“عودة الحيتان الحدباء”.. ملكة المحيط العظيمة تعود إلى التكاثر

خاص-الوثائقية

هل يمكننا العيش بشكل جيد في جزيرة معينة أو على الأرض بشكل عام دون الإخلال باحترام الطبيعة، أم أن استمتاع الإنسان بالكون من حوله يعني بالضرورة أن يقضي على كثير من المخلوقات ويعيث في الأرض فسادا؟ وهل يمكن تدارك الأمر ومحاولة إنقاذ ما يمكن إنقاذه لوقف خطر الانقراض الذي يهدد الكثير من الكائنات؟

أسئلة عدة يسعى فيلم “عودة الحيتان الحدباء” -الذي بثته الجزيرة الوثائقية- للإجابة عنها، في رحلة شيقة نتتبع فيها حوتا أحدب منذ ما قبل ولادته، وسلحفاة بحرية، وهما من الكائنات التي كانت مهددة بالانقراض، قبل أن تعود للظهور مجددا، معيدة الأمل إلى نفوسنا بإمكانية وقف شبح الانقراض.

تدور أحداث الفيلم الممتع بصريا والغني معلوماتيا في جزيرة لا ريونيون، ‏وهي جزيرة فرنسية يبلغ عدد سكانها حوالي 800 ألف نسمة، وتقع في المحيط الهندي شرق مدغشقر، وهي واحدة من أقاليم ما وراء البحر الفرنسية.

 

نوم على أنغام الذكور.. استراحة الأنثى القادمة من القطب الجنوبي

قبل عقود قليلة اختفت هذه المخلوقات من أعماق مياه جزيرة ريونيون، ولم يرها سوى قلة من كبار السن، حتى أصبحنا نشك في رواياتهم، كما كان من النادر جدا رؤية سلحفاة خضراء تجوب الشعاب المرجانية، ومنذ بداية العقد الأول من القرن الـ21، كان عمالقة البحر هؤلاء (الحيتان الحدباء) مشاهير جزيرة ريونيون بلا منازع.

وبعد إقامة حديقة بحرية في عام 1994 منحت الشعاب المرجانية فرصة لتجديد شبابها، لتحظى السلاحف البحرية بظروف حياة أفضل تمكنها من النمو، كما باتت خاضعة للحماية المحلية الفاعلة التي وضعت حدا لصيدها بشكل جائر. ونتيجة لهذه الإجراءات، وفي غضون 30 عاما فقط، عادت السلاحف البحرية إلى المياه وأعدادها آخذة في التزايد عاما بعد عام.

فهل تكون عودة الحيتان الحدباء وسلاحف البحر إلى مياه ريونيون علامة على الصلة المتجددة بين الإنسان وهذه المخلوقات التي تعد رمزا للمحيطات؟ وهل تكون بداية عهد جديد لها ولنا؟

في يوليو/تموز من كل عام، يلتقي ما ينيف على 100 حوت أحدب عند الساحل الغربي من أجل التزاوج، حيث يُثير هذا الاجتماع السنوي الكثير من التوقعات والمشاعر لأنه يُعد مشهدا استثنائيا، وتتصاعد من الأعماق ألحان ذات طبيعة جادة وغامضة مبشرّة بعودة الحيتان الحدباء إلى جزيرة ريونيون، حيث تخلد الأنثى إلى الراحة بعد رحلة شاقة قطعت فيها نحو 6000 كيلو متر من القارة القطبية الجنوبية، ومن شدة تعبها تنام على أنغام أغاني الذكور البالغين.

يبلغ وزن الأنثى 25 طنا، لكن هذا لا يُعيقها، حيث تطفو على الماء كما لو كانت ريشة بلا وزن، وتحتوي النتوءات التي تُفصّل الهوية المميزة للحيتان الحدباء على شعر، وكأنها آثار الأيام الخوالي التي كانت فيها الحيتان الحدباء حيوانات ثديية برية.

تغني ذكور الحيتان أياما طويلة لجذب انتباه الإناث منها

 

اكتساب ود الإناث.. مسابقة غنائية في أعماق المحيط

تدرس “لورا” -وهي عالمة في جمعية “بلو بيس”- سلوك الغناء الغامض في عالم الحيوان. وتقول إن الحوت الأحدب يتناوب في غنائه بين إيقاعين أحدهما مرتفع والآخر منخفض، وتطلق على غنائه مقطوعة صوتية معقدة لكنها منتظمة، وتتكرر على هيئة جمل وجمل فرعية تتحول إلى ترانيم عند مستوى سطح البحر بشكل لا مثيل له بين الحيوانات.

وتؤكد لورا أن الذكور البالغين وحدهم هم من يغنّون بهدف جذب الإناث اللواتي يخترنهم وفقا لقوة الأغنية ومدى تعقيدها، أي أن الأغنية القوية جدا تعني ذكرا كبيرا ذا قوة وصحة جيدة، وبالتالي فسيكون خير شريك للتزاوج والإنجاب.

وتندلع معركة غنائية يتنافس فيها عدد من الذكور، حيث يستمر غناؤهم ليلا ونهارا، ويتجنبون الأماكن شديدة العمق، ليتمكنوا من الحصول على أكبر صدى لأغنياتهم.

وعندما يحين وقت أهم لحظة في حياة أنثى الحيتان الحدباء، تلك التي تهب فيها الحياة؛ تغوص لوحدها وتختفي في أعماق زرقة الماء، لتظهر لاحقا من جديد، لكن ليس بمفردها، إذ تدفع صغيرها بطرف رأسها ليأخذ أنفاسه الأولى ويتذوق للمرة الأولى طعم التواصل مع العالم.

“تيبو شون” عجل الحوت الصغير المولود بعد عودة ظهور الحيتان الحدباء

 

“تيبو شون”.. التقاط الأنفاس الأولى على الكوكب الأزرق

ها هو الكوكب الأزرق يرحب بساكنه الجديد الذي حمل اسم “تيبو شون”، وها هو يسلم نفسه للأمواج تتقاذفه بلونه الأبيض والرمادي، وجلده الغض المجعّد.

وُلد “تيبو شون” في مياه جزيرة ريونيون في قلب المحيط الهندي، وتمنح هذه الولادة أملا كبيرا في الحفاظ على التنوع البيولوجي، وهي برهان قاطع على أن الطبيعة البرية تستطيع أن تستمتع بكامل حقوقها في الوقت الذي تتعايش فيه مع الإنسان.

منذ الساعات الأولى لولادته حملته أمه إلى السطح لتساعده على التنفس، وهذا الحنان الغريزي القوي يعزز ارتباط الصغير بوالدته، وهو ارتباط متين للغاية ستدوم عُراه عاما كاملا.

ويقضي “تيبو شون” معظم وقته في أحضان أمه. وفي هذا المحيط الشاسع المترامي الأطراف ليس أمامه مكان يختبئ فيه، ليبقى جسم أمه العملاق هو ملاذه الوحيد.

تقذف الأم حليبها في البحر وعلى رضيعها أن يلتقط هذا الحليب الذي يتكفل بنموه بشكل سريع كل يوم

 

حليب الحوت المركز.. هدية الأمهات المنثورة في الماء

لم تأكل والدة “تيبو شون” شيئا منذ أن تركت مياه المحيط الجنوبي، حيث تتوقف إناث الحيتان عن الأكل خلال فترة ولادة وإرضاع صغارها، وهذا تحدٍّ هائل لحيوان بهذه الضخامة، فأثناء إقامتها في مياه ريونيون تظل تعيش على مخزونها الجسدي.

ولتحافظ على ما في جسدها من مخزون، فإنها تدخل فترات نوم طويلة تبقى خلالها ساكنة دون حراك في عرض المحيط، لكن نفَسها الطويل الذي تحبسه لنصف ساعة تقريبا لا يُقارن بأنفاس وليدها “تيبو شون” التي لا تتجاوز بضع دقائق، وكلما أحس بالحاجة إلى التنفس، فإنه يصعد إلى السطح ليتنفس، وسيستغرق الأمر بضع سنين ليكتسب مهارات أمه في الماء.

وبعد شهور قليلة ستعود والدة “تيبو شون” أدراجها إلى القطب الجنوبي برفقة صغيرها، وعندما يحين ذلك الأوان سيكون وزنه قد بلغ 7 أطنان أي 10 أضعاف وزنه عند الولادة.

وعلى خلاف ضروع الثدييات البرية، فإن ضروع الحيتان الحدباء غير مرئية، فهي مخفية في شقين صغيرين في الصدر، لذلك تدر أم “تيبو شون” حليبها في الماء مباشرة، ويتعين على صغيرها أن يتدبر أمر شرب الحليب شديد الكثافة الذي يُشبه القشطة، وهو مركز ومليء بالدهون والبروتينات.

وخلال السباحة يملأ الصغير فمه بالماء والحليب حيث تقوم عظام فكه بتصفيته، وبفضل هذا الغذاء يزداد وزنه بواقع 40 كيلوغراما في اليوم، ويزداد نموه بنحو 4 سنتمترات في اليوم، وسرعان ما يتحول إلى أحد عمالقة البحار.

ليتل كابوس هي سلحفاة نجت من بين 100 من إخوتها ووصلت المحيط وكانت قصتها جزءا من الفيلم

 

“ليتل كابوس”.. صدفة صغيرة تتلقى الغواصين

ليست الحيتان الحدباء وحدها التي تعود لتسكن مياه ريونيون، فقد عاد حيوان آخر أقل إثارة لكنه لا يقل روعة، إنه السلحفاة الخضراء التي كانت على وشك الانقراض جرّاء الصيد الجائر وتآكل بيئتها الطبيعية، لكنها بدأت في العودة منذ عام 2004.

تتهادى سلحفاة بحرية على الشعاب المرجانية، إنها تعيش في مياه جزيرة ريونيون منذ عدة أعوام، لذا فهي مكان مألوف لها، كما أن الغواصين يعرفونها تمام المعرفة، وقد أطلقوا عليها اسم “ليتل كابوس”، أي الصدفة الصغيرة باللغة الكريولية لجزيرة ريونيون.

“ليتل كابوس” هي سلحفاة خضراء جميلة ذات صدفة بنية رائعة مزينة بنقاط بيضاء، لم توجد هذه السلحفاة في جزيرة ريونيون، لقد وُلدت بعيدا عن هنا في إحدى تلك الجزر المهجورة التي تعمر بها أحلامنا حيث الشواطئ البكر التي لم تطأها قدم إنسان ولم يسكنها بشر، وحيث لا يزال بإمكان السلاحف البحرية أن تتكاثر بسلام.

رحلة “ليتل كابوس” منذ خروجها من البيضة وحتى نجاحها بالوصول إلى المحيط

 

بيوض السلاحف.. معركة ضد الطبيعة للبقاء

قبل 20 عاما ومع انتصاف الليل برزت والدة “ليتل كابوس” من أعماق المحيط، وحفرت بزعانفها الخلفية حفرة في الرمال بمهارة فائقة، بعد عدة ساعات وضعت 100 بيضة قبل أن تغطيها برفق بطبقة سميكة من الرمال.

في باكورة الصباح وبمجرد انتهاء مهمتها، وصلت السلحفاة الجريئة إلى المحيط تاركة بيضها عرضة بين يدي الطبيعة، في هذه الحاضنة الرملية الضائعة في هذه الصحراء الشاسعة تُدق أبواب الحياة ثم تفتح بعد شهرين من وضع البيض، ودون مقدمات بدأت الرمال تهتز.

خرجت ثلاثون سلحفاة خضراء صغيرة من الرمال، وكانت “ليتل كابوس” واحدة منها، وإذا بقيت مجتمعة زادت فرص نجاحها في بلوغ المحيط، الساعات الأولى بعد ولادتها هي اللحظات الأشد خطرا عليها، فعملية الانتقاء الطبيعي لا ترحم، فمن بين 100 سلحفاة بحرية صغيرة فإن واحدة فقط ستصل مرحلة البلوغ.

أحاطت العناية الإلهية بهذه الشعاب المرجانية وبفضلها نجت “ليتل كابوس” من المجزرة التي اقترفتها بعض الغربان والطيور، إلا أنها ليست في مأمن بعد، وعليها أن تستأنف سباقها المحموم ضد الزمن لتصل إلى المحيط.

وما إن تنجح “ليتل كابوس” في النجاة من هذه المحنة الرهيبة، وبعد أن شدت رحالها في أعماق المحيط الهندي الشاسع، تركت نفسها تهيم في أحضانه لسبعة أعوام طوال، وذات يوم حطت السلحفاة الخضراء الصغيرة الرحال في مياه جزيرة ريونيون حيث استقبلتها الشعاب المرجانية بالترحاب، فقبلت “ليتل كابوس” الإقامة فيها.

تعمل البيئة البحرية والمحميات البحرية على نمو وتكاثر هذه الكائنات

 

المحمية البحرية.. ملاذ آمن وغذاء عشبي

يتشابه نمط حياة “ليتل كابوس” بشكل غريب مع نمط حياة “تيبو شون”، فهي تحتاج أيضا للعودة إلى السطح بانتظام لكي تتنفس، لكنها تمتاز عنه بطول نفسها الذي يمكن أن يستمر لعدة ساعات.

تقضي “ليتل كابوس” معظم وقتها في تناول الطعام، وهو النهج الذي تنتهجه جميع الحيوانات العاشبة التي تحتاج يوميا إلى كميات هائلة من الطعام.

الشعاب المرجانية في ريونيون ليست غنية جدا بالنباتات المفضلة للسلحفاة، لكن ذلك لا يمنعها من الاستقرار هنا، فالسلاحف البحرية تملك قدرة مدهشة على تعديل نظامها الغذائي وفقا للموارد المتاحة في البقعة التي اختارت النمو فيها.

ومنذ إنشاء المحمية البحرية -التي أدت لإيقاف تدهور حالة المرجان- في عام 2007، تحسنت أوضاع الشعاب بشكل كبير، وبات بإمكانها أن توفر للسلاحف البحرية وسكان الشعاب المرجانية كل ما تحتاجه من طعام وملاذ آمن لحمايتها من الحيوانات المفترسة، وقبل كل شيء فرصة الاستسلام للنوم على وقع أغاني الحيتان.

عودة الحيتان.. ثمار الوعي العالمي والقرارات الدولية

يتساءل كثيرون عن سبب عودة الحيتان إلى ريونيون بعد هذا الغياب الطويل، إنه سؤال يُحيّر العلماء منذ وقت طويل. ويقضي العالمان “فيرجيني” و”لورون” -عضوا جمعية “بلو بيس” التي تدرس الحيتان منذ أن بدأت عودتها قبل 15 عاما- الساعات الطوال في البحر في مراقبة سلوكها وتدقيقه وتوثيقه بكاميراتهما التي تظل الأداة الفضلى لدراسة الحيتان الحدباء.

وتكمن الصعوبة في تصوير الوجه الداخلي للزعنفة الذيلية، وهو مهم جدا لأنه بمنزلة بصمات أصابعنا، ويُمكّن العلماء من التعرف على هذه الحيوانات بشكل رسمي، وبفضل هذا التعريف المُصوّر، يمكن للعلماء أن يحصوا عدد الحيوانات الحاضرة في موسم التكاثر، ويحسبوا مدة إقامتها ويتعرفوا على من يعود منها بشكل منتظم.

في العقد الأول من القرن الـ21 كان العلماء ينجزون 5 بطاقات تعريفية للحيتان الحدباء في العام، وكانوا يسعدون بذلك، أما الآن فإنهم ينجزون أكثر من 100 بطاقة، والفرضية أنها تعود إلى ما كانت عليه من قبل، وقد انخفضت معدلات صيد الحيتان بشكل كبير، وبالتالي فقد ركّزت الحيتان اهتمامها على عدد محدود من الأماكن المميزة لتمضي فيها موسم التكاثر.

ومع التوقف التدريجي لعمليات صيد الحيتان في السبعينيات ازدادت أعدادها وعادت لتستعمر مياه ريونيون، وخلال عامين تضاعفت أعدادها في ريونيون ثلاثة أضعاف، فقد كان للوعي الدولي دور كبير في إنقاذها من الانقراض بقرار اتخذ في اللحظات الأخيرة، وعندما تبنى المجتمع الدولي قرار إيقاف صيد الحيتان، كان العالم قد فقد بالفعل 90% من الحيتان الحدباء، قبل أن تستعيد تدريجيا مواطنها السابقة.

تقوم الكائنالت البحرية بتنظيف نفسها أو غيرها مما يعلق عليها من كائنات بحرية كالصدف والعوالق

 

تنظيف الجسد.. حمامات في أعماق المحيط

تستمر عملية التعلم بالنسبة للحوت الأحدب “تيبو شون”، ولكي يبقى بصحة جيدة، عليه أن يتعلم كيفية طرح القشريات الصغيرة التي علقت به خلال الشهور الماضية، ويعتبر الحوت نظاما بيئيا متكاملا يتنقّل تحت الماء، لذا فإن التخلص من الطفيليات أمر أساسي.

يسمح الاحتكاك القوي بسطح الماء بتنظيف جلد الحوت بالكامل، يبدأ الحوت الصغير بإتقان هذه الآلية، لكن وفي أعماق المحيط وبعيدا عن الأنظار، تُعلّم والدة “تيبو شون” صغيرها فن التنظيف العميق، فرمال الأعماق بديل جيد، ولذلك يحظى “تيبو شون” وأمه بتنظيف لطيف لكامل الجسم، وبمجرد انتهاء جلسة التنظيف تلك تشرع الأم في رقصات متناغمة غامضة تحت أنظار صغيرها، وبتوازنها على طرفها يتأرجح الجسد الضخم الذي يبلغ وزنه 25 طنا ويمتد طوله 15 مترا برشاقة راقصة باليه.

تحتاج “ليتل كابوس” هي الأخرى إلى تنظيف صدفتها لتبقى بصحة جيدة، ولحسن حظها فإن بإمكانها الاعتماد على سكان الشعاب المرجانية للحصول على تنظيف لطيف، وبقبلات رقيقة يقوم جراحون سود صغار من الأسماك بتلميع صدفتها، وبمجرد انتهاء الجلسة تغادر السلحفاة الصغيرة وقشورها تلمع بسعادة.

غواصيون يخوضون تجربة فريدة بالسباحة إلى جانب الحيتان الحدباء

 

تدشين أول اتصال مع البشر.. تجربة الغواصين الخيالية

مثل كل الثدييات الصغيرة تملأ الجرأة والفضول أوصال “تيبو شون”، إلا أنه يتردد في الاقتراب من السباحين الذين جاءوا لمقابلته، ويبقى مختبئا خلف والدته، لتتولى الأم تدشين أول اتصال بين صغيرها وبين البشر، إذ يحلم الغواصون بمشاركة لحظة مميزة مع هذا الحيوان الرائع، رمز الجمال وقوة الحياة.

ويجب أن تكون إعادة التواصل مع العالم البري محاطة بأقصى درجات الاحترام، فلا ينبغي إظهار شيء سوى اللطف، وهذا هو السبيل للاستمتاع بهذه التجربة الخيالية.

وتستحق السلاحف البحرية مزيدا من الاهتمام والاحترام، لأنها تفتقر إلى القدرات الدفاعية للحيتان، ففي مياه ريونيون تعتمد نجاة “ليتل كابوس” وشقيقاتها على الرجال والنساء الذين يراقبونها.

ومن جديد، وعلى شاطئ ريونيون يجري حدث استثنائي، فأول سلحفاة خضراء تعود للتكاثر في مياه جزيرة ريونيون قد دفنت بيضها في مكان ما، وقريبا سنشاهد سلاحف ريونيون الصغيرة وهي تبرز من ثنايا الرمال، وهي بمثابة أجمل مكافأة للعاملين على إنقاذ هذه السلاحف من الانقراض.

قام علماء البحار بعمل قاعدة بيانات لمئات السلاحف

 

رؤوس السلاحف.. بطاقة تعريف وطنية

يقضي أحد الغواصين وقتا طويلا في تصوير السلاحف البحرية بهدف إثراء قاعدة بيانات مرصد السلاحف البحرية في ريونيون، وقد طلب العلماء من الغواصين التقاط صور قريبة لرأس كل سلحفاة يمرون بها، فشكل القشور الموجودة على رأس كل واحدة وعددها وتوزيعها يسمح بمنحها بطاقة تعريف خاصة بها، فهو أمر فريد لا يتكرر عند غيرها من السلاحف.

يقول المسؤولون عن المرصد إنهم يمتلكون نحو 6000 صورة التقطها الغواصون، وقد مكّنهم ذلك من تعريف 450 سلحفاة في ريونيون، وهو عدد لم يكن موجودا أبدا منذ نحو 50 عاما، أي قبل القيام بعمليات التوعية للمحافظة عليها.

والآن يمكن القول إن الجميع في ريونيون معنيون بالحفاظ على السلاحف البحرية، فحتى عند اصطياد واحدة منها عن طريق الخطأ فإنها تعاد إلى الماء من جديد، حتى لو تطلب الأمر إجراء جراحة للسلحفاة للإبقاء على فرصها في الحياة.

العودة إلى الديار.. رحلة خطيرة إلى المجهول

خلال بضعة شهور سينتقل “تيبو شون” من دفء مياه ريونيون إلى برودة المياه المتجمدة في القارة القطبية الجنوبية، وهي رحلة طويلة ومحفوفة بالمخاطر، وقبل الشروع في رحلته يجب أن يتعلم كيف يدافع عن نفسه ويفرض وجوده، لذا فهو يُقلّد كل حركات أمه، وإذا أحسن التحكم في زعنفة ذيله، فستغدو سلاحا فتاكا شديد الخطورة، ويجب أن تكون الضربة صاخبة قدر الإمكان ليتردد صداها عدة كيلو مترات.

يبلغ طول زعانف الأم الصدرية العملاقة 5 أمتار وعرضها مترا واحدا، ويمكنها استخدامها كمضارب ضخمة، حيث تميل على ظهرها وتضرب سطح الماء بلا هوادة، وعندما قيامها بهذا السلوك لا يجرؤ أي حيوان آخر على الاقتراب، لكن هذه الضربات الهائلة لا تكاد تذكر قياسا بالحيتان الحدباء الأسطورية، تلك التي توجتها “ملكة للمحيطات”.

أصبحت “ليتل كابوس” الآن في سن الإنجاب، وقد حانت لحظة المغادرة، وبخلاف “تيبو شون” فإنها لم تتلق أي تعليم أو انتقال للخبرات، بل إنها تعتمد على غريزتها فحسب للعثور على جزيرة ميلادها التي تركتها منذ 20 عاما ولم ترها مرة أخرى.

والآن تبدأ رحلتها العظيمة نحو المجهول، محمولة بقوة التيارات، تبتعد “ليتل كابوس” تدريجيا في أعماق المحيط الهندي بعيدا عن جزيرة ريونيون، فهل ستصل إلى وجهتها سالمة؟

يعد البلاستيك وخيوط الصيد وغيرها من النفايات أخطارا تهدد حياة الكائنات البحرية

 

مخلفات النفايات القاتلة.. نداء استغاثة الطبيعة الأم

رغم أن السلاحف البحرية لا تعيش في بيئة مغلقة، فالمحيط بأكمله بيت لها، إلا أن الخطر ليس بعيدا، فأسلاك الصيد والبلاستيك يشكلان خطرا مرعبا على “ليتل كابوس” وكل قاطني الشعاب المرجانية، كما أن أكوام المخلفات التي تنجرف على طول الساحل لا تقل خطورة على الحيتان الصغيرة.

وفي رحلتها للعودة إلى المحيط المتجمد تسبح هذه الحيتان بفم مفتوح على مصراعيه يبتلع كل النفايات التي يصادفها، والبلاستيك ليس الخطر الوحيد الذي يواجه الحيتان والسلاحف البحرية، فثمة خطر آخر يتمثل في الزوارق التي تؤدي أحيانا إلى تمزيق أجساد هذه الحيتان عند اصطدامها بهذه الزوارق مع صعودها للسطح للتنفس.

وإذا أردنا حماية هذه الحيوانات التي هي رمز للمحيطات، فلا بد لنا من تغيير سلوكياتنا والكف عن تلويث البيئة، فالإحسان إلى أمنا الطبيعة بالحفاظ عليها، هو إحسان إلى أنفسنا نحن بني البشر، فلا مثيل للفوائد التي نجنيها من التأمل في روعة الطبيعة.

قدر “تيبو شون” و”ليتل كابوس” أن يعيشا يجوبان المحيط بلا كلل، لقد بدأت رحلتهما في هذا العالم الشاسع للتو، وهما يحتاجان حماية الإنسان ورعايته ليستمرا في حياتهما، غير أن ما تحقق في مياه ريونيون يمنحنا الأمل في أن تقودنا الحيتان والسلاحف نحو مستقبل أفضل.


إعلان