“الأمل الأخير”.. خيارات الدراسة والرعي في أعالي جبال كشمير

خاص-الوثائقية
“لا أشعر بقدمي، لا أستطيع السير”. عدة كلمات كانت كافية لوصف المشقة التي يتكبدها رعاة كشمير البدو المعروفون باسم “الباكورال”، الذين يهاجرون سنويا من سهول جامو إلى جبال كشمير قاطعين 300 كيلومتر في 30 يوما.
هذه المعاناة الصعبة وضعت سليمان غفور (13 عاما) نجل أحد الرعاة في حيرة بين مسارين بالحياة، إما أن يتخلى عن دراسته استجابة لرغبة أبيه الذي ناهز عمره السبعين، ليحافظ على تقليد أسرته في رعي الغنم، وإما أن يكمل دراسته رغم رفض أبيه الذي يجد في ولده الأصغر الأمل الأخير في الحفاظ على تراث الأسرة ومصدر رزقها الوحيد وسبب بقائها على قيد الحياة.
قصة سليمان ومن خلفها حياة الرعاة في كشمير يتناولها فيلم “الأمل الأخير” الذي أنتجته الجزيرة الوثائقية، إذ يقدم قصة فتى يريد الخروج من بوتقة بيئته والتمرد عليها، بينما هناك من يشده للوراء، وصوت يناديه: لا تترك والديك وحيدين.
جريمة القتل والاغتصاب.. منعطف يقلب حياة البدو
كانت بداية الفيلم في منطقة جبلية تضاريسها قاسية، وحرارتها تحت التجمد بعشرات الدرجات، ولا يقوى على مواجهة طقسها إنسان، حيث يمتطي غفور دابة ومعه ابنته الصغيرة، ونجله سليمان يجرها، ويحاول مع أقرانه من الرعاة السير في الثلوج، وعندما يصلون إلى منحدر يسقط الرجال وتقع الدواب، وتعلو صرخات الأطفال والبكاء مطالبين بالتوقف، لأنهم لم يعودوا يستطيعون السير.
بعدها بسبع سنوات، تحصل جريمة وحشية في الجبال تذهب ضحيتها طفلة، إذ خطفها مجموعة من الأشخاص فاغتصبوها ثم قتلوها، جريمة شكلت منعطفا في حياة غفور وباقي الرعاة الذين اعتادوا على أن يهاجروا عبر الجبال سنويا سيرا على الأقدام لرعي قطعانهم.
كانت هذه الجريمة محور اجتماع مجلس القبيلة الذي تحدث فيه غفور قائلا: لا يمكننا السفر عبر الجبال، عاملوا الطفلة بوحشية واغتصبوها وقتلوها، أمست هذه المسألة تهديدا، ما مدى أمان بناتنا في البراري؟ من يحمينا؟ ليس لدينا حامٍ إلا الله، إن سافرنا عبر الجبال وتحرشوا بأخواتنا وبناتنا، فماذا سنفعل؟ هذا ظلم كبير، قررنا أن لا نسافر عبر الجبال سيرا على الأقدام، قررنا أن ننفق المال ونسافر بالشاحنات.
لكن أحد المشاركين في الاجتماع يتدخل قائلا: السفر في الشاحنات مكلف جدا، وهو أيضا خطير على الغنم المهددة بالنفوق، بسبب طول مسافة الطريق ووضعيتها في الشاحنات.

“افعل ما يحلو لك”.. حلم يعرض مصدر رزق العائلة للخطر
نعود إلى غفور وولده سليمان المحب للعلم، حيث يشرح الرجل المسن لفتاه الصغير الظروف قائلا: جارنا مصطفى رفض أن يأخذ قطيعنا معه وأنت ترفض أخذها بسبب الدراسة، اترك المدرسة يا بني وارع القطيع، جسدي بات ضعيفا ولا أستطيع السير، نحن لم نتعلم أو نذهب للمدرسة، وإنما نكسب قوت يومنا وعيشنا من رعي القطيع.
كما دخلت والدة سليمان على الخط وقالت له: هل تظن أنك إذا تركت رعي الأغنام ستحقق ما تخطط له بالدراسة، هذا القطيع هو كل شيء بالنسبة لنا، هو مصدر رزقنا، لن تجد عملا بعد أن تنهي دراستك، ستدرك ذلك لاحقا، كف عن الكلام الفارغ واذهب مع الماعز، لم يعد والدك قادرا على تولي أمور القطيع.
غير أن هذا لم يقنع سليمان المتمسك بالرفض القاطع، والمفضل للدراسة على رعي القطيع، إذ يقول: الدراسة ستعطيني كل ما أريد، بماذا سيفيدني هذا القطيع؟ لن أترك المدرسة، لا أحتاج للغنم والماعز، تلك الحقبة ولت، حتى الغابات لم تعد مكانا مناسبا لرعي الأغنام والماعز، أين سنرعاها؟ لن أقوم بهذه المهمة؟
حينها تستسلم الأم فتخاطبه قائلة: افعل ما يحلو لك.

“أريد بيع القطيع”.. آخر خيارات الأب الطاعن في السن
بعد الوصول لحائط مسدود مع سليمان، تواصل غفور مع ابنه الأكبر رباني قائلا له: “أريد بيع القطيع بعدما رفض مصطفى رعيه، وسليمان فضل الدراسة على الرعي”. غير أن رباني طلب منه التمهل في بيع القطيع، لكي يحاول إقناع سليمان الذي كان يستعد للذهاب إلى المدرسة.
وخلال رحلة سليمان من المنزل إلى المدرسة التقى رباني بأخيه سليمان، وقال له: طلب منك والدك الذهاب مع القطيع، فقد بات طاعنا في السن ولا يستطيع السير.
لكن سليمان كرر الرفض وقال له: أنت الأخ الأكبر، اهتم بالقطيع، أريد إكمال دراستي. وواصل سيره باتجاه المدرسة رافضا الإنصات لأخيه الأكبر.
لا يزال غفور رغم سنه يواصل عمله في رعي الأغنام، يصلي الفجر ويذهب مع الغنم إلى البراري، وأما سليمان فيرفض حتى أخذ الغداء لوالده بحجة مراجعة دروسه، فلا تضغط والدته عليه وتحمل هي الطعام بنفسها لزوجها المسن.

“إنك أملنا الأخير”.. مفاتيح الأبناء بأيدي الأمهات
يتواصل مسلسل إقناع الوالدة لنجلها الصغير، حيث تشرح له الأمر مرة أخرى قائلة: إنك أملنا الأخير، كنا نأمل منك أن تعتني بنا، فإذا تصرفت بهذه الطريقة وتركت القطيع، فمن سيبقى لنا؟ وماذا سنفعل بالقطيع؟ سيكون علينا بيعه.
وحين تدرك أن ابنها غير مقتنع تحاول أن تتخذ موقفا وسطا، حيث تقول له: تقول إنك لن تترك الدراسة، لكن فرصنا في الحياة معدومة من دون القطيع، لذا أرجوك أن تذهب مع الغنم والماعز للرعي، تستطيع أخذ كتبك معك وتدرس هناك، يمكنك أن تدرس كل يوم قليلا، عزيزي أرجوك أن تتفهم الظروف وتبقي ذلك في ذهنك، والدك عجوز ولا يستطيع مواصلة عمله، فقد قال إن الخيار الآخر لديه إن لم تذهب مع القطيع هو بيعها، وأما أنا فلا أستطيع السير مع القطيع أو قطع العشب له.
بعد هذا الحوار المليء بالشجن، قرر سليمان أن يأخذ الغذاء إلى والده حاملا معه حقيبة كتبه، ووافق على أن يرعى القطيع، لأن والده بات رجلا مسنا، ولا يستطيع أن يتولى المهمة، وقد أخذ موافقة أستاذه ومدير المدرسة بعدما شرح لهما ظروف والده. ويقول له غفور: سعيد جدا لأنك أتيت لمساعدتي، كنت أخشى أن نترك المهنة ونبيع القطيع، سبق وتركني رباني (نجله الأكبر).
وفي إحدى المرات، نشب سجال كلامي بين غفور وأحد المزارعين بسبب اتهام الأخير لغفور أن قطيعه يدمر المزروعات ويأكل الأخضر منها، فتدخل سليمان وقال إنه سيدافع عن غفور في حال تطور السجال الكلامي إلى شجار.

نفوق الغنم.. خسائر النقل في الطرق المنهارة
جاء موعد السفر إلى الجبال لرعي القطيع في السهول الواسعة، وأما مصطفى جار غفور الذي رفض أخذ قطيع غفور مع قطيعه، فقد اتصل بأحد أصحاب الشاحنات للسفر هو وسليمان والقطيعين عبر الجبال بعدما بات السفر سيرا على الأقدام يواجه أخطارا كبيرة، ولكن كلفة النقل كانت باهظة جدا.
بعد تحميل القطيع في الشاحنات جلس سليمان ومصطفى في الخلف مع القطيع ليعتنيا به، ولكن حدث ما لم يكن في الحسبان إذا تأخرت الشاحنات في الوصول إلى المكان المقصود، وتسبب انهيار أرضي بأحد الطرقات في زحمة سير خانقة، فتحولت الشاحنات والقطيع إلى أسرى لساعات في الطرقات.
وبسبب طول المسافة والطريقة التي وضع بها القطيع، بدأ عدد من الغنم بالنفوق. يقول أحدهم: بدلا من أن يكون السفر بالشاحنات أكثر أمنا وراحة، خسرنا 270 دولارا إضافة إلى 250 دولارا إيجار النقل للشاحنة الواحدة.

“لا أظن أن الرعاة سيصمدون طويلا”.. إكراهات الظروف
بعد معاناة ومشقة كبيرتين وصل القطيع إلى المكان المقصود وبدأت الأغنام بالرعي، ورغم كل هذه المصاعب لم ينس سليمان كتبه، وواصل الدراسة في أوقات فراغه، وكان يتصل دائما بوالده ليطمئن عليه وعلى والدته، وقد طلب منهما القدوم لرعاية القطيع لأن لديه امتحانات في المدرسة تمتد لأسبوع، وعندما ينهيها يعود مجددا لمكان رعي القطيع في الجبال.
ولدى قدومهما شكا سليمان لوالده ووالدته البرد الشديد، وكيف أنه لا يستطيع التركيز بالدراسة، لأن الماعز يبتعد كثيرا. وبعد الانتهاء من امتحاناته عاد سليمان إلى الجبل ووالده إلى منزلهما.
ينتهي الفيلم بمشهد لسليمان ومصطفى يرعيان قطيعيهما، في إشارة إلى أن سليمان اختار الرعي على الدراسة، وقرر أن ينصت لوالده ويكمل مسيرة العائلة في هذه المهنة، رغم أنه غير مقتنع.
ويلخص سليمان حاله بالقول: ليس بمقدوري أن أرعى الماعز، هذه ليست غلطتي، هذا زمن صعب، لم تعد الغابات ضمن النطاق المسموح به لنا، والمزارعون يتعرضون لنا على الطرقات، سأرعى الماعز فقط لأجل أبي، لأنه قال لي إنني أمله الأخير، ولكنني لا أظن أن الرعاة سيصمدون طويلا.