“فن صناعة الخبز”.. قصة غذاء نصف سكان الأرض منذ آلاف السنين

مراد بابعا
“بيننا خبز وملح”.. عبارة تستعمل لإظهار الألفة والعشرة والتشارك بين الأفراد والمجتمعات العربية، واستعمالها الكبير في كثير من الدول، هو أكبر دليل على أن الخبز ليس فقط مجرد أكل أو غذاء، بل هو رمز بكل ما تحمله الكلمة من معنى.
وهذا الرمز والموروث المشترك يتعدى حدود الدول العربية، فأكل الخبز وصناعته هما من أكثر الممارسات انتشارا في العالم، ويعتمد النظام الغذائي اليومي لمعظم سكان الأرض على الخبز بأنواعه المختلفة، منذ أن تعرف الإنسان على زراعة الحبوب منذ حوالي 8000 سنة ق.م. واستخدمها كغذاء رئيسي له.
وقد مرت صناعة الخبر بمراحل كثيرة عبر التاريخ قبل أن تصبح على شكلها الحالي، وما زالت بعض المناطق تحتفظ حتى اليوم بالطريقة التقليدية في إعداد الخبز، وهي طريقة تختلف بحسب الشعوب والثقافات، كما أدخلت عليه تحسينات عدة، وتحول إلى صناعة قائمة الذات باستعمال الآلات العصرية.
ويتوقف الفيلم “فن صناعة الخبز” الذي عرضته الجزيرة الوثائقية، عند تجارب صناعة الخبر في عدد من المناطق المشهورة به في أوروبا كسويسرا وألمانيا، ويعرض الطرق الفريدة في إعداده اعتمادا على حبوب مختلفة ونادرة، وأحيانا باستعمال الطرق التقليدية المتوارثة عن الأجيال السابقة.
وتزايدت مؤخرا الانتقادات التي توجه إلى طريقة تصنيع الخبز التي حولته إلى غذاء غير صحي، كما ظهرت معاناة كثير من الناس من حساسية القمح وعدم تحمل جسمهم لمادة “الغلوتين” التي تسبب هذه الحساسية.
فكيف تطورت صناعة الخبر عبر الزمن؟ وما هي أهم الاختلافات بين أنواعه؟ ولماذا تحولت دول عربية إلى أكبر مستهلكي الخبز والقمح في العالم؟ وما سبب التحذيرات من خطورة محتملة لاستهلاك الخبز الأبيض؟ وهل يمكن العودة إلى الخبز التقليدي واستعمال حبوب أخرى غير القمح؟
صحراء الأردن.. اكتشاف بالصدفة يغزو موائد العالم
يعتبر الخبز الغذاء الأكثر انتشارا حول العالم، والأكثر تنوعا أيضا في طريقة إعداده والحبوب المستعملة في ذلك، فالفكرة الرئيسية المشتركة هي طحن الحبوب للحصول على دقيق متجانس، ثم إضافة الماء والملح والخميرة، قبل طهيه في الفرن أو فوق نار هادئة، لكن نوعية الحبوب المستعملة وطريقة العجن والتخمير، وحتى الطهي تختلف من منطقة إلى أخرى.
فعلى مدار تاريخ الحضارات المتعاقبة، كانت صناعة الخبز مرتبطة بالحبوب المتاحة التي تزرع في أرض كل بلد ومنطقة، فنجد أن القمح أكثر انتشارا في أفريقيا وأوروبا، والذرة أكثر انتشار في أمريكا، بينما يطغى الأرز على آسيا، ويبقى الشعير هو النوع الأرخص، لكنه الأقل طلبا لصناعة الخبز.
لم يحسم المؤرخون في تاريخ أول استعمال للخبز في العالم، فبعض الروايات تتحدث عن تاريخ أقدم من تاريخ اكتشاف الإنسان للحبوب واستقراره للزراعة قبل عشرة ألف سنة، فأقدم خبز على الإطلاق يعود إلى ما قبل نشوء المجتمعات الزراعية، إذ عثر باحثون على آثار لخبز متفحم يعوده تاريخه إلى 14 ألف سنة صنعه الصيادون في صحراء الأردن بواسطة حبوب محلية.
كما أن التعرف على طريقة طهي الخبز حدثت بالصدفة، بعد أن سحق الإنسان قديما الحبوب بالحجارة الخشنة لجعلها قابلة للهضم وتسهيل استهلاكها، قبل أن يتوصل صدفة إلى أن إضافة الماء يعطي عجينا، يصبح صلبا وأكثر لذة بعد تعرضه للحرارة.
وهكذا نشأت تدريجيا هذه العلاقة بين الإنسان والخبز، وتطورت في عهد السومريين منذ 6000 سنة قبل الميلاد، ثم المصريين القدامى الذين ينسب إليهم أول استعمال للرحى الحجرية في طحن الحبوب، واستعمال الخميرة الطبيعية من الأعشاب البرية، وتطوير الأفران الخاصة بطهي الخبز.

الثورة الصناعية.. مطاحن البخار تطعم مخابز العالم
قد يبدو الحصول على الخبز في يومنا هذا أمرا بسيطا لدى كثيرين، فالتطور الذي مرت منه صناعة الخبز سهلت صناعته بشكل كبير، مما انعكس إيجابا على كلفته النهائية، لكن الأمر لم يكن بهذه البساطة في السابق قبل دخول الآلات والتقنيات الحديثة.
وكانت الثورة الصناعية، واختراع الآلة البخارية في القرن الثامن عشر بداية للانتشار الجماهيري للخبز، خصوصا مع التطور الذي شهدته الزراعة واستعمال الأسمدة من أجل الحصول على إنتاج كبير من الحبوب بأقل كلفة، وهكذا أصبح القمح بالخصوص في المتناول، وانتشرت المطاحن الصناعية الحديثة التي تزود المخابز بالدقيق الجاهز.
وساهم أيضا تغير العادات الغذائية وانتشار الوجبات السريعة خلال القرن العشرين، في ارتفاع الطلب على خبز “الساندويتش” و”البرغر” و”التورتيا” وغيرها من أكلات الشارع الموجودة في جل دول العالم. فأصبح إذن خبز القمح الأبيض الأكثر طلبا واستهلاكا، بعدما كان في السابق خبز الأغنياء والطبقة العليا في المجتمع.

زراعة القمح.. ثوابت الأمن الغذائي لنصف سكان الكوكب
يعد القمح اليوم الغذاء الأساسي لنصف سكان الأرض، وقد تجاوز إنتاجه العالمي 760 مليون طن سنة 2020 بحسب المنظمة الأممية للأغذية والزراعة (FAO)، وتستحوذ على47٪ من هذا الإنتاج أربعة بلدان؛ هي الصين والهند وروسيا والولايات المتحدة الأمريكية.
وتشير الأرقام إلى أن عددا كبيرا من مستهلكي القمح العالمي، هم من دول غير منتجة له أو غير قادرة على تحقيق الاكتفاء الذاتي، مما يجعلها رهينة للسوق الخارجي، وتتصدر مصر قائمة المستوردين العالميين للقمح، إذ تقدر وارداتها السنوية بحوالي 12 مليون طن، تليها في الدول العربية الجزائر والمغرب والسعودية. وبحسب تقرير أمريكي حديث، فإن 9 دول عربية تمثل 21.9% من واردات القمح العالمية.
يشكل الخبز أحد ثوابت الأمن الغذائي في العالم، وخصوصا في شمال أفريقيا التي تسجل أعلى مستويات استهلاك للقمح، بحوالي 100 كغ للفرد سنويا، مقابل حوالي 50 كغ للفرد في الاتحاد الأوروبي، وأقل من ذلك في باقي دول العالم، ويفسر ذلك باعتماد النظام الغذائي لدول هذه المنطقة على القمح لصناعة الخبز والكسكس بالأساس.

أكبر مستهلك للخبز في العالم.. “العيش” يثقل كاهن الخزينة المصرية
تعتبر مصر أكبر مستهلك للخبز في العالم، بالإضافة إلى كونها أول مستورد للقمح، فـ”العيش” المصري مدعم من طرف الدولة بشكل كبير منذ عام 1952، ويشكل أساس المطبخ المصري، كما يأتي مرافقا لجل الوجبات اليومية.
ويطرح هذا الاعتماد المفرط على القمح إشكالات للحكومات المصرية المتعاقبة، فعملية استيراده تثقل كاهل الميزان التجاري، وتضغط على مخزون احتياطات العملة الصعبة، كما يتسبب استهلاك خبز الدقيق الأبيض في مشاكل صحية كالسمنة المتفشية، وتراجع القيمة الغذائية للطعام.
في المقابل يبدو أن التوجه نحو استهلاك القمح، والطلب الكبير على خبز القمح الأبيض على المستوى العالمي في طريقهما إلى التراجع، ليأخذ مكانه الخبز الأسمر الذي كان خبز الفقراء في الماضي، بعد أن أصبح الأطباء ومختصو التغذية اليوم يحذرون من ضعف القيمة الغذائية لهذا الخبز الأبيض، وتسببه في مشاكل صحية بسبب احتوائه على نسب عالية من النشويات والكربوهيدرات المكررة.
ويُنصح في المقابل باستهلاك خبز الشعير والقمح الكامل المصنوع من الدقيق الأسمر الناتج عن طحن القمح بقشرته، لما يحتويه من ألياف مفيدة للصحة، بالإضافة إلى الانفتاح على حبوب أخرى، كالجاودار والحنطة والشوفان.

فن الصناعة.. جودة الطرق التقليدية في أحدث المخابز الأوروبية
يعرض الفيلم الوثائقي “فن صناعة الخبز” نماذج لمخابز في سويسرا وألمانيا، تجعل من إعداد الخبز شيئا مميزا، وتتخذ منه فنا له قواعده وضوابطه الخاصة، فنجد أن العناية بهذا المنتوج المميز تبدأ أولا باختيار أجود أنواع الحبوب المنتقاة بعناية شديدة. ويركز الفيلم على إظهار الحبوب العضوية النادرة الاستعمال مثل الجاودار أو الحنطة السوداء، وأهمية إعداد الخبز بكثير من الإحساس، لإعطائه مذاقا فريدا، وقدرة على البقاء لمدة أطول.
وتراعي هذه المخابز الخاصة الطرق التقليدية في كل مراحل الإعداد، من اختيار الحبوب إلى العجن والتخمير والطهي، مع إدخال بعض التحسينات الضرورية للحصول على المنتج المثالي، ويكون عادة سعره مرتفعا مقارنة بالأنواع الأخرى.
تمتاز حبوب القمح الكاملة وحبوب الجاودار والشوفان بقيمتها الغذائية العالية وغناها بالألياف التي تمنح إحساسا سريعا بالشبع، وتسهل بالتالي الحفاظ على الوزن الصحي، كما أن استهلاك خبز هذه الحبوب المنتجة بطريقة عضوية خالية من أي تعديل جيني أو معالجة بالمواد الكيميائية، يقلل خطر بالإصابة بأمراض العصر المعروفة كداء السكري وضغط الدم وبعض أنواع السرطان، وغير ذلك من المشاكل الصحية التي حار فيها الأطباء.

أفران الخبز التقليدية العربية.. صراع البقاء
مع مطلع التسعينات بدأت دول عربية عدة تتأثر بــ”النظام العالمي الجديد” الذي أسس له الغرب، من أجل نشر تعاليم الرأسمالية، لتعم كل الأنظمة الاقتصادية والسياسية والاجتماعية الثقافية، وهكذا بدأت بعض العادات والتقاليد تختفي، لتعوضها أنماط الحياة الغربية الاستهلاكية، وكانت الأساليب التقليدية لطهي الخبز من بين أساليب الحياة التي بدأت تدريجيا في الانقراض، ونجد حاليا أن قلة قليلة ما زالت تطهو الخبز في الفرن التقليدي، أو تشتري الخبر المصنوع يدويا رغم أن البعض أصبح يبكي ضياع هذا الإرث الإنساني الذي تأكدت اليوم أهميته ودوره المجتمعي.
ففي المغرب مثلا كان صاحب الفرن الشعبي -الملقب محليا بـ”الفرناتشي”- محور الاهتمام في الحي بأكمله بشخصيته الفريدة، فهو يعرف سكانه بكباره وصغاره، ويملك قدرة عجيبة على التفريق بين طلبات جميع زبائنه، فلا يخطئ أبدا في “إعطاء كل ذي خبز خبزه”. ولطالما جذبت رائحة الخبز الشهي زبائن كانوا فقط عابرين، لكنهم لم يستطيعوا مقاومة رائحة الفطائر والأرغفة المستوية على نار الحطب الهادئة.
ورغم صمود بعض الأفران التقليدية إلى يومنا هذا، فإن أحد العناصر في هذه التركيبة يكون مفقودا، فعجن الخبر قبل إيصاله إلى الفرن، يتم أحيانا بأنواع من القمح بدأت تفقد تدريجيا جودتها، وقليل فقط من الأشخاص يبذلون مجهودا للحصول على الدقيق العالي الجودة، كما أن هذه المخابز التقليدية بدأت تفقد معلمي الحرفة الذين يملكون صبر انتظار الرغيف، وحسن التعامل معه وهو في قلب نار الفرن الملتهبة.

حساسية “الغلوتين”.. عندما ينتفض الجسم ضد الخبز
قد يستغرب البعض من طريقة عيش الأشخاص المصابين بحساسية “الغلوتين” وعدم قدرتهم على استهلاك المواد التي تحتوي على هذه المادة الموجودة خصوصا في الحبوب التي تعتبر غذاء أساسيا للإنسان يصعب الاستغناء عنه.
فأكل الخبز بالنسبة لهؤلاء شبه محرم، فجهازهم الهضمي لا يستطيع هضم بروتين “الغلوتين” الموجود أساسا في القمح والشعير، ويؤدي تناوله إلى تلف في الأمعاء الدقيقة، وهو ما يكون مصاحبا بالانتفاخ وآلام البطن والإسهال أو الإمساك، وقد يؤدي على المدى المتوسط إلى سوء التغذية وقرحة الأمعاء، كما أنها تزيد من احتمالية الإصابة بسرطان الجهاز الهضمي.
وسمي المرض المرتبط بهذه الحساسية بـ”السلياك”، وهو مرض مناعي وراثي ينتج عن خلل في المناعة يصيب تقريبا 1% من سكان الأرض، بحسب دراسات نشرت في مجلات علمية متخصصة، ولا يوجد له علاج، وينصح المصابون به باعتماد نظام غذائي خال من الغلوتين، وهذا لا يعني أبدا الابتعاد عن استهلاك الخبز، ولكن اختيار الحبوب التي لا تحتوي على هذه المادة، مثل الذرة والجاودار، أو استعمال دقيق القمح المعالج الذي أزيل منه هذا البروتين.
ومؤخرا شهدت سوق الأغذية الغالية من “الغلوتين” توسعا كبيرا، وتشير التوقعات إلى أنه ربما يكون قد تجاوز الثلاثة مليارات دولار في 2020، ولم يقتصر الاقبال فقط على المصابين بمرض “السلياك”، بل حتى من بعض الأشخاص العاديين الذين يتابعون حمية إنقاص الوزن، خصوصا في الولايات المتحدة الأمريكية، رغم تحذيرات الأطباء من خطورة ذلك، لأن الحبوب الكاملة تعتبر أساسية لحماية القلب من مشاكل متعددة.