وعول الألب.. حياة صخرية استثنائية في أعالي الجبال الأوروبية

خاص-الوثائقية

في شموخ وصلابة تعيش وعول الألب في قمم جبالها، متحدية الظروف الصعبة والجدران الصخرية الضخمة والوديان السحيقة، وقد عاشت قديما مع الإنسان أحقابا طوالا، إلا أنها اختفت الآن تقريبا وفنيت أجيالها واقتربت من الانقراض.

مع قدوم الربيع إلى تلك المنحدرات تبدأ الوعول بالرعي في الموسم الأمثل والأجمل في تلك الجبال، وذلك ضمن قطيع واحد في مشهد نادر، ففي السنوات الماضية وصل عددها خمسين فقط وكانت مهددة بالانقراض.

لا تبالي الوعول بالتهديدات المحيطة بها، وفي هذا الفصل تبدأ بالتخلص من شعر الشتاء الكثيف الذي يغطي جسدها، وتقوم بكشطه وفركه على طول المنحدر الصخري، وتستمر هذه العملية عدة أشهر لتحافظ على معطفها السميك عند حلول الشتاء وفي الطقس السيء.

بقرونها الصغيرة تتجمع الإناث أيضا ضمن قطيع واحد، وتزن الواحدة من تلك الإناث نحو خمسين كيلوغراما في حين يصل وزن الوعل الذكر إلى مئة كيلوغرام.

في شهر يونيو/حزيران من كل عام تترك الإناث القطيع، وتبحث كل واحدة منهن عن مساحة خاصة في زاوية منفردة بين الصخور في الأعالي، لتضع صغارها فيها مبتعدة بها عن الحيوانات المفترسة.

يتمكن الجدي الصغير من الوقوف على قدميه بعد ساعات قليلة من ولادته فوق هذا الجرف الهائل، وبعد ثلاثة أيام تبدأ رحلته في تلك الجبال متتبعا أمه أينما حلت، وبعد أسبوعين يبدأ باللعب بكل رشاقة على جدران الجبل الصخرية.

 

حماية الوعول الألبية من الانقراض.. أثمان تغري الصيادين

تعرض هذا الحيوان للصيد الجائر في بلاد عدة على مر الزمان، وعاش آخر وعل بري في محمية فيكتور إيمانويل الملكية المسماة حاليا غران براديسو في إيطاليا، وقد أرادت سويسرا أن تعمل على تكثير هذا الوعل في جبالها، لكن إيطاليا رفضت التخلي عن أي واحد منها، لكن مع إغراء الربح بدأت عمليات تهريب هذا الحيوان.

لقد عبر الصيادون الجبال والمنحدرات معرضين حياتهم للخطر بحثا عن الوعول النادرة، وكانوا يقومون بإلقاء القبض عليها حية ويحملونها على ظهورهم ويبيعونها بما يعادل ثلاثين ألف يورو في يومنا هذا.

لقد نُقل 200 وعل من وعول الألب إلى حدائق الحيوان في سويسرا بهذه الطريقة في الفترة بين عام 1880 وحتى العام 1940، ومن خلال حدائق الحيوان والمتنزهات الوطنية أعيد نقله مجددا إلى أجزاء من جبال الألب.

والطريف أن إيطاليا اضطرت لشرائه من سويسرا لتعزز أعداده على أراضيها، لذا فإن معظم الوعول الألبية تنحدر من محمية غران براديسو، ومر معظمها من حدائق الحيوان قبل عودتها إلى موطنها الأصلي.

وتشير بعض الدراسات الجينية إلى أن شريحة صغيرة منها نجت في المناطق المخفية في فرنسا في جبل غراند كاس غلاسيير، حيث أنشئت حديقة فانواز في عام 1930 لإنقاذ هذا الحيوان.

يتمكن الجدي الصغير من الوقوف على قدميه بعد ساعات قليلة من ولادته، وبعد أسبوعين يبدأ باللعب بكل رشاقة على جدران الجبل الصخرية.

 

فصل الصيف.. تربية الصغار في فوضى الحياة البرية

مع بداية الصيف تنضم الوعول إلى مجموعة من الماعز التي تقضي وقتها على التلال الصخرية، وهناك يظهر طير الزمت الألبي وطيور الداب الحذرة الملونة التي تعيش على الحشرات.

تراقب إناث الوعول صغارها أثناء لعبها، فليست الجدران الصخرية الخطر الوحيد عليها، بل يمكن للعقبان الذهبية أن تخطف الصغار ذوي الأسابيع القليلة لخفتها، حيث يصبح الحمل بعد ذلك ثقيلا ويصعب على العقبان حمله.

يتغذى الوعل الصغير على الحليب الذي يكسبه 10 كيلوغرامات خلال الصيف، في تلك الفترة من العام تكون الحياة البرية في حالة من الثوران فهناك الكثير من الحيوانات كالشمواه وفأر الحقل ونقار الخشب المنقط وغيرها.

يظهر الوعل الألبي بشكله المهيب وقرونه المقوسة للخارج على القمم الألبية، وهو يشبه الوعل الأيبيري الذي يتمتع بجسد أصغر وقرون أكثر تقوسا، وقد أعيد إدخاله إلى جبال البرانس في فرنسا في عام 2014 بفضل عمليات إطلاق السراح والمتابعة العلمية.

في منتصف الصيف تصل الوعول إلى أعلى منطقة في الجبل يبلغ ارتفاعها 2800 متر، ويستلقي قطيع الذكور الذي أرهقته حرارة الشمس.

يظهر الوعل الألبي بشكله المهيب وقرونه المقوسة للخارج على القمم الألبية

 

كهنة الطقس.. ميزة التكيف مع الظروف الجبلية الصعبة

تتميز الوعول بأقدام قسمها الداخلي مرن ومتين، وبحافة شبه صلبة مع غياب أي غشاء بين المخلبين مما يتيح لها التكيف مع شكل الصخور، ويسمح لها بالتوازن أثناء التسلق، أما قرناه الكبيران فيواصلان النمو مدى الحياة ليصل طولهما مترا ووزنهما عدة كيلوغرامات، والحقيقة ليست النتوءات هي التي تحدد عمره بل الأخاديد العميقة.

ما يميز وعول الألب هو مدى تكيفها مع الطقس، إذ إن لديها حساسية مفرطة لأي تغير في ضغط الهواء، ويمكنها البقاء والرعي حتى لو اكتست السماء بالغيوم الكبيرة، لكنها أيضا تذهب وتختبئ عند سطوع الشمس، وفي كل مرة يتبين أنها على حق، فإذا اختبأت الوعول فذلك إيذان بهبوب عاصفة مطر وبرد وثلج دون سابق إنذار وفي منتصف فصل الصيف، وهذا هو حال الطقس في جبال الألب.

في السنة الرابعة تنضم الوعول إلى قطيع الذكور، وتحرص في هذه المرحلة على الأكل كثيرا استعدادا لفصل الشتاء، ويحدث أن يظهر أحد الذئاب فيحدث اضطرابا في قطيع الوعول التي ترقبه بأعينها دون أن يركض أي منها.

لقد اختفت الذئاب من جبال الألب ثم عادت عام 1992، غير أن معظم طعامها من الشامواه (نوع من ظباء الماعز) والغزلان ومراميط الجبل (حيوانات من الفصيلة السنجابية) والأرانب البريى، فالذئاب تخشى قرون الوعول الكبيرة الحادة، كما تخشى الوجود في الأماكن الخطرة، لكن مع كل هذا فقد عثر على بقايا وعول كانت فرائس لتلك الذئاب.

تتميز وعول الألب بمدى تكيفها مع الطقس، إذ إن لديها حساسية مفرطة لأي تغير في ضغط الهواء

 

موجات الصقيع.. موسم الاختباء من الخطر الطبيعي والبشري

فصل الصيف قصير في الألب، وها هو النهار بدأ وقته يقصر، وبدأت تهب موجات الصقيع الأولى على القمم، وأخذت الغابة في التحول وغدا خوار الأيائل الكبيرة صادحا يملأ المكان جالبا معه الخريف.

حان الوقت لتغير الوعول الألبية المنطقة متقاطعة في طريقها مع بعض حيوانات الشامواه، وفي أرض الوعول وصل قطيع من الأغنام البرية، كان لقاء مثيرا للاهتمام بين الوعل الذي أنقذ من الانقراض والأغنام التي أدخلها الإنسان إلى فرنسا بغرض الصيد.

في الزمن القديم كان اختباء الوعل بين الصخور والمرتفعات كافيا للهروب من الرماح، لكن مع تطور الأسلحة النارية أصبح أكثر عرضة للصيد، فقد كانوا يصطادونه من أجل لحمه أثناء الحرب، ومن أجل بعض المعتقدات ففي داخل أذنه غضروف على شكل صليب كان يؤخذ ويستخدم كتعويذة، وهذا ما جعل الناس يبحثون عنه في الماضي.

ومع ذلك فإن حظر الصيد في يومنا هذا لا يعني وجوده بأعداد كبيرة، لأن الوعول من الأنواع النادرة التي تنظم نفسها تلقائيا، وتقوم بتكييف عدد المواليد نسبة للكثافة السكانية.

في موسم التزاوج والمنافسة على الإناث، تتناطح ذكور الوعل في سبيل الانتصار ودحر الذكور الأخرى

 

موسم التزاوج.. معارك الهيمنة على الأنثى في أعالي الجبال

مع نهايات الخريف تظهر علامات لا لبس فيها حين تنضم الذكور إلى قطيع الإناث، فالقرون تفرك بالغطاء النباتي، والذيول تثنى على طول الظهر، والرأس يميل إلى الخلف، وهذه علامات موسم التزاوج.

يمكن للوعل محاولة التزاوج في عامه العاشر، إذ تجذبه رائحة الإناث بشكل لا يقاوم، ويمكن أن يفرض سلطته على ذكر أصغر منه سنا.

على التل يحاول أحد الوعول إغواء أنثى، لكن عرضه يثير انتباه الذكر الكبير المهيمن، ومع إصابة في مقدمة قدمه ناتجة عن عراك وقرنييه الباليين قد يتمكن الوعل الأصغر من الفوز.

ومع ذلك فقد قرر الوعل المهيمن المواجهة إذ يمكن لقرونه الكبيرة أن تحسم الجولة لصالحه، يحتدم التوتر على المنحدر، وكل ضربة قوية يسددها الوعل الكبير المهيمن للوعل الأصغر تقذفه إلى الوراء، حتى أصبح الوضع خطرا بالنسبة للوعل الأصغر ففضل الانسحاب، وهذا الاستسلام يعني عدم تغيير التسلسل الهرمي في القطيع، وهنا سيفرض الذكر المهيمن سطوته لسنوات.

على ضوء القمر تعود المعارك الملحمية وتستمر حتى الفجر، ولكن وجود أنثى بالقرب من ساحة المعركة يضيف قوة للوعل الأصغر، مما يمكنه من الهيمنة على خصمه الأكبر وحسم القتال.

بدأ الوعل الأصغر يدفع الذكر المهيمن مرات ومرات، حتى علق بين الصخور، فأتاح ذلك المجال له ليسدد ضربة قاضية بقرنيه لينتصر ويصبح أمير الوادي، مما يمكنه من الاقتراب من الإناث وإبعاد الذكور الأخرى.

تخرج الذكور ألسنتها لمعرفة ما إذا كان الوقت مناسبا وذلك بوجود بعض مستقبلات إلا أن الأمر لدى الأنثى ليس بهذه السهولة لأن الماعز قابلة للتلقيح يوما واحدا فقط في السنة، ويحدث الجزء الأكبر للتزاوج في شهر ديسمبر/ كانون الأول.

في شتاء الألب، يكون الطقس قاسيا جدا، ويمكن لجثة وعل واحد أن تطعم عدة أنواع من الحيوانات المفترسة والطيور الجارحة

 

بساط الشتاء الأبيض.. عواصف تفسد حفل التزاوج

يرتدي الوعل معطفه الشتوي السميك المكون من أربعة أنواع من الشعر، نوعان منهما حشو يتميز بسماكته، ويعملان كعازلين للجلد، واثنان آخران للحماية من العواصف الكبيرة وهما أطول.

في منتصف موسم التزاوج يفاجئ الثلج الوعول الألبية، ويعيق تساقط الثلوج مجال الرؤية عند الوعل، وتصبح كل خطوة باتجاه الأنثى مخاطرة كبيرة بالنسبة له، وبسبب وزنها الخفيف ورشاقتها يمكن للأنثى الوصول لأماكن يتعذر على الوعول الوصول إليها، لذا تعود الذكور إلى الوراء، أما الوعل المهيمن فيحاول الوصول بطريقة أخرى أكثر خطورة ليقع اللقاء في نهاية المطاف.

على الجميع مواجهة عناصر الطبيعة القاسية وسطوة الشتاء وبساطه الأبيض، تبقى بعض الوعول في الأعلى، وتكشف الرياح عن بعض الأعشاب على الجدران الصخرية، بينما تنزل أخرى إلى الوادي، وعليها العثور على طعام يمكنها من البقاء على قيد الحياة.

بعض الوعول تأثرت جدا بموسم التزاوج، أحدها فقد أحد قرنيه ولن ينمو مرة أخرى، لكنه نجا من العاصفة، وبعض الوعول نفقت بسبب العواصف والانهيارات الثلجية.

وفي الفضاء يحلق الزمت الألبي والعقبان الذهبية والنسور الملتحية الكبيرة بحثا عن ضحايا العواصف الثلجية، يفرد النسر الملتحي الكبير جناحيه البالغ طولهما 2.7 م لإبعاد الغربان الكبيرة باحثا عن الطعام.

هذه طريقة شتاء الألب، يموت البعض ليضمن آخرون البقاء، يمكن لجثة وعل واحد أن تطعم عدة أنواع من الحيوانات المفترسة والطيور الجارحة.

في الآونة الأخيرة أصبحت موجات الحر تأتي بشكل متكرر في منتصف الشتاء على الرغم من استمرار تساقط الثلوج، إلا أنه يذوب بالقرب من الوعول، لكن ماذا سيحدث للبكتيريا والطفيليات التي يقتلها البرد؟

إن عدم استقرار الغطاء الثلجي في العادة يضمن نمو وعول الألب، وسيكون العشب في الأعالي أقل ثراء في الصيف عندما تحتاجه الإناث عند الولادة.

إطلالة الربيع بغطائه الأخضر الجميل مكافأة كبرى للوعول الناجية من الشتاء

 

فصل الربيع.. موسم القوة والراحة والألعاب الصخرية

يأتي الربيع بغطائه الأخضر الجميل مكافأة كبرى لأولئك الناجين من الشتاء، ويوقظ نداء التزاوج لطائر الطهيوج الأسود سكان الجبل، وتدب الحياة من جديد في الجبل.

مع حلول الربيع يوجه الوعل المهيمن القطيع نحو المرتفعات، وتعود النباتات الغنية، ويرعى الوعل ليلا ونهارا لاستعادة قوته، مما يجعله أثقل بمقدار عشرين كيلوغراما، وفي المرعى أيضا يلتقي بالوعول الصغيرة التي ستكون خلفا له.

تلعب الصغار وتقفز وتتسلق الأشجار، لكن بعض الألعاب بين الصخور قد تكون خطرة للغاية، ويمكن أن تغير كل شيء في جزء من الثانية، وقد يصبح الصغير تحت صخرة كبيرة.

تمتلئ الذكور بالحماس بسبب الطعام المغذي، وتبدأ بمعارك ودية لا تشبه المعارك الحامية الوطيس في موسم التزاوج، لكن هذا الوقت أيضا هو موسم الراحة للوعول فتقضي معظم وقتها مستلقية.

وبعد عشرين عاما من الصراع في الوادي ينفصل الوعل الكبير عن القطيع، ويذهب إلى مكان سري يخيم عليه هدوء الجدول قبل أن يموت هناك وحيدا، بعد أن ضمن استمرار نسله.


إعلان