“أيام الصيف”.. الإنسان والطبيعة يفقدان السيطرة على حرارة الكوكب

مراد بابعا

مع إشراقة شمس الحادي والعشرين من يونيو/حزيران في نصف الكرة الأرضية الشمالي، تصبح ساعات النهار في أقصى مداها، ويتقلص الليل إلى حده، وتستقبل الطبيعة ومعها الإنسان أول أيام فصل الصيف.

ويتزامن هذا اليوم مع ما يسمى علميا بـ”الانقلاب الشمسي”، ويحدث عندما تكون الشمس في أعلى ارتفاع لها ظهرا فوق الأفق في نصف الكرة الأرضية الشمالي، بينما يحدث العكس تماما في النصف الجنوبي، حيث يحل فصل الشتاء.

ويتميز فصل الصيف بارتفاع درجات الحرارة وسطوع الشمس، مما يدفع جميع مكونات الطبيعة البرية من نباتات وحيوانات إلى الخروج والتزاوج، وارتبط لدى الإنسان بعدد من الممارسات الثقافية منذ القدم، إذ تحتفل به شعوب عدة باعتباره رمزا للتجديد والخصوبة والحصاد.

يكشف الفيلم الوثائقي “أيام الصيف” -الذي عرضته الجزيرة الوثائقية- طريقة تعامل الطبيعة من حيوانات وحشرات ونباتات مع تحديات فصل الصيف، ويسلط الضوء على جوانب عدة من هذه الحياة النابضة بالجوانب المبهجة والصعبة لخلق مشهد ملون لأيام الصيف.

فما الذي يجعل إذن فصل الصيف رمزا للتحرر؟ وكيف يفسر وصوله من الناحية الفلكية؟ وكيف أثر تغير المناخ على هذا الفصل الساخن الذي يزداد طولا مع مرور السنوات؟ وما هي أهم التحولات التي تطرأ على الإنسان والطبيعة خلال أيام الصيف؟

 

“الانقلاب الشمسي”.. برزخ بين زهو الربيع وثمار الصيف

قبل حدوث ظاهرة “الانقلاب الشمسي” ووصول فصل الصيف، تكون الطبيعة قد عاشت أياما زاهية خلال فصل الربيع الذي يرتبط في أذهاننا جميعا باسترجاع الطبيعة لألوانها بعد الشتاء الممطر القاسي، فتبدأ الأزهار في التفتح، وتزهر الأشجار، وتخضر المروج.

لكن الصيف يبقى أيضا فصل قطف الثمار والاستمتاع بطول النهار والسماء الصافية، بعيدا عن تقلبات أجواء الربيع، وهذا ما يجعل فصل الصيف الفصل المفضل لدى فئة عريضة من سكان الكوكب، فهو رمز للراحة والإجازات والعطل لدى الغالبية العظمى من البشر.

ويرمز الانقلابان الشمسيان الصيفي والشتوي بالإضافة إلى الاعتدالين الربيعي والخريفي؛ إلى خصوبة الأرض وتسلسل نظم الإنتاج الزراعي والغذائي، وما يرافق ذلك من تقاليد شعبية أصبحت ضمن التراث الثقافي للبشرية، ومن أجل التنصيص على أهمية حلول الصيف الذي تحتفل به البشرية كرمز للحصاد ومناسبة للاحتفال بالمحصول، أعلنت الجمعية العامة للأمم المتحدة يوم 21 يونيو/حزيران يوما عالميا لتخليد الانقلاب الشمسي.

ويمتد الطابع الاستثنائي لهذا الفصل إلى جميع الكائنات الحية، ويظهر من خلال الوثائقي “أيام الصيف” -الذي عُرض على الجزيرة الوثائقية- أن تحولات عدة تطرأ على النباتات التي تبدأ ثمارها في النضوج، والحشرات التي يفقس بيضها وتملأ الحقول والغابات، كما تتزاوج فيه الحيوانات البرية التي تعيش مرحلة ذروة نشاطها.

ويبدو أن هذا النسق الذي تسير عليه الطبيعة منذ الأزل لن يستمر طويلا، فالتغير المناخي -الذي تعيشه الأرض في العقود الأخيرة- لم يستثن فصول السنة من انعكاساته السلبية، وبدأت الأجواء التي ترمز إلى بداية فصل ونهاية آخر تتداخل فيما بينها، وأصبحنا نشاهد بدايات ربيع ساخنة، وأجواء متقلبة في الصيف، ومستقرة في الشتاء.

تتعاقب الفصول الأربعة بسبب ميل محور الأرض، وهذا الميل له قيمتان عُظميان يترنح بينهما كل حوالي 40 ألف سنة

 

ميلان الأرض.. عدالة توزيع الحرارة بين الشمال والجنوب

قد يتساءل البعض عن السر وراء تعاقب الفصول، والشرح العلمي لهذا الظاهرة، فكما يؤدي دوران الأرض حول نفسها إلى تعاقب الليل والنهار، يرتبط دوران الأرض حول الشمس بتغير الفصول، بحسب البعد أو القرب من الشمس، الذي يختلف بين شمال الأرض وجنوبها بسبب ميلان محور كوكب الأرض. فالكرة الأرضية تسجل حاليا محور ميلان بـ23.5 درجة، وهي نسبة تتغير للإشارة كل 40 ألف سنة ما بين 24.4 درجة و22.1 درجة.

فإذا وصلت الأرض إلى درجة ميلانها الأقصى، يصبح فصل الصيف أقصر وأقل حرارة، والعكس صحيح، وهو ما يفسر مرور الأرض من العصور الجليدية، وحقبة الحرارة المرتفعة التي تذيب الصفائح الجليدية الكبيرة في القطبين. وبما أن محور ميلان الأرض حاليا في المنتصف فإن المناخ السائد حاليا يميل إلى الحالة الدافئة التي بدأت قبل حوالي 11 ألف سنة.

ويحل الصيف في النصف الشمالي للأرض عندما يستقبل هذا الجزء من الكوكب الإشعاع الشمسي بشكل أكبر وتكون الشمس عمودية على مدار السرطان، فيما يكون النصف الجنوبي في المقابل أقل عرضة لأشعة الشمس وبالتالي أقل حرارة. وفي الوقت نفسه يصبح النهار طويلا ويستمر بدون انقطاع لحوالي ستة أشهر في القطب الشمالي، بينما يحل الظلام في القطب الجنوبي، في انتظار حدوث العكس مع وصول الانقلاب الشتوي في الحادي والعشرين من ديسمبر/كانون الأول.

أما الاعتدال الموسمي، فهو التوقيت الذي يكون فيه مركز الشمس فوق خط الاستواء مباشرة، ويحدث ذلك أيضا مرتين في العام، الأولى في 21 من مارس/آذار ويسمى “الاعتدال الربيعي” والثانية في 23 من سبتمبر/ أيلول ويسمى “الاعتدال الخريفي”.

 

فوضى الأمطار.. تغير المناخ يبعثر مفاهيم الفصول الموسمية

أصبح من الصعب التمييز بين الفصول الأربعة من خلال طقسها، عكس ما كان سائدا في خمسينيات القرن الماضي، نظرا لعدم انتظام الأمطار وتغير مواعيد هطولها والارتفاع في درجات الحرارة بسبب ظاهرة الاحتباس الحراري.

وبدأت تظهر في السنوات الأخيرة مطالب بتعديل مفهوم الفصول الأربعة، وتكييفها مع التغيرات التي شهدها طقس الكوكب، خصوصا أن الإستراتيجيات الزراعية الموضوعة أصبحت متجاوزة، وتطرح إشكاليات عدة للمزارعين.

وبحسب دراسة توقعية نشرها موقع “مترو” البريطاني، فإن تغير المناخ قد يؤدي إلى إطالة فترة الصيف بالضعف، لتصل إلى 6 أشهر بحلول نهاية القرن، إذا استمر معدل الاحتباس الحراري في نسبه الحالية.

وكشفت هذه الدراسة التي قادها “يوبين غوان” عالم المحيطات الفيزيائي بمعهد بحر الصين الجنوبي التابع للأكاديمية الصينية للعلوم، أن البلدان الواقعة شمال خط الاستواء قد تعاني من ظاهرة “الصيف نصف السنوي” بحلول سنة 2100، بينما سيستمر الشتاء أقل من شهرين، مع ما يمكن أن يحمله ذلك من آثار كارثية على الإنسان والطبيعة.

وتوصلت الدراسة التي نشرت بداية سنة 2021، إلى أن أيام فصل الصيف في نصف الكرة الشمالي، ازدادت في المتوسط من 78 إلى 95 يوما بين 1952 و2011، بينما تقلصت أيام الشتاء من 76 إلى 73 يوما، وحذرت الدراسة من تداعيات ذلك عبر الظواهر المناخية غير الاعتيادية، مثل العواصف الثلجية العنيفة، والأمطار الصيفية الطوفانية، وأيضا اضطراب المجتمعات البيئية، من خلال تغير نمط هجرة الطيور، ودورة حياة النباتات والأشجار.

تزايدت القوة التدميرية للأعاصير المدارية في المحيط الهندي والهادئ على مدى الثلاثين عاما الماضية

 

غازات الاحتباس الحراري.. رياح الأعاصير تلهب البحر والبر

يفتح استغراق فصل الصيف لفترة مهمة من السنة المجال أمام الظواهر الطبيعية المرتبطة بهذا الفصل الساخن للتزايد والتطور، وعلى رأس هذه الظواهر الأعاصير والعواصف الرعدية.

ويجمع العلماء على أن ارتفاع درجات حرارة الأرض والمحيطات هو سبب مباشر في هبوب عدد قياسي من الأعاصير الموسمية في المحيط الأطلسي، وتزايد القوة التدميرية للأعاصير المدارية في المحيط الهندي والمحيط الهادئ على مدى الثلاثين عاما الماضية، رغم أن دور المحيطات أساسي في حماية الأرض من موجات الحر الشديدة، بفضل امتصاصها لأكثر من 90% من الحرارة الزائدة التي تحتجزها غازات الاحتباس الحراري.

وكان تقرير لمنظمة الأرصاد الجوية الدولية قد ربط بين زيادة في سرعة رياح الأعاصير، وارتفاع درجات الحرارة خلال فترة طويلة من السنة، كما أجمع خبراء المناخ أن فترة النشاط المفرط للأعاصير ظهرت بعد العام 1995، وهذه المعطيات تشير إلى تأثيرات مباشرة للاحتباس الحراري، خصوصا أن منظمة الأرصاد حذرت من أن درجات حرارة الأرض تستمر في الارتفاع بلا هوادة، ووصفت العقد الماضي (2011-2020) بالأشد حرارة على الإطلاق.

يتسبب ارتفاع درجة حرارة الكوكب بالحرائق الموسمية وخصوصا في الغابات

 

موجات الجفاف وألسنة الحرائق.. خطر يتهدد رئة الأرض

أدى تغير مناخ الأرض وازدياد مدة فصل الصيف الحار في مناطق عدة من العالم، إلى ظهور موجات جفاف شديدة، وحرائق واسعة النطاق وطويلة الأمد تستهدف بالأساس الغابات التي تعتبر رئة الكوكب.

وأصبحت أيام الصيف مرادفة لألسنة اللهب كل عام تقريبا في الولايات المتحدة في النصف الشمالي للكوكب، وفي أستراليا في نصفها الجنوبي، ولم تستثن الحرائق في 2020 حتى سيبيريا التي اجتاحتها النيران وأتت فيها على 19 مليون هكتار، منها 10 ملايين هكتار من الغابات، أي أكبر من مساحة الأردن وفلسطين معا.

وتزايدت المطالب حول العالم بضرورة إنقاذ سكان الغابات والمناطق الساحلية الأكثر عرضة لهذه الظواهر والأخطار المرتبطة بها، من خلال تحسين أنظمة الإنذار المبكر بالأخطار والتنبؤ بها، وتعزيز وسائل الإنقاذ والحماية من الكوارث التي تخلف آثارا اجتماعية واقتصادية كبيرة.

ويتبادل نصفا الكرة الأرضية نيران الحرائق على طول السنة، فعندما تخمد في أمريكا الشمالية تشتعل في أستراليا، وقد تسببت في الفترة 2019-2020 بنفوق ونزوح ما يقرب من 3 مليارات من مختلف الحيوانات والكائنات البرية، وكبدت الاقتصاد الأسترالي نحو سبعة مليارات دولار.

ولأن العام 2020 كان الأحرّ على الإطلاق في الولايات المتحدة الأمريكية، فقد أبلغت البلاد عن حجم خسائر قياسية بسبب الكوارث المرتبطة بهذا الاحترار من أعاصير وحرائق بقيمة 22 مليار دولار.

 

معدلات الجريمة.. حيث ترتفع الحرارة يرتفع العنف

لا يقتصر تأثير المناخ على الطبيعة، فالإنسان بكل جوارحه يتفاعل مع تغير الفصول، وتنعكس درجات الحرارة مباشرة على الصحة الجسدية والنفسية، ففي فصل الصيف عندما يصبح الليل قصيرا، تقل ساعات النوم الاعتيادية، كما تتأثر جودة النوم بارتفاع الحرارة، وغالبا ما يترافق مع رؤية الأحلام المزعجة والكوابيس.

وتسبب هذه الاضطرابات في النوم أحيانا تقلبات نفسية ومزاجية للفرد، تزداد تفاقما مع حرارة الجو وحدة الأشعة الشمسية في النهار، مما يؤدي إلى التنفس بشكل غير طبيعي، نتيجة تباعد ذرات الأوكسجين في الهواء، وتظهر على الشخص سلوكيات سلبية كالعصبية والاندفاع الزائد والشعور بالملل وعدم الارتياح.

وربطت أيضا دراسات عدة بين ازدياد العنف ومعدلات الجريمة في المجتمعات، وبين ارتفاع درجات الحرارة بشكل كبير في فصل الصيف، ومن بينها دراسة أجريت في بريطانيا بين 2010 و2018، وقد أظهرت ارتفاعا في الجرائم العنيفة بمعدل 14% عندما تتجاوز درجات الحرارة 20 درجة مئوية، مقارنة بالأجواء الباردة تحت 10 درجات.

وكشفت دراسة مماثلة في الولايات المتحدة الأمريكية خلال العقد الماضي أن معظم الجرائم كانت تقع في فترات حارة من السنة، وأن أكثر الجرائم العنيفة سجلت في المناطق التي تمتاز بارتفاع درجات الحرارة. وفي جنوب أفريقيا، توصل الباحثون إلى أن كل ارتفاع في معدلات الحرارة بدرجة واحدة، يقابله ارتفاع في جرائم القتل بـ1.5%.

 

إنسان الصيف.. واقع الحر يفرض التأقلم

أصبحت الأجواء الحارة التي تربو على 40 درجة مئوية تعم أغلب مناطق الأرض في فصل الصيف، ولم تعد تقتصر على المناطق ذات المناخ شبه الصحراوي التي اعتادت على هذه الظروف المناخية منذ سنوات، فأصبحنا نسمع اليوم عن موجات حر شديدة تضرب أوروبا وأمريكا الشمالية، وغالبا ما تؤدي إلى وفيات بسبب عدم تحمل سكان هذه المناطق لهذه الأجواء.

ومما لا شك فيه أن الإنسان عود نفسه دائما على التأقلم، ومن أجل التكيف مع طول الأجواء الحارة، أصبح لزاما علينا اعتماد سلوكيات تحمي مزاجنا وجسمنا من أي أضرار محتملة، كتفادي التعرض المباشر لأشعة الشمس الحارة في أوقات معينة من النهار، وارتداء ملابس مريحة تساعد على التعرق بسهولة، واستعمال المكيفات وأدوات التبريد عند الحاجة وفي الحدود المعقول.

وينصح الأطباء أيضا بالإكثار من شرب الماء والعصائر الطبيعية من أجل ضمان أداء الجسم لوظائفه بالشكل الأمثل، واعتماد نظام غذائي متوازن يساعد على مقاومة الأجواء الحارة، بحيث يكون غنيا بالفيتامينات والمعادن الأساسية وقليل الدهون.

وباستثناء الجانب النفسي، يبقى فصل الصيف المعتدل الذي تعودت البشرية عليه قبل تغير المناخ، من أفضل الفصول على الإطلاق من الناحية الصحية، إذ أن الأجواء المشمسة المعتدلة تساعد الجسم في تنظيم معظم العمليات الحيوية والبيولوجية.

والضوء يحسن المزاج نظرا لأنه يحد من إفراز هرمون “ميلاتونين” الذي يسبب الخمول، كما أن أشعة الشمس تعمل على تنشيط الجهاز المناعي الذي يحمي الجسم من الأمراض، بالإضافة إلى أن النظام الغذائي المرتبط بهذا الفصل يساعد بشكل كبير على إنقاص الوزن.


إعلان