“كلود شانون”.. عبقرية تكنولوجية غيرت وجه الحضارة البشرية

خاص-الوثائقية
إذا كنت الآن تجري مكالمة هاتفية عبر هاتفك المحمول، ثم تتصفح بريدك الإلكتروني، وبعدها تطلب سيارة تاكسي عبر تطبيق معين، أو ترسل رسالة نصية إلى شخص ما، فأنت في كل هذا مدين لـ”كلود شانون” بطريقة أو بأخرى.
نحن نعيش في عصر المعلومات، والسؤال عن “كلود شانون” قد يبدو غريبا، فهو مؤسس عصر المعلومات، ومفجّر ثورة الاتصالات الرقمية الحديثة.
بين عام 1916 إلى 2001 شهدت البشرية سطوع نجم “كلود شانون” الذي يرجع إليه الفضل في تفجير ثورة الرقمنة، أو (Digitalization)، المرادفة الحديثة للتماثلية (Analog). وهو الرجل الذي أعطى لنظام الاتصالات شكلا آخر من حيث الموثوقية والوضوح والسرعة.
وقد أفردت الجزيرة الوثائقية فيلما وثائقيا يشرح سيرة هذا الرجل ويخلد اسمه، بعنوان “شانون مؤسس عصر المعلومات”.

تكنولوجيا الاتصالات.. رحلة الإنسان إلى العصر الرقمي
يمكن وضع شانون في صف “نيوتن” أو “آينشتاين”، ومن المستغرب أن كثيرا من الناس لا يعرفونه، ورغم جهالة الناس به فلا يمكن أن نتصور العالم في هذا العصر لو لم يقم “شانون” بما قام به. لقد كان قلقا يتساءل كيف ستتذكره الأجيال القادمة؟ أبهذه الألعاب فقط؟ ولكن زوجته تطمئنه بأن هنالك كثيرا من الإنجازات التاريخية التي ستبقى عالقة في ذهن الأجيال اللاحقة عن “شانون”.
وإذا دخلت غرفته، فستجد أنها مليئة بما يشبه لعب الأطفال، لقد صنعها “شانون” بنفسه، لكنها ليست ألعابا عادية، بل يمكن وصفها بالذكية في كثير من الأحيان، لقد كان شخصا غير عادي؛ مرحا إلى درجة الطفولة، يحب اكتشاف الأشياء وكيفية ترابطها، تماما كما يدخل طفل رضيع إلى عالم الحياة.
يعتبر بحثه الذي نشره عام 1948، أساس عصر المعلومات، وكان فيه استشراف دقيق لما سيكون عليه العالم في بدايات القرن الحادي والعشرين، فقد كان عقله مشغولا دائما بما يشبه أفكار الخيال العلمي، وينظر إلى الأشياء كيف ستكون لو لم تكن على ما هي عليه الآن، وكان جل اهتمامه منصبا على تكنولوجيا الاتصالات، وكان ينظر إلى عملية الاتصال بطريقة لم يسبقه إليها غيره.
كانت نظرة “شانون” للاتصالات هي كيف تنقل رسالة من طرف إلى طرف آخر، على مسافة أبعد وبسرعة أكبر ودقة أعلى.
وقد بدأت الاتصالات الأولية بالأصوات والنيران والحمام الزاجل والبريد على الخيل والعربات، إلى أن كانت القفزة النوعية بالتواصل عبر الكهرباء على شكل إشارات “موريس” والهاتف مثلا.

مخطط الاتصال.. تجلي البساطة في أعقد صورها
كان الاتصال قبل “شانون” على درجة متدنية من الموثوقية، وذلك لدخول التشويش على الإشارات، فلما جاء “شانون” تقدّم بسؤاله الذي غيّر مجرى التاريخ: هل يمكن وضع نظرية عالمية تسمح بإجراء اتصالات مثالية؟
قام “شانون” برسم مخطط بدا للوهلة الأولى سخيفا، ولكنه كان تبسيطا وتقسيما لعملية الاتصال -أو أي شيء آخر- إلى خطوات أولية بسيطة يمكن التعامل معها وتصحيحها، كل على حدة.
رسم “شانون” مخططا بسيطا لعملية اتصال تتكون من الرسالة المراد إيصالها، ومحوِّل وسيط يحولها إلى أمواج صوتية أو نبضات كهربائية أو ضوئية، ثم هناك قناة الاتصال مثل الهواء والأسلاك، وفي الطريق تكون إشارات التشويش على الرسالة قبل وصولها إلى المستقبل مثل الكهرباء الساكنة والدخان والضوضاء، ثم الوسيط الذي يحول النبضات ثانية إلى شيء يشبه الرسالة الأصلية.
عندما كان “شانون” يعمل في “مختبرات بيل” طوّر آلة حاسبة تستخدم الأرقام الرومانية في الحساب، وكانت له اختراعات كثيرة جدا، لم يكن هدفه منها التجارة والربح، بقدر ما كان يسعى إلى إرضاء فضوله وشغفه في اكتشاف العالم من حوله، فاخترع مصعدا كهربائيا ولعبة شطرنج ذكية، ومقعدا متحركا على شكل أرجوحة تسافر بك إلى سطح البحيرة القريبة، ثم تعود.

“كان أبي يحب العبث أو ما قد يبدو عبثا”.. إبداع بالوراثة
كانت أسرة “شانون” بسيطة، ولكن يغلب عليها الذكاء وحب الابتكار، فقد كانت والدته مدرسة رياضيات، أما جده فكان يحب الاختراعات والأسئلة التي لا تخطر على بال أحد، ووالده متعدد الاهتمامات والأعمال، وعندما كان طفلا صنع أول هاتف سلكي، وجربه مع صديقته، لكن التشويش كان عاليا لدرجة أن سؤاله: “هل تحبينني؟” قد وصلها: “هل تسمعينني؟”، وبالطبع كانت إجابتها: “لا”.
تقول “بيغي شانون” ابنة “كلود شانون”: كان أبي يحب العبث أو ما قد يبدو عبثا، ولكنه كان يميز كل شيء يفعله. كان يحب الأحجيات والألغاز، وكان يقرأ كثيرا “أليس في بلاد العجائب”. ويحب اللعب بالأرقام وحل الشيفرات، وكان يستخدم “الجبر البولياني” وهو نظام العدّ الذي يعتمد على رقمين فقط (1،0) لتحويل الكلمات إلى معادلات.
يحمل “شانون” إجازتين من جامعة متشيغن، واحدة في الهندسة الكهربائية والثانية في الرياضيات، وحصل على أول فرصة عمل عندما كان معهد ماساشوستس (MIT) بحاجة لباحث مساعد لتشغيل آلة لحل المعادلات تسمى آلة التفكير، أو المحلل التفاضلي، وقد صممها “فانيفار بوش” عام 1931، وعمل شانون هناك لمدة أربع سنوات.
والمحلل التفاضلي هو آلة كهروميكانيكية تزن 100 طن، وتتكون من أعمدة وتروس وعجلات تعد بالآلاف، ولكن جوهر الآلة كان يتألف من مفاتيح كهربائية (مرحِّلات) تشبه تلك التي تجدها في بدّالات الهواتف القديمة. ويعتبر المحلل التفاضلي باكورة إنتاج العقل البشري للحواسيب الذكية التي نراها الآن.

الصفر والواحد.. أسرار الحياة بين العدم والوجود
ربط “شانون” بين “جبر بوليان” والمفاتيح الكهربائية بأنهما كليهما يعتمدان على متغيِّرين فقط (0،1) أو (مغلق، مفتوح) في حالة المفاتيح، وضمّن هذه الفكرة في رسالته لنيل درجة الماجستير، وهو ابن 21، وبسببها نال “جائزة نوبل الأميركية للمبدعين الشباب”، وكان أصغر من نالها على الإطلاق، مع جائزة مالية، ونشر بحثه في نيويورك تايمز، ودعي إلى تقديمه في واشنطن أمام جمع من المهتمين.
كان السر في أفكار “شانون” أن قوانين المنطق العقلي قد أمكنت ترجمتها بواسطة مفاتيح كهروميكانيكية، وبالتالي فإن الآلة بإمكانها القيام بعمليات عقلية تشبه عمليات الدماغ البشري. وفي هذا المجال يمكن القول بسهولة أن الروبوتات الذكية، والسيارات ذاتية الحركة مدينة بكل ذرة في عقولها الإلكترونية إلى عبقرية “شانون”.
تقول “نورما بارزمان” زوجة “شانون” الأولى: كان “شانون” مرحا وجميلا ولذيذا، تعليقاته وحركاته تشبه الفنانين، ولم يكن يظهر كعالِم على الإطلاق، وكان يحب الشِّعر وموسيقى الجاز، ويحب الارتجال وعامل المفاجأة. لقد أراد أن يتعلم الطيران وفعل ذلك. وكنت أنا أعلمه الفرنسية حتى يجتاز مرحلة الدكتوراه.
ثم توجه “شانون” إلى دراسة الأحياء لنيل الدكتوراه، كان ذلك يبدو غريبا، ولكنه حاول تطبيق نظرياته المنطقية على المورثات، وحدث ذلك في 1940، حتى قبل أن يكتشف العالمان “واتسون” و”كريك” الحمض النووي DNA، واستطاع تشكيل جميع الاحتمالات الوراثية بواسطة مصفوفات رياضية منطقية.

“شانون” و”أينشتاين”.. بين الإغراق في النظرية والغوص في التطبيقات
وفي العام 1940 حصل على زمالة في معهد الرياضات المتقدمة، وانتقلت العائلة وقتها إلى برينستون، وأتيح له لقاء علماء مثل “آينشتاين” و”غوديل”، ويعترف “شانون” أنه كان منبهرا بلقاء “آينشتاين”، ولكنه يقرّ أن طبيعة الدراسات الرياضية النظرية في المعهد كانت على خلاف مع ميوله العملية.
كانت الأشهر الستة الأخيرة التي قضاها في برينستون غريبة، حيث كان “شانون” يعود من عمله ويعتزل في غرفته، ولم يكن يحب الخروج منها، بل كان يسلي نفسه بالعزف على الكلارينيت، وتبين لاحقا أنه لم يعمل في معهد الرياضات المتقدمة إلا شهرين، بينما قضى الشهور الأخرى يعمل لمصلحة اللجنة الوطنية للأبحاث الدفاعية، من خلال جامعة برينستون.
كانت الحرب الثانية على الأبواب، وبدا له أن العمل بدوام كامل في عمل وطني، خير له من أن ينضم للخدمة العسكرية، فانتقل للعمل في “معهد بيل”، وطلب منه العمل على أنظمة الصواريخ، ولكنه اكتشف خلية عمل أخرى تعمل على التشويش على الاتصالات بين “روزفلت” و”تشرشل”، فأحب العمل معهم لشغفه بالرموز والأرقام، وبعد انتهاء الحرب دُعي للعمل كمستشار لدى وكالة الأمن القومي في واشنطن.

“نظرية المعلومات”.. عندما تكون الكلمة ذات كتلة وسرعة وحجم
استخدم “شانون” عبارة “نظرية المعلومات” لأول مرة في حياته عام 1945 في تقرير عن التشفير، والحقيقة أن عمله في التشفير وتفكيك الرموز كان مجرد غطاء يخفي تحته عمله الدؤوب على نظرية المعلومات، لأنه لم يكن يعرف وقتها ما إن كان عمله على هذه النظرية سيلقى القبول المأمول، فقد أمضى عشر سنوات يعمل وحده، ويصل الليل بالنهار دون أن يخبر أحدا بما يعمل.
قبل نظرية “شانون” كانت كلمة “معلومات” مجردة، ولا يمكن قياسها، فأراد شانون تعريفا آخر “للمعلومة” بحيث تكون مثل جسم ملموس، أو “كمية” يمكن قياسها كالمسافة أو الطاقة مثلا، بغض النظر عن المعنى الذي يمكن أن تحويه المعلومة، وهذا ما أزعج الكثير من الناس. وأبسط أنواع المعلومات في مفهوم “شانون” الشيء وضده، مثل وجهَيْ قطعة العملة، أو الصفر والواحد، ومن هنا انفجرت الثورة.
يعتبر نظام (0،1) الأساس الذي انطلقت منه ثورة المعلومات، فكل رسالة يمكن تفكيكها إلى تركيبة من هاتين الخانتين (Binary Bits)، من الرسائل النصية إلى الصور وحتى الفيديو، وبهذا تتلخص عملية الاتصالات برمّتها إلى مرحلتين رئيسيتين هما كيف نحول الرسالة إلى أصفار وآحاد، ثم كيف نتأكد من أن هذه الأصفار والآحاد تصل إلى هدفها بالترتيب الصحيح.

ضغط البيانات.. ثورة الأصفار والآحاد الناطقة
كانت الخطوة التالية في تقنين الكلمات أو “ضغط المعلومات”، فالإنجليزية مثلا فيها إسهاب زائد بنسبة 50%، أي أنه يمكن إسقاط حروف وكلمات بأكملها، ومع ذلك تبقى الرسالة مفهومة، ثم كان السؤال الآخر سؤالا لم يسأله أحد قبل “شانون”، وهو: هل هنالك حدٌ أدنى من الاختزال؟ بحيث تبقى الرسالة مفهومة.
الجواب كان نعم، ولكن كيف؟
المدهش أن هذا الحد الأدنى أمكن حسابه بنفس معادلة الفيزياء المشهورة لحساب القوة الأساسية، التي تتعلق بالعشوائية والفوضى، وبدا أنه يمكن ضغط كمٍّ كبير من المعلومات في رسالة قصيرة جدا، وصارت الخطوة التالية هي تحويل الأحرف والكلمات إلى أصفار وآحاد بطريقة متفردة لا تتكرر، ثم ضغطها.

قنوات توصيل المعلومات.. لغة هندسية تكسر الحدود
كانت المشكلة الأخرى تتمثل في القناة التي ستوصل هذه المعلومات، فهذه لها محددات فيزيائية، وهناك الضوضاء المحيطة دائما، مثل الكهرباء الساكنة أو التداخلات الأخرى التي يمكن أن تخلط الأصفار والآحاد في الرسالة الأصلية. وكان همّ “شانون” في هذه المرحلة معرفة السرعة القصوى للمعلومات المتدفقة خلال القناة “حدّ شانون” (Shannon Limit) وكمية هذه المعلومات.
كان اكتشاف “حدّ شانون” لسرعة المعلومات أمرا مذهلا، وتبين أن المعلومات إذا تجاوزت هذا الحد فإن الرسالة المتلقاة لن يكون لها أي علاقة بالرسالة المرسَلة. أما القفزة الهائلة التالية التي قام بها “شانون” فهي استخدام الرياضيات في التحكم بالضوضاء المحيطة، وذلك بحقن معلومات تصحيح داخل قناة الاتصال لتقليل الأخطاء إلى الحد الأدنى، وبهذا يمكن الحصول على عملية اتصالات في منتهى الدقة.
كمثال على أنواع الرسائل وطريقة توصيلها والمشكلات التي تواجهها وكيفية تصحيح الأخطاء؛ يضرب “شانون” مثال الرسائل بين الزوج وزوجته، فتكرار الرسالة قد يولد نوعا من الانزعاج، أما الصراخ بنفس الصيغة فقد يساء فهمه، ويعتبر نوعا من التوبيخ. وتبقى الطريقة الأمثل بإيصال الرسالة بأكثر من صيغة بهدوء، والتصحيح بإنهاء المكالمة بكلمة مثل “أحبك”.

لعبة الفأرة والمتاهة.. خسارة الرهان على فشل النظرية
في 1948 أطلق “شانون” بحثه الذي غيَّر شكل الاتصالات إلى الأبد، وقد ظنّ المهندسون في البداية أن هذه النظرية غير قابلة للتطبيق، ولكن البحث لاقى رواجا منقطع النظير في الأوساط العامة والخاصة، وصار “شانون” يوضع في مصاف كبار علماء عصره مثل “رتشارد فاينمان” و”واتسون” و”كريك”، وتناقلت أخبارَه الصحف والمجلات العلمية المتخصصة.
في الثمانينات، وبعد أكثر من ثلاثين عاما من إصدار بحثه، كان العلماء والتطبيقيون ما زالوا يبحثون عن رموز “شانون” التي تختصر الرسالة، وتصل بالسرعة إلى الحد الأعلى “حد شانون”، وصارت تحوم شكوك حول صحة هذه الرموز، ولكن “شانون” نفسه كان واثقا من تطور التكنولوجيا، وأن العلماء والمهندسين سيصلون إلى هذه الرموز حتما، وهذا ما أثبتته الأيام اللاحقة في القرن الحادي والعشرين.
في عام 1950 اخترع “شانون” لعبة الفأرة والمتاهة التي يمكن اعتبارها أول تجربة متطورة للذكاء الصناعي آنذاك، وكان على الفأرة “ثيسوس” أن تجد طريقها للخروج من المتاهة، وذلك بمجموعة من الدوائر الكهربائية والمنطقية المبنية داخل صندوق المتاهة. في تلك اللحظة فقط تبين أن الأشياء يمكن أن يكون لها نصيب من الذكاء البشري.

معهد ماساشوستس.. توقعات ثورية لم تر النور
بعد أن فشل زواج “شانون” الأول مع “نورما” تزوج من “ماريا”، وهي عالمة رياضيات في “معهد بيل”، وأثناء الحرب العالمية الثانية، كانت ضمن مجموعة من النساء اللاتي يعملن كآلات حاسبة لتقديم المعلومات الضرورية للمهندسين الذكور، وبعد أن تركت “معهد بيل” اشتغلت في الحياكة، وطبقت نظريات الرياضيات على النسيج وصارت صاحبة علامات تجارية عالمية في المنسوجات بفضل استخدام العلم في ذلك.
في منتصف الخمسينيات انتقل “شانون” إلى معهد التكنولوجيا الأول على مستوى العالم (MIT)، وكان الجميع يتوقع ثورة جديدة في نظرية المعلومات وتفكيك رموزها الغامضة، لكن الواقع كان مخيبا لآمالهم، فقد كان “شانون” يتغيب كثيرا عن المعهد، ولم يقدم سوى توضيحات محدودة أثناء تواجده في المعهد.
في هذه الفترة انصرف “شانون” إلى اختراع وتصنيع أشياء أقرب إلى اللهو واللعب منها إلى العلم والمنطق، مثل الدراجة ذات العجلة الواحدة ومجسم البهلوان الذي يلعب بالكرات في الهواء، ولكنه كان حريصا على أن يضمِّنها نظرياته في المعلومات والرياضيات، وكان يجري حسابات دقيقة على زمن طيران الكرة، وعدد الكرات التي تكون في الأجواء.
تطوير الذكاء الصناعي.. ألعاب فترة التقاعد
أثمرت “نظرية المعلومات” عن كم مذهل من التكنولوجيا في الخمسينيات والستينيات، وتقلص حجم الحواسيب وزاد تدفق المعلومات، وجرى ضغط البيانات إلى أحجام غاية في الصغر على أقراص صلبة، بعد أن كانت تشغل فضاء غرف متعددة، ويمكن القول -بلا مواربة- إن العصر الذي عاش فيه “شانون” مع اكتشاف الترانزستور والدارات المتكاملة، قد غيّر وجه التاريخ البشري.
في ثمانينيات القرن الماضي، وبعد أن يئس العلماء والباحثون من إيجاد “حد شانون”، أصبح هنالك عزوف عن استخدام النظرية في الأوساط التطبيقية، بل إن “شانون” نفسه لم يعد يعمل على النظرية كثيرا، ولكنه علل ذلك بأن عظماء الرياضيات كان إنتاجهم العلمي مقتصرا على العقد الثالث من أعمارهم.
في مقابل ذلك كرّس “شانون” جهوده في هذه الفترة على الذكاء الصناعي، وطوّر الآلة الذكية التي تلعب الشطرنج مقابل العقل البشري، ووعد أن هذه الآلة سوف تهزم الإنسان بحلول 2001، وكانت له مغامرات في ألعاب القمار مثل “بلاك جاك” و”الروليت”، وصنع حاسوبا محمولا صغيرا، ليساعده في الفوز في هذه اللعبة.
لم يكن “شانون” شخصا تنافسيا، ولذلك لم تكن له في يوم من الأيام شركته الخاصة، ولم يكن يحب السيطرة وفرض أفكاره، بل كان متعاونا، وكان جل اهتمامه تحقيق أفكاره في قضايا عملية، ومع أن اختراعاته تبدو ألعابا، إلا أنها كانت على درجة من الأهمية، واستفاد منها كثيرا مطورو الذكاء الصناعي.

“حدُّ شانون”.. لغز أعجز العلماء عشرات السنين
لم يكن “شانون” مهتما كثيرا حول إذا ما كانت الآلة سوف تسبق ذكاء الإنسان، ولكن كان يركز اهتمامه على جعل الآلة مفيدة للإنسان، وتوظيفها لتكون نعمة لا نقمة. وعندما سئل عن دارة كهربية صممها من أجزاء معطلة، وما إذا كان ذلك يمكن أن ينطبق على دارات الدماغ البشري، أجاب: أرجو ذلك، أي أن الدماغ يحوي وفرة من الدارات العصبية التي يمكن أن تغطي على أي خلل يمكن أن يحصل.
ويعترف علماء الأحياء أن الدماغ البشري ليس بالبساطة التي قد يتصورها البعض، فمليارات الخلايا العصبية مترابطة مع بعضها بشكل معقد، وتؤدي المهام بطريقة متداخلة يصعب تمثيلها بواسطة دارات منطقية بسيطة، وتجربة الفأر الصناعي التي طورها العلماء في بداية الألفية الثانية وأضافوا لها بعض الحواس الخارجية مع وحدة تحكم داخلية، إنما هي نسخة مطورة لما قام به “شانون” قبل ستين عاما.
في العام 1993، وفي مؤتمر لعلماء الرياضيات والاتصالات عقد في سويسرا، وحضره أكثر من 700 مهتم؛ قُدمت خلاله ورقة مثيرة قام بتقديمها عالمان فرنسيان وآخر تايلاندي، وزعموا أنهم توصلوا إلى حد شانون. في البداية كانت هنالك موجات من التشكيك فيما جرى طرحه، ولكنها كانت طريقة تجريبية ثورية، لقد كانوا مُذهلين في طرحهم، واستطاع الناس أن يفهموا المقصود من “حد شانون”.
وهكذا، وبعد خمسين عاما من رؤية “شانون”، استطاع الناس أن ينعموا باتصالات موثوقة للغاية، وبأقل قدر من الأخطاء والتشويش، وبهذا يكون كل ما تنبأ به “شانون” صحيحا، وتبرأ ساحته بإثبات كل ما قال في نظرياته، وأصبح الناس مدينين لنظرياته في كل مرة يتواصلون فيها بالهاتف أو يخزنون معلومات على قرص صلب، أو يشغلون قرصا ليزريا لسماع موسيقى أو مشاهدة فيلم.

“ما بعد شانون”.. منعطف الحقبة الرقمية في التاريخ
يقضي ملايين البشر في أنحاء الكوكب الآن أوقاتا طويلة يستخدمون رموز “شانون” السحرية، وصارت المعلومات هي كل شيء بالنسبة لهم، وبات معظمهم يحمل في جيبه ما لم يتمتع به “شانون” نفسه، ولم يخطر بباله أن المعلومات التي توفرت لنا في هذا العصر، اعتمادا على تصوراته، تعادل آلاف أضعاف المعلومات التي عرفها البشر على مر العصور.
تقول “بيغي شانون”: عندما بدأت العمل على برنامج الدكتوراه في 1992، كان والدي يعاني من مرض ألزهايمر، وكان في حالة يرثى لها من حيث قدراته المعرفية، وقد سألني عن البحث الذي أقوم به، فأجبته أنني أبحث في انقلاب المجال المغناطيسي للأرض في فترات تعدّ بملايين السنين، وأذهلتني أسئلته الجوهرية الدقيقة في هذا المجال، ولكن من المؤسف أنه لم يكن بوسعه الاستمرار أكثر.
يؤرخ البشر للحضارة الإنسانية بأحداث مفصلية حدثت في التاريخ، فبعضهم يختار ميلاد المسيح عليه السلام، وآخرون يختارون هجرة محمد عليه الصلاة والسلام، وأمم أخرى لها أحداثها الخاصة. بينما يرى كثير من المعلوماتيين في هذا الزمان أن التاريخ البشري يجب أن يكتب على شكل (BS) أو (AS)، في إشارة إلى “قبل شانون” أو “بعد شانون”، فعصر ما بعد “شانون” في معارف البشر ليس حتما كما قبله.