مخيف في الصين، وهذا بالضبط ما حصل مع طفلة “دونغ” و”شي” اللذين تحدثنا عنهما في بداية التقرير، فما زالت الأم تعيش على أمل أن تجد طفلتها.
اختلال التوازن الديمغرافي.. قنبلة موقوتة
يزداد سعر الفتاة المختطفة كلما زاد عدد الوسطاء، ذلك أنها تمر بمراحل متعددة، من لحظة اختطافها حتى تصل إلى الشخص الذي وقَّع على عقد الاختطاف، والذي غالبا ما يكون في مقاطعة أخرى بعيدة. وقد يصل سعر الفتاة إلى 8000 دولار، وهو سعر مناسب للمشتري، ولكن إذا لم يتم الاتفاق بين العريس والمختطَفة، فقد يتصرف والدا العريس ويبيعونها إلى خاطب آخر.
وفي جامعة تكساس تقوم الدكتورة هودسون أستاذة العلوم السياسية بتدريس وبحث هذا التفوق العددي للرجال، وتصفه بأنه قنبلة موقوتة يمكن أن تنفجر في وجه النظام السياسي للبلد في أية لحظة، وتذكر الإحصائيات أن معظم الجرائم حول العالم يرتكبها شباب غير متزوجين، وتقل هذه النسب عندما يتزوج هؤلاء الشباب وينجبون أطفالا.

وفي الهند كذلك، يزداد عدد الرجال وتزداد معدلات الجريمة والعنف ضد النساء تبعاً لذلك. ومع أن الهند حظرت معرفة جنس الجنين في التسعينيات إلا أن حالات إجهاض الإناث لا تزال في ازدياد. ولكن مع تمدد الطبقة المتوسطة في الهند ونمو نسبة المتعلمين، تتجه الرغبة إلى إنجاب أطفال أقل، ولا يبدو تفضيل الذكر مؤثرا في الطبقات العليا من المجتمع.
تزوجت أميشا من خبير كمبيوتر، ودفعت مهرا مقداره شقة سكنية لأهل العريس، والمطلوب منها أن تلد ذكرا يرث العائلة، وكان أهل زوجها قد اتفقوا مع طبيب أن يخبرهم سرا فيما إذا كانت أميشا حاملا بذكر أو أنثى، وقد تم إجهاضها رغما عنها ودون علمها ست مرات في ثماني سنوات. أما ابنتها التي معها الآن فقد أنجبتها في بيت أهلها، رغما عن عائلة زوجها.
إنقاذ ما يمكن في آسيا.. ومخاوف على أفريقيا
في الصين، يُقدر نقص الإناث بنحو 177 مليون أنثى، وهذا الرقم في تزايد بالنظر إلى كثرة الدول التي تقتل الإناث، والتي وصل عددها إلى 17 دولة. أما في كوريا فتصل كلفة الزوجة الفيتنامية حوالي 10 دولارات، فنساء كوريا لا تكفي لسد حاجة الرجال هناك. وحتى إن وجد زوجة كورية فهي لا ترغب في الإنجاب، وعدد السكان يتناقص بحدة هناك.
كوريا اليوم تراجع حساباتها، وتعلم أن سياسة الإجهاض التي كانت اتبعتها في السابق لم تكن صحيحة، وإنما كانت خطأ سياسيا فادحا، ما زالت إلى اليوم تدفع ثمنه، وها هي تحاول تصحيح المسار، وتشجع العائلات لإنجاب طفلين على الأقل. وصارت الهند أيضا تشجع إنجاب البنات أكثر، فتمنح الدولة رسالة شكر و35 دولارا لكل من ينجب بنتا.

لقد أرادوا القضاء على الانفجار السكاني على حد زعمهم، فقتلوا الفقراء بدل أن يقتلوا الفقر، ولو أنهم قدموا مستوى من الرعاية الصحية والتعليم للفقراء لكان أفضل للبشرية. لكنهم ما زالوا في غيّهم سادرين، فكانت ندرة الموارد حجة في السابق، واليوم حجتهم التغير المناخي.
كانت روكفيلر وفورد، وأصبحت اليوم غيتس وغيرها، والعين هذه المرة على أفريقيا.