هشام جعيط.. فقيد تونس والتاريخ الإسلامي والفكر الحديث

أمين حبلا

ودعت تونس اليوم الأول من يونيو/حزيران المنصرم مفكرها العظيم هشام جعيط، بعد عقود من البحث والتنقيب في التراث الإسلامي، ومرافقة المداد في رحلة بدأت من المدرسة الصادقية في تونس، وانتهت على مشارف العقد الثامن.

في السنوات الأخيرة من عمره، وهن عظم الرجل، وأصر جسمه المنهك بالأمراض على أن يذكر النفس الوثابة والقلم الرشيق والروح الشبابية الجامحة، بأنه لم يعد في كامل طاقته، وأن العقود الثمانية التي سلخها، لم يعد بإمكانها مواكبة الهمة الوثابة والقلق المعرفي والصرامة المنهجية.

بكى مفكرون كثر وكتاب مرموقون ومراكز بحثية وسياسية متعددة، مفكر تونس هشام جعيط، ورأوا في رحيله خسارة لأمة الفكر وشعب الثقافة.

 

تونس العاصمة.. مولد في أحلك فترات التاريخ الحديث

ولد المفكر هشام جعيط في 6 ديسمبر/كانون الأول 1935 بتونس العاصمة، وفيها قضى شبابه في فترة من أصعب فترات الدولة التونسية، حين كانت تحت رحمة التطورات التي تمور بها المنطقة والعالم قبيل اندلاع الحرب العالمية الثانية، كما كانت البلاد تعيش حالة فوران وثورة وكفاح ضد المحتل.

ينحدر هشام جعيط من عائلة تونسية مرموقة ذات تاريخ أصيل في الثقافة العربية الإسلامية، فقد كان والده شيخا وأستاذا مشهورا في جامعة الزيتونة، وكان عمه أحد أعلام العلماء التونسيين.

وقد عاصر في شبيبته مختلف التحولات الكبرى في المجتمع التونسي، ورأى كيف خلعت فئات منه بسرعة لافتة العمامة والجلباب الإسلامي الصافي، وانطلقت في مغالبة مسعورة، نحو المعطف والقبعة الغربية، وطوت دواوين الضاد، لتغرق في عمق ثقافة “موليير”.

كانت تلك التحولات معيارا واضحا لدخول تونس ما يصفه البعض بالعصر الثاني للاحتلال الفرنسي الذي غادر بجيشه ومؤسساته، وبقي بوسمه وثقافته وقيمه التي ترسخت بشكل عنيف وصارم في حقبة “المجاهد الكبير” لحبيب بورقيبة.

المدرسة الصادقية.. فسيلة في واحة إسلامية عتيقة

كان للنشأة الأولى في أحضان الثقافة الإسلامية ببيت مسلم ذي تقاليد عريقة في نشر وخدمة المعارف الإسلامية، دور كبير في تشييد رؤية هشام جعيط الثقافية والعلمية، وتوجيه أنظاره إلى التحولات الاجتماعية التي أحدثها الإسلام في المجتمع العربي عند نشأته، كما كان للنقمة التي عاشتها أسرته تجاه التحولات السياسية والقيمية في المجتمع التونسي، أثرها الكبير في نظرته غير المعجبة دائما تجاه النموذج الغربي، فقد هبطت أسرة جعيط من سلم التقدير الاجتماعي الذي خولته لها مكانتها ومنزلتها الدينية، وفقدت كل ذلك في تحولات الهوس السياسي بالنموذج الغربي، والحول الثقافي تجاه باريس.

في المدرسة الصادقية تلقى هشام جعيط المعارف العربية والإسلامية غضة طرية، كما تلقاها التوانسة منذ قرون، وقد عاش حياته من بعد ذلك لاهجا بالشكر والامتنان لوالده، لأنه لم يدخله المدرسة الفرانكفونية التي كانت العنوان الأبرز للتعليم العصري في تونس في تلك المرحلة.

وبعد المدرسة الصادقية ذات التاريخ الإسلامي العريق، انتقل جعيط إلى حقل الدراسات الإسلامية، وخصوصا حقل التاريخ الذي تخصص فيه، حتى نال الإجازة العامة في اختصاص التاريخ سنة 1962، ونال بعد ذلك الدكتوراه سنة 1981 في التاريخ الإسلامي من جامعة باريس.

وبتلك المسيرة التحصيلية المرموقة استوت شخصية جعيط العلمية على ساقين من المعرفة الدقيقة باللسانين العربي والفرنسي، مما جعله حاد القلمين، ذرب اللسانين، ذا صناعتين في التأليف بالعربية والفرنسية، وإن كان ذا حقل متخصص، حصر نفسه فيه لفترة طويلة، وسعى إلى أن يعيد كتابة التاريخ التأسيسي للإسلام، بقلم جديد يعيد رسم ملامح الواقع، ويفسر الأحداث، ويسعى إلى إقامة نموذج تفسيري يمكن من قراءة أكثر وعيا لتاريخ العقود الثلاثة الأول من عمر الإسلام في المدينة المنورة.

المفكر هشام جعيط يحاول فكفكة أحداث التاريخ الإسلامي

 

أستاذ التاريخ.. فلسفة ناقدة تلف أرجاء المعمورة

عمل المرحوم جعيط بعد عودته إلى تونس أستاذا في جامعة الزيتونة للشريعة وأصول الدين، بعد أن قصت أجنحتها، وفقدت كثيرا من ألقها ورمزيتها التي استقتها من تاريخها الأصيل في تدريس معارف الشريعة الإسلامية، كما عمل أستاذا أيضا بكلية الآداب في تونس، وتوهجت آثاره العلمية في مناطق أخرى من العالم أستاذا زائرا في جامعة ماك غيل بمونتريال في كندا، وأستاذا زائرا أيضا بجامعة باركلاي الأمريكية في كاليفورنيا، ومارس التدريس أيضا في معهد فرنسا.

وإلى جانب التدريس في جامعات تونسية وكندية وأمريكية وفرنسية، فقد اختارته السلطات التونسية في العام 2012 مديرا للأكاديمية التونسية للعلوم والآداب والفنون المعروفة باسم “بيت الحكمة”، واستمر في إدارته حتى أواخر العام 2015.

وفي مسيرته الأكاديمية في تونس والجامعات المتعددة التي عمل بها أستاذ زائرا ترك جعيط بصمة خالدة على أجيال متعددة من الطلاب والأكاديميين الذين درسهم خلال الأربعين سنة الأخيرة من عمره، كما ترك بصمة خالدة في مذاهب التفسير الاجتماعي للتاريخ الإسلامي، وخصوصا الحقبة التأسيسية من عمر الدولة الإسلامية التي أنشأها وأسسها النبي الكريم محمد ﷺ.

ولم يغفل جعيط التداول السياسي والاجتماعي، وتناقض الحساسيات المشكلة للمجتمع المدني خلال عقوده الأولى متوقفا عند “الفتنة مصطلحا ونشأة ومسارا وتاريخا”.

كما نالت أسئلة الثقافة وتفسير أنماطها دورا أساسيا في مؤلفات جعيط، حيث ساءل أزمنة التراث العربي والإسلامي، ومواقع الثقافة من الحراك السياسي والاجتماعي، وأعاد تفكيك معالم هذه الثقافة ومكوناتها، وعلاقتها مع المجتمع والتاريخ والإنسان.

كتاب “الفتنة.. جدلية الدين والسياسة” الذي أثار جدلا واسعا حول منهج هشام جعيط

 

فيلسوف السيرة النبوية.. مكتبة النقد التاريخي

اشتهر هشام جعيط بثلاثيته الأثيرة في السيرة النبوية، وقد سبر فيها -كما يرى- أغوار عدد من القضايا، وتناول فيها الوحي كعلاقة بين السماء والأرض والإنسان والقيم، كما تناول النبوة كفلسفة وتاريخ وقيم.

وقد كان جعيط يكتب ثلاثيته بقلم حاد، ومن جهة نظر تاريخية ناقدة لمختلف مصادر المعلومات واتجاهات التأويل الإسلامي، وكان يعلن بصراحة أن هدفه إعادة كتابة السيرة النبوية بطريقة علمية مغايرة لكل السّير التي كُتبت قديما وحديثا.

وقد ترك جعيط دائرة معارف واسعة من بينها كتبه:

–        في السيرة النبوية.

–        الفتنة: جدليّة الدّين والسّياسة في الإسلام المبكّر.

–        الشخصية العربية الإسلامية والمصير العربي.

–        أوروبا والإسلام: صدام الثقافة والحضارة.

–        الكوفة: نشأة المدينة العربية الإسلامية.

–        أزمة الثقافة الإسلامية.

وفي حياته التي طافت منتصف العقد التاسع، وفي مسيرته العلمية المتعددة، لم يكتفِ الرجل بالعلم والبحث، بل تجاوزه إلى نقد المناهج التفسيرية في التاريخ وعلم الاجتماع، وكان يرى أن المدرسة الفرنسية الاستشراقية أكثر تأخرا وأقل احترافية منهجية من المدارس الألمانية والأنجلوسكسونية.

 

انقلاب المجتمع والدولة العصبية.. نبوءة ابن خلدون

اتخذ هشام جعيط من حالة أسرته نموذجا قابلا للتعميم في دراسة تحولات المجتمع التونسي منتصف الخمسينيات، فقد لاحظ أن عائلته انقلبت على قيمها، وأصبحت بعد الاستقلال تشعر بأنها محتقرة، وأن والده الشيخ الزيتوني كان ناقما على النظام البورقيبي، ليس بسبب انقلاب القيم الذي قاده بورقيبة ضد الثقافة الإسلامية والعربية في بلاده، بل بسبب فقدان العائلة لمكانتها الرمزية والتاريخية المهمة التي نبتت على تاريخ طويل من القرب من المنابع الإسلامية والاستقاء من حياضها المعرفية.

ويرى جعيط أن بورقيبة رغم حداثيته الطافحة، ونموذجه اللائكي (العلمانية الفرنسية) الذي حاول فرضه بقوة الدولة والثقافة والتعليم، فإنه أقام امتدادا حداثيا لفكرة الدولة العصبية التي بشر بها وفرع أصولها الفقيه الاجتماعي التونسي عبد الرحمن بن خلدون.

ويرى جعيط أن أعمال بورقيبة أدت إلى احتقار الثقافة الإسلامية ورموزها، إذ يقول: وجدت نفسي أعيش في بلد بدائي ومتخلف، وعائلتي انقلبت على نفسها وقيمها، أبي كان شيخا في جامعة الزيتونة، أزيحت جامعة الزيتونة بطلب من الحبيب بورقيبة، ولم يتألم أبي لفقدان هذا الصرح العلمي، بل تألم لموقعه الاجتماعي الذي ألغي، لأن المشايخ صاروا محتقرين، خاصة وأن الناس يتبعون دين ملوكهم.

لهشام جعيط مجموعة مؤلفات في السياسة والسيرة والقرآن

 

صراع الشرق والغرب.. وساطة بين العلمانيين والإسلاميين

اهتم هشام جعيط بتحليل العلاقة بين الإسلاميين والعلمانيين، وهي ذات العلاقة التي يرى أنها كانت في بعض ملامحها ارتجاعا لأزمة الصراع بين الشرق والغرب، وأنها كانت رجع صدى للعجز عن إحداث تنمية سياسية واجتماعية تراعي الخصوصيات الفكرية والدينية للمجتمعات العربية والإسلامية.

ويدعو جعيط بصراحة ووضوح إلى مراجعة العلاقة بين الإسلاميين والعلمانيين، لتكون أكثر مرونة، وأكثر وعيا بالمشتركات المتعددة التي من أهمها قضية الحرية وحقوق الإنسان والديمقراطية وإشكالات التنمية والتحديات الاقتصادية والاجتماعية التي تواجه الأوطان.

ويرى أن الوعي بهذه الثوابت سيكون معينا على تجاوز العثرات التي تقع فيها مسيرة الإصلاح والثورات العربية التي قد تخفق في فترات، وتكبو في بعض وثباتها، لكن لهب الثورة المشتعل لا بد أن ينطلق بعد ذلك، ويحقق بمستويات الوعي المتاحة ما أمكن من نجاح، معتبرا أن أعمار الثورات هي أعمار أجيال ولا تقاس بأيام عابرة، أو سنوات تمضي سراعا.

ويؤمن جعيط في حواراته وخلاصاته الفكرية بأن الدول العربية محكومة بعوامل جيو-إستيراتيجية، وأن فقه التاريخ يتطلب الوعي بهذه العوامل. فحركة التاريخ –كما يعرّفها جعيط- “تحكمها قوانين، خلافا للسياسيين الذين يهتمون بالعوامل الظرفية، فإن دور المفكر والمثقف الاهتمام أكثر بالخلفيات الفكرية والدينية والثقافية وبالعوامل الأنثروبولوجية (علم الإنسان) والهيكلية، وأن تكون له نظرة بعيدة المدى، وقد أثبت التاريخ تداخل العوامل الثقافية والدينية والفلسفية والثقافية وعمق تأثيرها في الدول وفي مسارات شعوبها ومجتمعاتها”.

أثارت تحليلات هشام جعيط التاريخية تحفظات الكثيرين من مفكري الإسلام الذين رأوا فيها تحريفا للنصوص

 

حصاد الربيع التاريخي.. رحلة المخاض الثوري الطويل

يؤمن جعيط بأن صوت الرفض كان ولا يزال متوهجا في عمق التاريخ العربي، مطمئنا بذلك المستعجلين من أجل حصد نتائج الثورات إلى أن المسار طويل، ويتطلب بناء متكاملا، حيث يؤكد في أحد حواراته الصحفية ضرورة الانشغال “بالمستجدات الاقتصادية والسياسية والعسكرية السلبية والخطيرة التي تمر بها الدول العربية وتؤجل تحقيق أهداف رموز تيارات النهضة والإصلاح في القرنين الماضيين، يجب التطلع إلى إنجاز كثير من أهداف الثورة التونسية والثورات العربية على المدى المتوسط والبعيد”.

ولأن الثورة التونسية كانت نموذجا قابلا للتعميم، فقد كان الرجل يرى فيها مدخلا لتفسير مختلف الثورات العربية، ووضع المعالم الأساسية لفهم المسارات التي تأخذها دورة حياة الثورات.

برحيل جعيط لا ترحل ذاكرة مؤرخ بارز ومؤثر في الفقه السياسي والتاريخي الإسلامي المعاصر، بل يرحل أيضا قلم سياسي ورأي فكري عميق كان بالغ الاعتداد بنفسه وبعلمه، مترفعا كثيرا عن السجالات التي تناولت بعض قضايا فكره، والتي رأى في بعضها أنها كانت تنزل به من مقامه العلمي إلى مستويات أقل رفعة وخدمة للعلم.


إعلان