“كلود مونيه.. في نور اللحظة”.. ريشة ترسم انطباع المشهد

خاص-الوثائقية

“صديقي العزيز، أنا لست صانع معجزات، أنا فقط أستخدم الكثير من الألوان وأستهلكها، فالألوان هي هوسي ومتعتي ووجعي، أنا لم أتحول لرسام انطباعي فقد كنت كذلك بالفعل طوال حياتي”. هذه عبارات قالها الرسام الفرنسي “كلود مونيه”، تلخص مسيرة وسيرة أحد أعظم الرسامين الانطباعيين الذين مروا في التاريخ.

ويأخذنا فيلم “كلود مونيه في نور اللحظة” التي بثته الجزيرة الوثائقية، في رحلة مع “مونيه” رائد المدرسة الانطباعية في الرسم، حيث نعيد تصوير حياته وأعماله، ونستمع إلى مؤلفي سيرته الذاتية ومؤرخي الفن والمصورين وهم يتحدثون عن رجل جعلته الزهور رساما مشهورا.

 

“كانت طريقة جديدة تماما في التفكير بالفن”

يقول “كريستوف هينريش” مدير متحف دنفر للفنون: على عكس جميع الرسامين، يرتبط “كلود مونيه” ارتباطا وثيقا بالأماكن التي يعيش فيها أو يزورها للرسم.

أما “أوترود ويستهيدر” مديرة متحف بريني بوتسدام، فتقول: ثمة طريقة للتجول مع “مونيه” عبر حياته بكاملها لنرى كيف تغيرت أعماله واتخذت شكلها ببطء من خلال انشغاله الكثيف بالأماكن، ومنذ أولى لوحاته بالمناظر الطبيعية وحتى رسوماته لزنبقة الماء، خطا نحو القرن العشرين برسم لوحات تجريدية.

ويقول المصور “كريستوف إيرغانغ”: كان “مونيه” متهما بأنه مزاجي ويرسم انطباعاته، غير أنه أعاد إنتاج السمات “الطبوغرافية” كما يراها هو تماما، العالم بأسره مليء باللوحات، فهو عبارة عن لوحة واحدة ويمكنك رؤية كافة التفاصيل، ولكن عندما تنظر إلى فنان مثل “مونيه”، ستلاحظ أنه كان ينظر بعناية فائقة، ويعيد إنتاج ما يرى، وعادة ما يفعل هذا بدقة مذهلة، وعلى النقيض من ذلك فلديه برنامج محدد للغاية يتطلع إليه دوما، ولهذا لا أعمل حين ألتقط الصور بطائرة مسيرة، بل أحاول أن أجد المكان الذي وقف فيه “مونيه” ليرسم، أحيانا عندما تتحرك، تلاحظ أن هناك احتمالا واحدا لرؤية المنظر الذي رسمه، وإن تحركت نصف متر إلى الأمام أو الخلف أو اليمين أو اليسار، فلن أستطيع التقاط المنظر الذي رسمه “مونيه”، لست من مناصري تقديس الأشخاص أو أي شيء من هذا القبيل، ولكنه مختلف.

وفي السياق يشير “دانيل زاماني” القيم على متحف بريني بوتسدام، إلى تطور المدرسة الانطباعية قائلا: طور الانطباعيون لغة بصرية جديدة بالكامل، كانت على نقيض الأكاديمية بالكامل، ففي القرن الـ19 كانت مواصفات اللوحة محددة للغاية، إذ يجب أن يكون سطحها أملس قدر الإمكان، وهذا ما كان يسمى باللمسات النهائية في مدرسة النقد الفرنسي، لكن الانطباعيين فجأة بدأوا بتفتيت سطح اللوحة، وكان من اهتماماتهم إظهار مراحل عملية الرسم أيضا، والمتمثلة بضربات الفرشاة المرئية، فاللوحة هي خط يد الرسام بطريقة ما، كانت طريقة جديدة تماما في التفكير بالفن.

كلود مونيه عميد الرسامين الانطباعيين (1840- 1926)

 

“أنا في وضع سيء للغاية”.. كفاح البدايات في باريس العنيدة

انتقل “كلود مونيه” إلى باريس التي كانت وقتها تُعد بوتقة انصهر فيها الفن في ذلك الوقت، فإن استطعت النجاح في باريس، فذلك يعني أنك ستنجح في أي مكان، وهذه الفكرة اجتذبته. يقول “مونيه” متحدثا عن باريس: هذا المكان رائع، ففي كل يوم أكتشف أمورا جميلة وأود القيام بكل شيء وهذا ما يدفعني للجنون، يكاد رأسي ينفجر. لتتمكن من رسم مكان ما لا بد من أن تعيش فيه لبعض الوقت، ويجب أن تعمل بجد لتماثله بشكل دقيق، ولكن هل يمكن أن يكون المرء راضيا برسمه المقارن بالطبيعة نفسها؟

ويقول “كريستوف هينريش” مدير متحف دنفر للفنون: هذه باريس في ذلك الوقت، و”مونيه” في قلبها، وهناك قصة طريفة تروى عن ذهاب “مونيه” إلى متحف اللوفر، فالجميع يذهب إلى اللوفر لنسخ لوحات كبار الرسامين، إلا أن “مونيه” تجاهل الجميع ورسم الإطلالة من نافذة المتحف.

يقول “مونيه”: بذلت كل ما أقدر عليه كرسام، وهذا يبدو كافيا لي، لا أريد أن أقارن بالرسامين من الماضي، ولوحاتي معروضة من أجل النقد، هذا كل ما يسعني فعله.

وتروي “ماريان ماثيو” مديرة متحف مارموتان العلمي في باريس: في عام 1874 نظم “كلود مونيه” معرضا مشتركا مع أصدقائه، في المشغل السابق للمصور “نادار”، وهذه الخطوة كانت مهمة جدا بالنسبة لـ”مونيه” وأصدقائه الذين كانوا مستبعدين من المعارض الرسمية، وبات بإمكانهم الآن اختيار الأعمال التي يرغبون في عرضها بأنفسهم. لم يحضر إلى المعرض سوى عدد من الأشخاص من بينهم أحد الصحفيين الفرنسيين المشهورين وقتها، وقد وصف لوحات “مونيه” وأصدقائه بأنها “انطباعية وغير مكتملة”.

انعكس هذا الموضوع سلبا على “مونيه”، وكتب في 2 يونيو/حزيران 1869: عزيزي “آرسين أوسي”، هل ترغب في رؤية عدد من اللوحات التي تمكنت من إنقاذها من وكلاء الديون، فكرت بأنك يمكن أن تساعدني قليلا، أنا في وضع سيء للغاية، ولم أعد قادرا حتى على العمل.

وفي هذا السياق يقول “باسكال بيرين”، المدير العلمي في معهد ويلدنشتاين بلاتر: مثل جميع الفنانين الانطباعيين، كان على “مونيه” أن يحارب في بداية مساره المهني، والرسوم الكاريكاتورية التي عثرنا عليها تثبت ذلك، فهذه الرسوم -التي رسمت في بداية فترة المعارض الانطباعية- تسخر من الانطباعيين، ونقوم في المعهد برقمنة الأرشيف، ومن بينه أرشيف “مونيه”، حتى يكون سهل الوصول للعامة والباحثين.

مونيه يرسم زوجته وابنه سعيدين في مدينة أرجنتوي

 

مدينة أرجنتوي.. فردوس العائلة وحلم البرجوازية

يقول “مونيه”: عندما ترسم، حاول أن تتجاهل الأشياء التي أمامك، سواء أكانت شجرة أو منزلا أو أي أمر آخر، فكر فقط بالتفاصيل الدقيقة التي تساعدك في نقل انطباعاتك ورسم لوحة.

هذا الكلام يفسره “دانيل زاماني” القيم على متحف بريني بوتسدام قائلا: لوحات المحطة لـ”مونيه” إحدى أولى السلاسل المثيرة للاهتمام في أعماله، إذ نرى في اللوحات الانبهار بالسكك الحديدية كرمز للتطور والتصنيع والحداثة، كل شيء يتعلق بالسرعة والاندفاع وازدهار الحياة، وتدور حول “بودلير” (شاعر وناقد فني) وفكرة الحداثة والقوة الخاطفة التي أراد “مونيه” وضعها في اللوحة.

أما “بول توكر” المؤرخ الفني، فيكشف عن مرحلة من تطور الانطباعية قائلا: سنوات “مونيه” في مدينة أرجنتوي الفرنسية، كانت حاسمة للغاية في تطوره وتطور المدرسة الانطباعية، كانت بلدة صغيرة خارج العاصمة باريس، نمت بشكل هائل في سبعينيات القرن الـ19، وكانت مثالية لدى وصوله إليها، وتمثل حلم البرجوازية الذي كان يراود كثيرين في عصره.

في هذه القرية استقر “مونيه” للمرة الأولى وتزوج وأنجب طفلا، وتعكس عددا من لوحاته التي كانت تمثل السلام والسكينة في ذلك الوقت، ويبدو -من خلال اللوحات- أن “مونيه” كان يعيش مع زوجته وابنه في الجنة.

تقول “ستيفاني فيزي”، القيمة على المنزل في أرجنتوي: انتقل “كلود مونيه” إلى هذا المنزل عام 1874 وأمضى فيه حوالي 7 سنوات في أرجنتوي، 4 سنوات منها في منزل واحد.

اشترت البلدية المنزل وتنوي فتحه أمام الجمهور، ويمكن للزوار تتبع مسيرة حياة “مونيه” واكتشاف تاريخ أرجنتوي من خلال لوحاته.

وتقول “ستيفاني”: بنى “كلود مونيه” ورشة فنية على متن أحد القوارب، بهدف رسم أكثر ما يفضله، لا يعرف ماذا حل بالقارب، هل أخذه معه أم تركه هناك؟ نحن لا نعرف، اختفى القارب في جميع الأحوال، ولهذا قررت بلدية أرجنتوي إعادة صنع قاربه في التسعينيات، وصمم بناء على لوحات “كلود مونيه”.

وأوضحت “أوترود ويستهيدر”، مديرة متحف بريني بوتسدام أن الانطباعيين أبرزوا الحداثة في المناظر الطبيعية التي رسموها بدلا من إغفالها في أرجنتوي، فقد رسم “مونيه” الأبنية الجديدة والجسور، وبالطبع كان لهذا علاقة أيضا بدمار بعض الأبنية عقب الحرب البروسية الفرنسية، وكان الناس فخورين للغاية بسبب إعادة بنائها، الحداثة والتقدم والتفكير التقدمي للانطباعية والموقف الإيجابي نحو الثورة الصناعية.

ويكتب “مونيه”: رسمت نهر السين طوال حياتي، في كل وقت من اليوم، وفي كافة المواسم من باريس إلى البحر، ولم أملّ منه أبدا، إنه جديد بالنسبة لي دوما.

ويقول “هينريش” مدير متحف دنفر للفنون: السنوات التي قضاها “مونيه” في أرجنتوي كانت فترته الذهبية وبدا أنه قد حقق النجاح، ولكن هذا لم يدم طويلا، فقد أفلس راعيه، وظهرت مشاكل تتعلق بمعرضه الفني، فانتقل إلى مدينة “فيتاي” الفرنسية، وكان ذلك المكان بعيدا جدا عن المدينة.

“كلير غاردي” مالكة منزل “كلود مونيه” في فيتاي تحاول محاكاة منزله من خلال رسوماته

 

“خسرت زوجتي المسكينة المعركة”.. آلام قرية فيتاي

تقول “كلير غاردي” مالكة منزل “كلود مونيه” في فيتاي: عاش “كلود مونيه” في هذا المنزل في فيتاي ابتداء من عام 1878 وحتى 1881، ولم يصل “مونيه” إلى هنا بمفرده، بل كانت معه عائلة “أوشي ديه” وكل المقربين منه. وكان “أوشي ديه” محبا للفن وأحضر معه عددا من لوحات مونيه معه لكنه أفلس. وقد اشتريت وزوجي هذا المنزل قبل 4 سنوات، وقضينا وقتا طويلا في تزيينه، ليبدو كما كان في عصر “مونيه”. ففي ذلك الوقت كنا نبحث عن عقار لنديره كنزل، وعرفنا أن هذا المنزل سكنه “كلود مونيه” لثلاث سنوات، وبعد أبحاث إضافية عرفنا أنه لم يسكن هنا فقط، بل رسم فيه 240 لوحة أيضا، وهذه المعلومة عن تاريخه لم تكن معروفة بعد.

وأضافت “غاردي” أنها تجمع البطاقات البريدية في فيتاي، ووجدت بطاقة تعود إلى بداية القرن العشرين، وهي تظهر رجلين مع كلب في قارب، “أحد الرجلين يذكرني كثيرا بـ”مونيه”، أنا متأكدة من أنه “مونيه”، وكأنه يقول للمصور، لقد عدت بعد 20 عاما فالتقط لي صورة”.

ويذكر “كريستوف هينريش” مدير متحف دنفر للفنون، أن “مونيه” رسم في فيتاي أبنية مثل الكنيسة التي كانت قائمة منذ العصور الوسطى، وهي لم تختلف بين القرنين السادس عشر والثامن عشر، ولكن ثمة ميزة سرمدية بشأنها.

وترى “ماريان ماثيو” مديرة متحف مارموتان العلمي في باريس، أن “مونيه” رسام متسق الأداء للغاية، فهو ينتقي الفكرة نفسها مرارا وتكرارا، ويلتقط اللحظة ويرسم المستحيل، وينجح هذا التحديث من خلال رسمه مناظر في الضباب.

توفيت “كامي دونسيو” زوجة “مونيه” بعد وصولها إلى فيتاي ببضعة أيام

 

تقول “ماريان”: في صباح أحد الأيام من عام 1879، نصب حامل لوحاته مقابل قرية فيتاي -حيث كان يعيش- ورسم لوحة جميلة جدا، فترى نهر السين في المقدمة وفي الخلف ترى ظلال فيتاي مرسومة بألوان براقة، تكاد تكون رتيبة، ولكن هذه اللوحة بيعت سريعا لأحد هواة جمع اللوحات الانطباعية، غير أن هذا الرجل أعاد اللوحة إلى “مونيه” باعتبارها لم تنته بعد. وهكذا تلقى اللوم الذي يلقيه الجميع على الانطباعيين. فقد شعر “مونيه” بالصدمة والإهانة، واحتفظ باللوحة طوال حياته، ولم يعرضها للبيع أبدا.

وعندما وصلت “كامي دونسيو” زوجة “مونيه” وأطفالهما إلى فيتاي، كانت مصابة بسرطان الرحم وتسوء حالتها بشكل سريع، ولهذا لجأ إلى أصدقائه الأثرياء لطلب الدعم المالي منهم، لدفع ثمن الأدوية وإحضار الأطباء إليها.

ولكن “كامي” لم تستطع المقاومة وتوفت في 5 سبتمبر/أيلول 1879، وكتب مونيه في رثائها “خسرت زوجتي المسكينة المعركة في هذا الصباح، بعد معاناة رهيبة مع المرض، أنا يائس تماما، حيث أقف لوحدي مع أطفالي المساكين، بدا أمرا طبيعيا لي أن أرسم آخر لوحة لها، للمرأة التي غادرتنا للأبد، ولكن حتى قبل أن أركز على تعابير وجهها المحببة، دفعني إحساس داخلي للتركيز على تغيير الألوان، ومن دون وعي بدا أنه عليّ القيام بأمور كانت تشغلني كل يوم، كحيوان يعمل في الحقل.

“جروف إيتريتا” رسومات شاطئية كتب فيها مونيه رسائل لزوجته يصف فيها سعادته بها

 

“وجدت نفسي في زبد الماء مع أدوات الرسم”.. شواطئ نورماندي

انتقل “مونيه” من فيتاي إلى منطقة نورماندي التي يصفها “دانيل زاماني” القيم على متحف بريني بوتسدام بأنها كانت أساسية جدا في أعمال “مونيه”، فالبحر والسفن يسريان في عروقه بحق، وهذه السمة ستلازمه طوال حياته.

وفي رسالة إلى زوجته الثانية “أليس أوشيدي”، كتب “مونيه” في 1 فبراير/شباط 1883: سيدتي العزيزة قمت بعمل رائع اليوم، وأنا راض جدا، أود رسم جروف إيتريتا (بلدة في فرنسا)، مع أنه سيكون عملا جريئا للغاية، بعد أن رسمها “كوربيه” بروعة بالغة، لكنني سأحاول رسمها بطريقة مختلفة، إيتريتا تصبح أكثر روعة، إنها لحظة فريدة، الشاطئ وكل تلك القوارب الجميلة، إنها رائعة، وأنا متحمس لدرجة أنني أشعر بأني لست بهذه المهارة لإعادة إنتاج كل هذا، لا يمكن فضل عمل وحياتي “مونيه” عن النورماندي.

وبعد هذه الرسالة بأكثر من عامين، كتب رسالة أخرى إلى “أليس” جاء فيها: كنت مركزا ومحميا بالرياح بينما كنت أرسم، لم أر تلك الموجة الكبيرة التي ألقت بي على الصخور، ووجدت نفسي في زبد الماء مع أدوات الرسم، حملت نفسي إلى الشاطئ على أطرافي الأربعة، لكنني كنت في حالة سيئة للغاية، فكل أغراضي تبللت بالماء والأسوأ أنني فقدت لوحتي، فالمهم ليس ما ترسمه، ولكن كيف نصوره.

وفرت الكاتدرائيات الحجرية لمونيه مصادر لا حصر لها للرسم

 

“لا أفعل أي شيء سوى تكديس الألوان، هذا ليس رسما”

تقول “ماريان ماثيو”، مديرة متحف مارموتان العلمي في باريس: تعلم “مونيه” حب الطبيعة فقط عندما تجول في النورماندي وخاصة على جروفها، يجب أن تتخيل كيفية انعكاس الضوء على الحجارة وفي الماء، وهذه الكاتدرائيات الحجرية التي وفرت له مصادر لا حصر لها للرسم. ولهذا قدم “مونيه” في النهاية سلسلة من اللوحات لم يرسم فيها المناظر الطبيعية في النورماندي فحسب، بل أيضا الأبنية الرائعة هناك، ومن بينها كاتدرائية روان التاريخية.

وعن هذه الكاتدرائية يكتب “مونيه” -في رسالة أخرى لزوجته “أليس”- في 16 فبراير/شباط 1893: عزيزتي لم أضع وقتي منذ وصولي، نقلت أدواتي إلى مكانين، وكل وقتي كان مشغولا بالعمل، بدأت برسم لوحتين، وأنا في منتصف العمل، وكل هذا سيجلب لك البهجة بالتأكيد، وأرجو النجاح في ذلك.

ثم استدرك عليها قائلا: ما الفائدة من كل ذلك العمل؟ لم أصل إلى أي مكان، فأنا أعرف الآن لماذا لم أكن راضيا إلى هذا الحد العام الماضي، حتى إن كان ما أقوم به هذه المرة مختلفا، فهو بالسوء نفسه، فأنا لن أصل أبدا إلى مكان جيد، لأني لا أفعل أي شيء سوى تكديس الألوان، وهذا ليس رسما.

وعن لوحة “الكاتدرائية”، تقول أوترود ويستهيدر، مديرة متحف بريني بوتسدام: كل تلك التجارب التي قام بها “مونيه” برسم المناظر الطبيعية حتى حينه؛ قد صبها في لوحة كاتدرائية “روان”، ولكن في النهاية لم يكن المبنى هو المهم بالنسبة إليه، بل وجود سطح مزين مليء بالتغييرات في الضوء.

تميزت لوحات مونيه بالضوء الخافت الذي تظهر تفاصيله بالتركيز في ملامح الرسمة

 

مطاردة الضوء والطقس والتوقيت.. سمات سيد الحديقة

يصف المؤرخ الفني “بول توكر” اللوحات المتسلسلة التي رسمها “مونيه” في تسعينيات القرن الـ19 قائلا: إنها علامة فارقة مهمة على الحداثة، فللمرة الأولى يرسم الرسام السمة نفسها مرارا وتكرارا، في البداية تبدو كل اللوحات كما لو أنها غير مفهومة، فأنت إن نظرت إليها عن قرب فلن تلاحظ أي تفاصيل، ولكن إذا تراجعت خطوة للوراء، فستتجمد التفاصيل في أشكال وملامح تكشف شيئا ما، فالطريقة التي تختلف فيها اللوحات بين التجريدي والملموس تمنحها سحرا خاصا، إضافة إلى ذلك، فقد حوّل “مونيه” سمة كانت مقدسة إلى شيء يمكن الاستغناء عنه بسهولة.

وتذهب المؤرخة الفنية “جيرالدين ليفيبفر” إلى أن “مونيه” امتلك مجموعة صور كبيرة تظهر بينها كاتدرائية “روان”، وكان مطلعا على فن التصوير وعاش معه، ولكنه مضى أبعد من التصوير الفوتوغرافي وتغلب عليه.

وتقول: يبدو أننا نسينا ما كانت عليه ثورة التصوير الفوتوغرافي في عصر “مونيه”، فالتصوير يلتقط الحقيقة للحظة، ولكن ثمة شيء واحد لا يمكن للمصور القيام به، وهو أمر كان واضحا في بداية عصر التصوير، لا يستطيع المصور إعادة إنتاج الانطباعات التي يتركها فيه المحيط، كحركة الغيوم والمطر والمناظر الطبيعية، أما الرسام فيستطيع فعل ذلك، فهو يصور الواقع نفسه لكنه يتجاوزه، إلى ما وراءه من خلال جعل انطباع هذا الواقع ملموسا.

ويوافق “كريستوف هينريش” مدير متحف دنفر للفنون، على هذا الرأي قائلا: أكوام القش لا تمثل سمة مثيرة للرسم، إنها كومة من الأشياء الموضوعة فوق بعضها على مرج، لكن هذه السمات العادية نسبيا هي ما يبحث عنه “مونيه”، إنه ينظر إلى كيفية تغيير الضوء والطقس والتوقيت لهذه السمات.

منذ تسعينيات القرن الـ19 وما بعدها، بات “مونيه” ناجحا جدا وحظي بالتقدير من الفرنسيين، وقد سافر إلى لندن والبندقية، ومنذ أواخر تسعينيات القرن الـ19 وحتى 1926 أصبحت الحديقة سمة لوحاته، وهو يحدد ما الذي يُترك لينمو وما الذي سيُقص، فهو السيد في تلك الحديقة.

ذاع صيت كلود مونيه عالميا بسبب تجار اللوحات الذين نقلوها إلى أمريكا

 

“لوحاتي الجديدة تختفي”.. إهمال محلي وشهرة عالمية

انتقل “مونيه” في بداية ثمانينيات القرن الـ19، وعاش آخر 40 عاما من حياته في قرية جيفرني. وعنها يكتب قائلا: الوفرة التي حققتها من الطبيعة ومصدر إلهامي، تشعرني بالنشوة، فجيفرني ذات مناظر طبيعة خلابة، وقد احتجت بعض الوقت لفهم زنابق الماء بعد أن زرعتها دون التفكير في رسمها، وفي أحد الأيام تراءت لي فكرة ولاحظت سحر بركتي، ومنذ ذلك الوقت باتت السمة الوحيدة في لوحاتي تقريبا.

يرى دانيل زاماني القيم على متحف “بريني بوتسدام” أن مجموعة من المشترين الأمريكيين في ثمانينات القرن الـ19 كانوا سببا في شهرة “مونيه”، وأيضا في استقراره المالي، وكثير من أعماله الرئيسية موجودة الآن في الولايات المتحدة، وقد حدث هذا بسبب جامعي اللوحات الأوائل الذين جمعوا لوحاته في وقت لم تكن فيه الدولة الفرنسية والمتاحف الفرنسية مهتمة به على الإطلاق.

ففي 22 يناير/كانون الثاني 1886، كتب مونيه رسالة يعبر فيها عن استيائه من فقدان لوحاته من فرنسا، وجاء فيها: كل ما يفكرون به هو أمريكا، ونسوا كل من هم هنا، ورويدا رويدا يجعلون كل لوحاتي الجديدة تختفي، لا بد من أن لديكم أسبابكم، ولكن يحزنني كثيرا اختفاء جميع لوحاتي.

وفي هذا الوقت نجح “مونيه” نجاحا كبيرا وحظي بتقدير الفرنسيين، وباتت هناك حديقة في جيفرني باسمه ويُعتنى بها بشكل يومي. يقول “جان ماري أفيزارد” مدير البساتين في جيفرني: نحاول المحافظة على الروح التي أرادها “مونيه” لحديقته، لقد رتبناها بطريقة نابضة بالحياة بناء على صور ورسومات من تلك الفترة. يمكننا أن نرى في لوحاته البقع على زنابق الماء وانعكاسها في الماء، لهذا نعمل دائما في البركة ونرتبها كما كانت موجود بحسب الرسومات والصور. كل شيء كان مرتبا بشكل مذهل فلو لم يكن “مونيه” رساما لكان بستانيا ماهرا.

تأثر مونيه كثيرا بزنابق الماء ورسمها بكثرة، حتى أقيم له معرض خاص برسوماتها سنة 1909

 

وتقول “ماريان ماثيو” مديرة متحف مارموتان العلمي في باريس: أصبح “كلود مونيه” في نهاية حياته شغوفا أكثر بتمثيل الضوء والمساحة، وبدأ بمنح بُعد تأمّلي لكل شيء.

ويلخص المؤرخ الفني “بول توكر” تأثير “مونيه” قائلا: أثر أعمال مونيه ظل فريدا جدا عبر القرنين الـ20 والـ21، بالنسبة لفنان انطباعي، وكان تأثيره في الفنانين الانطباعيين هائلا جدا، لقد أثر في عدد كبير من الفنانين، وقد شهد “بيكاسو” وغيرهم معرض “مونيه” للوحات “زنابق الماء” عام 1909، وكان أول معرض ينظمه لهذه اللوحات ووقتها سلب ألباب الجميع.


إعلان