“الراي من النشأة إلى العالمية”.. فن الفقراء الذي ترعرع في المغرب والجزائر
نبحر في عالم فن الراي لنكتشف أعماقه ورحلته من المحلية إلى العالمية، فهو -كما يصفه القائمون عليه- “فن الشعب والفقراء”، ولسان حالهم وقناتهم لإرسال رسائلهم لمن يعنيهم الأمر، وملاذهم للتعبير عما يختلج في صدورهم.
يأخذنا فيلم “الراي من النشأة إلى العالمية” من إنتاج الجزيرة الوثائقية في رحلة تُعرفنا على نشأة هذا الفن وتطوره، وكلمات الأغاني البدوية القادمة من اللهجة العامية القريبة للعربية البدوية، وتأخذ جُلّ مواضيعها من المديح الديني والمشاكل الاجتماعية.
ويُعد الراي حركة موسيقية غنائية نشأت بالغرب الجزائري في مدينة سيدي بلعباس أولا، وتطورت في مدينة وهران، وتعود أصولها إلى شيوخ الأغنية البدوية التي يعتبر من روادها الشيخ حمادة وعبد القادر الخالدي، وتعود جذورها القديمة إلى ما يسمى بالشيوخ بالجزائر.
كما ركزت هذه الأغاني اهتمامها إبان فترة الاستعمار الفرنسي على سرد مآسي السكان من صعوبة المعيشة، وآفات اجتماعية تحاول من خلالها تنبيه أو توعية المستمع.
“الراي زرع، إذا أحسنت زراعته تكون الثمار جيدة”
يقول الشيخ صنهاجي أحد مغني الراي القديم: إن الراي يقول هذا رأيك، بمعنى آخر كان لديه رأي جيد، لأنه في ذلك الوقت كان هناك راي ممتاز.
عندما بدأتُ كان ذلك في الخمسينيات، وكنت أغني فقط في حفلات الزفاف هنا وهناك، ثم بعدها قدمت عروضا في برنامج “ألحان وشباب” الذي نلت فيه المرتبة الأولى دون منافس، وذلك لأنني حينما دخلت البرنامج لأول مرة على مسرح “الخضرة” كنت أرتجف من الخوف، وعندما فتحت الستارة، كان الجمهور -وقتها- من النساء، وكانت الحفلة في وضح النهار، وعندما ظهرت على المسرح، بدأت النساء بالتشجيع والزغردة، لأنهن يعرفنني من الأعراس.
الراي زرع، إذا أحسنت زراعته تكون الثمار جيدة، ومن لا يعرف الزراعة يبقى يلف ويدور معيدا ومكررا نفس الكلمات، حتى لو حاول لليلة كاملة، فالمعرفة والبراعة في الأداء هي موهبة من الله عز وجل.
ليس للراي أساس أبدا، فقد انطلق من الجبال، إذ أن الراعي أخذ عصا ونحتها لتصبح نايا، وأخذ يتعلم العزف عليها حتى أصبح مغنيا، ومن هنا كانت نقطة البداية، ولا يصح القول إن الراي نشأ في بلعباس أو في وهران أو في الجزائر.
يقول الشيخ صنهاجي: كلمات راي الزمن الماضي توضع بقدر وحياء دون استعمال كلمات قبيحة، لكن اليوم يُقال أي شيء، ولا يمكنك سماعه في بيتك ومع أبنائك، لذلك لا يمكن إدخال راي اليوم إلى منزلك.
ميزة الشاب خالد أنه لم يتوقف وتخطى العقبات، حتى لو كسروا البوق أو ضربوه فسيغني من دونه، لأنه لديه قدرات صوتية هائلة، وهذا لا يتوفر عند كثير من المغنين الحاليين، فأصحاب الكلام الجيد الذين نشروا الراي اختفوا، وبقى هؤلاء المختلفون بينهم، كل يحسب نفسه أفضل من الآخر، رغم أن الكلمات المغناة لا قافية لها ولا معنى لها في المدح والغناء.
“لغة الراي تمثل لسان حال الناس”.. إبحار في هموم الذات
يقول مصطفى رمضاني أستاذ الثقافة الشعبية: ظهر الراي ضمن إطار ما يسمى بالغيوان، وهو مصطلح عامي يعني “مترددات غنائية منفصلة عن بعضها”، وهذا من أهم سمات الراي.
لغة الراي تمثل لسان حال الناس، وكأن المغني ينوب عنهم فيما يقوله يعبر عن ذواتهم، ونجد أحيانا أن الراي يتحدث أحيانا باللغة الفصحى وأخرى بالعامية أو باللغة الأجنبية، وأصبح الراي بصفة عامة متخصصا في هموم الذات سواء كانت فردية أم جماعية، وأهم هذه الهموم هي العلاقة بين الرجل والمرأة والتعبير عن الحب والغزل.
وهو في الأصل عبارة عن غناء ينطلق من أبيات متفرقة، ومصدره هو مصطلح آخر يطلق عليه الزرعية (أي عملية زرع الأبيات)، ولا يكون هناك ترابط بين مقاطع الأغنية، فنقول أول بيت ثم يأتي التالي، ولا يكون له أي علاقة بالبيت السابق، والإيقاع الرئيسي في الراي هو الركادة، وهو أيضا نوع من الرقص موجود في المنطقة الشرقية بالمغرب وغرب الجزائر، ولهذا معظم مغني الراي يعتمدون على هذا الإيقاع.
ويعتبر مصطفى رمضاني أن الشاب خالد يتميز بأنه يستطيع أن يؤدي على كل الطبقات الموسيقية وأغانيه تشهد على التنوع الموسيقي والقدرات الصوتية، والشاب خالد طاقة قد لا تتكرر قريبا في الراي، وكذلك الشاب مامي من المطربين الكبار.
“جاء الراي من منطقة الشرق من وجدة حتى وهران”
يعود الموسيقي ومغني الراي رشيد برياح بالذاكرة إلى كيفية تعرفه على الراي قائلا: بدأت من أعراس مدينة وجدة، ووقتها كانوا يُحضرون الشيوخ فقط لغناء الراي، وكنت أستمتع بأدائهم وسط العائلة، وخلال هذه الفترة كان حفل الزفاف يمتد لأسبوع كامل، وكنت أنصت للشيوخ وأتعلم منهم، وعندما كبرت بدأت أسمع الراي بطريقة جديدة قريبة من الشباب في مدينتي وهران وتلمسان الجزائريتين، وأدخلوا عليها موسيقى عصرية وآلات موسيقية جديدة.
جاء الراي من منطقة الشرق من وجدة حتى وهران، لأنه في السابق لم يكن هناك حدود تفصل الجزائر عن المغرب، وكان شيوخ الجزائر يشاركون في حفلات الأعراس التي تقام في مدينة وجدة المغربية، وشيوخ المغرب يحيون حفلات الأعراس في مدينتي تلمسان ووهران الجزائريتين.
الراي بحر، فيه أنواع من الإيقاع، فهناك الهلاوي والمنكوشي وأحيدروس، وثمة أيضا نوع من الركادة يدخل في نطاق الراي، ويرجع الفضل في انتشار الراي عالميا إلى الشاب خالد والشاب مامي اللذين فتحا أبواب أوروبا وأميركا لإيصال الراي إلى هذه المكانة، مثل جميع الأنماط الموسيقية الباقية، كالروك والبوب والريكي.
“الراي وقتها كان موسيقى الفقراء”
يقول لطفي العطار من فرقة “راينا راي” التي تعد من أشهر الفرق في هذا المجال: إن ولادة موسيقى الراي كانت عام 1969، وكانت في البداية تعزف في الأفراح في عهد أغنية زينة، وخاصة في القرى، وقتها كنا محبوبين ومقبولين كأبناء البلد، كنت معروفا لدى سكان البلد ومقدما في عروض الأعراس ابتداء من 1969 حتى نهاية السبعينيات، الراي وقتها كان موسيقى الفقراء، وفي عام 1969 كانت معيشة الناس بائسة نوعا ما، لذلك اختير الراي كوسيلة للبحث عن بعض المال، ووقتها عندما نشاهد الراي نشاهد الفقراء، فقراء تجرؤوا على اختيار هذا النوع من الموسيقى، إما عن وعي أو من غير وعي، المهم أنهم أحبوا القيام بذلك.
في الماضي، طُرحت مسألة تحديد التصنيف الموسيقي، خاصة عند تسجيل ألبوم وتسويقه، مثلا “بوب مارلي” وفنه الريكي، والآخر يؤدي البلوز، وهذا يغني الروك، وبعدها قال صناع الراي: “نحن الراي”، وهذا هو التعريف الجديد والعصري للراي الجزائري، ما حدث هو أن الاسم انبثق خلال تلك الفترة.
استطاع الشاب خالد أن يجدد الموروث الثقافي، وأعاد غناءه على طريقته، وكذلك فعلت فرقة “راينا راي” التي أعادت غناء الموروث، وبفضلهم وفضل غيرهم وصلت الأغاني القديمة إلى الجيل الحالي، وهذه الأغاني لن تموت وستبقى حية دائما، فالشابان خالد ومامي طبعا أغنية الراي وأوصلاها للعالمية.
وختم لطفي العطار قائلا: في السابق لم نكن نختار الكلمات غير اللائقة، بل البسيطة والجميلة والنابعة من القلب.
“اللحن عبارة عن مزج بين عدة أنواع موسيقى”
تقول الموسيقية ومغنية الراي الشابة حميدة: في بدايات الراي، لم نكن نتحدث عن موسيقاه، بل عن كلماته التي هي تحديدا الشعر الذي سيُغنى، لأن اللحن عبارة عن مزج بين عدة أنواع موسيقى، ويتضمن شيئا من التصوف، مما يعني أن ثمة نبوءة وراء كل ذلك، بعد ذلك أطر بلحن وأطلق عليه الراي، جاء لتأطير نص يُعبر عن آلام والمعاناة أو الفرح، وهو ما يستوجب تقديره ومنحه مكانا أوسع من الموقع الذي هو عليه.
وبالموازاة مع الراي، كان هناك فن الراب الذي كان يُعرض في الساحات العمومية متضمنا رسائل إيقاعية يعرفها الجميع، خاصة خلال زمن الثورة الذي قدم فيها الراب خدمة كبيرة، ومنذ ذاك التاريخ بقي الراي بنفس المنهج، واستمر المغنون في تبليغ رسائل تحكي عن الماضي وأحداثه، وتروي ظواهر اجتماعية وأحوال معيشية منشودة، وبعد ذلك جاءت الموسيقى.. كل هذه الدينامية التي دفعت هذه الظاهرة هي الموسيقى، في البداية كان اللحن، ثم جاءت الكلمات لتُغنى، غير أن اللحن كان مهما جدا في ظاهرة الراي.
أول ما يشد الأطفال والشباب والسيدات في الراي هو اللحن، ثم تأتي الكلمات لتنسج حوله بأي معنى، وطبعا تطورت النصوص مع الوقت وحصلت فيما بعد على صيت واسع، وهذه الكلمات مستوحاة من نصوص الشعر الملحون.. الجانب النسائي كان مطروحا في الماضي، ولكن لم يعد واردا في هذه الأيام، وباتت النساء تشغل فضاءات جديدة، وتعتمد على نفسها دون إشراف رجل.
“لا يمكن أن تعبر عن حاجتي إلا المرأة لأنها تحس بي”.. الشابة دليلة
تقول مغنية الراي الشابة دليلة: إن للراي كلاما تسمعه طوعا أو كرها، لأن كلماته متداولة بين الناس، فالراي هو عاميتنا ولا يجب القول أن راينا غير مناسب، فهذا الفن جميل وشبابي وأجواؤه ساحرة. هي كلمات الأحاسيس، وهي كلمات من القلب، وهي حكايات ماضية والوقت الذي نعيشه اليوم، هو زمن الشباب والأمهات اللاتي فقدن أبناءهن، كلمات الراي دائما في تآلف وانسجام، وكلما تغنى المطرب بتلك المواضيع فسيشعر بها المتلقي، وأنا إذا لم أشعر بالأغنية وأتوقع نجاحها فإنني لا أختارها أصلا.
وتابعت: أصبحنا نسمع الراي في أنواع مختلفة من الموسيقى كالهاوس والراغا والتكنو، حيث دخلت عليه عدة أنماط موسيقية وهذا طبعا أمر جيد، وبدأ الراي بالطريقة الوهرانية، وحين جاء الشاب خالد أدخل عليه أشياء جديدة، ووصل ابن مدينة وهران بالراي إلى العالمية، وهذا الجميع يقر به ولا أحد ينكره، ولست الشخص الأول الذي يقول هذا، ولن أكون الأخيرة.
ترى الشابة دليلة أنه لا يمكن لأحد أن يعبر عن المرأة إلا المرأة نفسها، إذ تقول: لا يمكن أن تعبر عن حاجتي إلا المرأة لأنها تحس بي، وكما يقول المثل “لا يحس بالجمر إلا من كوي به”، فغناء الرجل لن يعبر عن هموم المرأة، لكن إذا قلت للمرأة ما عشته ورأيته، أو هذا الشخص لن يكون من نصيبك أو قصص أخرى تمر بها الفتيات في بلادي؛ فالرسالة تصل أسرع.. هناك مغنيات لم يستطعن الاستمرار بسبب الصعوبات التي واجهتهن في مسيرتهن، ولم يجدن الدعم والمساندة، كما أن الجانبين المادي والمعنوي يلعبان دورا كبيرا، وأنا -والحمد الله- وجدت مساندة ودعما من زوجي الذي هو مدير أعمالي، وجعلني أتعمق أكثر في الراي.
وختمت: قيل إن المرأة التي تغني ليس لديها أب يحكمها، ومن الذي يتزوجها؟ فهؤلاء كانوا يرون الراي شيئا أسود وانحرافا، ورغم ذلك فإن حفلاتنا والأعراس ومناسبات العقيقة والأمسيات لا تتوقف. الراي ليس لأصحاب الواي واي والإي إي، لأنه موروث ثقافي ويجب المحافظة عليه.
فن الراي.. تراث مشترك بين الجزائر والمغرب
تقول الباحثة أسماء الهلالي: إن فن الراي ليس له انتماء لمكان محدد أو منطقة معينة، فمنهم من يقول إنها جزائرية وآخرون إنها مغربية، لكن مسقط رأسها في المنطقة الشرقية والحدود بين الجزائر والمغرب.
ويقول مغني الراي مجيد حاج إبراهيم: خرج الراي من المجتمع كفن الراب، فقد تجد من يتغنى به ويغني عليه، الراي ليس موضوعا يغنى فقط، فهو يمنحك أشياء من المجتمع، وكيف هي رؤية الناس للأشياء، فالراي ليست له بنية معينة يمكن أداؤها بشكل مباشر، لكنه كالنبتة إذا زرعتها تكبر، تقول كلمة فتعاود نفسها، كلمات فيها نوع من الكوميديا لكنها تحمل رسالة.
وتابع بالحديث إن الراي خرج من الجزائر، من مدن وهران والجديدة والطحطاحة، وفي الأخيرة كان هناك الشعر المغنى، ويلتقي الشعراء مع الناس ويقيمون مهرجانا صغيرا، هذه هي روعة الراي، البندير والقلال هي أدوات رقص، ونحن من أصول أفريقية ونحب الرقص، إذن فالراي إيقاع وكلمات، وهناك من يعجبهم هذا النوع من الفن وآخرون لا يستسيغونه، ولكن الحقيقة أن الراي يعجب الكل أحببنا أم كرهنا.
يقول مجيد: عندما ذهبت إلى الشرق الأوسط وجدت أن الكل هناك يحب الراي، والذين لا يعجبهم فهم لا يفهمونه، والناس عندما كانوا يشاهدون فيديوهات الشاب خالد لم يكن يفهموها في البداية، لكن كان هناك شيئا مميزا في راينا، راي وهران وراي الجزائر تشعر فيه برائحة الأجداد، وتحس فيه بروح مثل الفنين الشعبي والأندلسي، ككل الموسيقى التي لدينا في الجزائر، كل نمط موسيقي لديه ميزة خاصة، باستثناء الراي لأنه فن الشعب.
وعن مساهمة المرأة في الراي يتحدث المغني مجيد قائلا: المرأة كالرجل أيضا لديها راي تغنيه، وكانت الشابة فضيلة في كورال الشيخ بوطيبة الصغير، ولهذا لديها الحق أن تغني ما تراه مناسبا لها، فالنساء لديهن هموم يردن التعبير عنها، وهذا أمر صعب لأن الرجل قد يروي حالته وما يحصل معه، ويعبر عن غضبه وانفعالاته، على عكس المرأة التي تحافظ على خصوصية وسرية حياتها.
وليد المشيخة والناي.. تراث مشترك بين المغرب والجزائر
يقول الموسيقي هواري سليماني: فن الراي هو وليد المشيخة والناي، انطلق من المشايخ القدامى بالناي، أمثال الشيخ بوطيبة والشيخ لماشي والشيخ الخالدي، وإذا أردنا معرفة ما هو الراي؟ فعلينا معرفة مكان خريطة الناي التي كانت موجودة من مدينة تاوريرت حتى مدينة وهران، وأيضا هذه هي خريطة المشيخة، ومن هذه المنطقة انطلق الراي، وهذا ما يعني أن الراي مغربي- جزائري، أي أنه تراث مشترك بين البلدين.
وقد لعبت المدن التي توجد غرب الجزائر دورا كبيرا لكي يصل الراي إلى مكانته اليوم، وبطريقة حية وبشكل مستمر، لهذا تجد في هذه المنطقة موسيقيين مهرة يساهمون في مسيرة الراي الذي جرى تجميعه من غرب الجزائر، واليوم انتشرت موسيقى الراي، لهذا أصبح الراي اليوم فنا وطنيا.
ويرى سليماني أن مواضيع أغاني الماضي تختلف تماما عن مواضيع اليوم، لأنها تغيرت في عهد الشاب حسني رحمه الله، إذ أن انشغال الناس وقتها كان في الحب والعشق، واليوم هو المقابل تماما وهو الطلاق، وأصبح موضوع الغناء عنيفا، وهو ما يعكس حالة مجتمعنا، المواضيع التي يهتم بها الراي هي مواضيع الشعب، ومواضيع اجتماعية ومواضيع سياسية ومواضيع الحب والإحساس، الراي جاء للشعب بلغة عامية يفهمها الجميع، وطالما تفهمها الأغلبية، فإن الراي قريب من الشعب وحالته الاجتماعية.
مرونة الراي.. فن يتمازج مع كل الموسيقى العالمية
يقول سليماني: بدأ الراي بالقصبة والقلال، ثم جاء الجيل الموالي باتجاهين، اتجاه بلمو وبوطيبة الصغير ثم بلقاسم بوثلجة، فهؤلاء عزفوا الراي بآلات تقليدية، أما الاتجاه الآخر فهو اتجاه أحمد وهبي رحمه الله، وبلاوي أطال الله بعمره، فهؤلاء الأشخاص استخدموه بطريقة مغايرة، موظفين في ذلك العود كأغنية وهرانية، وبعد ذلك جاء الاتجاه الثالث الذي طور الأداء باستعمال الآلات الموسيقية الغربية، وهو ما أعطى صيغة جديدة شدت إقبال الشباب عليه، ثم جاء بعدها الراي في شكل غناء رومانسي، واستمر بالتطور والانتشار حتى وصل إلى العالمية عن طريق الشاب خالد والشاب مامي اللذين أديا الراي بإيقاعات البوب والروك، وهذا التحول الغربي حقق العالمية للراي.
كانت بداية الشاب خالد كارثية وتعرض للسخرية، لكن ذلك لم يوقفه، بل واصل في طريقه شغوفا بالعمل والإنتاج، نفس الأمر بالنسبة للشاب حسني الذي تعرض للانتقاد الشديد، ووصول الراي إلى هنا هو بفضل الذين يشتغلون به، وأوصلوه للعالمية، وليس كل من غنى كلمتين يعني أنه حقق العالمية للراي، لأن هذا يتطلب عملا كبيرا وبذل جهد مضاعف، بالنسبة لنا، “نحن نقوم بعمل صغير لأننا في الجزائر لم نحقق تفاهما بيننا بعد بخصوص هذا الفن وجودته وأهميته. وبالنسبة للشاب خالد فقد كان محظوظا لأنه تعاون مع كبار المنتجين في أوروبا، وهذا يعني أننا أيضا قادرون على الوصول لأشياء عظيمة في الراي هنا دون الذهاب للخارج”.
يرى رواد الراي أنه يلبي كل الأذواق ويتكيف مع الظروف، وهو مفتوح لكل أنواع الآلات الموسيقية ويقبلها وينجح في إدخالها إلى المنازل وإيصالها للجماهير، وهذا سبب وصوله للعالمية، لأنه قابل للدمج مع أي موسيقى، فليس هناك في الراي فارق بين مغن ومغنية، فالمرأة لديها طريقة للتعبير عن مشاكلها، ومن بين المغنيات نذكر الشابة الزهوانية والشابات فضيلة ودليلة وخيرة وجنات وغيرهن.
وختم سليماني بقوله: تراجع مستوى الراي بسبب استخدام كلمات غير لائقة، وهذا انعكاس للمجتمع وتدني ذوقه.
فن الرُّحل.. موسيقى شعبية تُعبر عن محيطها
يقول الموزع الموسيقي رميلي مصطفى: تنحدر أصول المشيخة من منطقة المغرب الشرقي والغرب الجزائري، والناس الذين عمروه كانوا قادمين من المشرق، وهذه القبائل كانت تتفاعل فيما بينها، وفي الغالب كانت هذه القبائل رحلا، وهذا التفاعل ولّد موسيقى شعبية وشعرا يعبر عن البيئة والمحيط.
الراي ينبني على الركادة، ورقصة الركادة هي كما نقول بالعامية الحساب، وهذا الحساب فيه نوع من تصميم الرقص، ومعناه الأصلي هو الانتماء إلى الأرض، فرقصه وعدد ضرباته للأرض لها دلالة.
أما المغني الشيخ شعيب الذهبي، فيقول: إن هذا الفن مشترك بين الجزائر والمغرب، والشيخ الطيب هو الأول وكان في سبعينيات القرن الماضي، وكان مغنيا وكبير الشعراء، واليوم يوجد شعراء في شرق المغرب يكتبون كلاما جيدا، لكنهم لا يؤدون.
“ما باليد حيلة”.. تقلبات الراي في موطنه الوهراني
يقول الموسيقي سفيان بن عمار: هناك من يقول إن الراي بدأ في بلعباس وانتهى فيها، لكنه اليوم ولد من جديد في وهران، وربما قد يتوقف فيها، ثم يظهر في مدن أخرى، ولهذا يفرض عليك الراي أن تكون فنانا مرنا، وتعمل على نشر ألبومك بغض النظر عن كونك قدمت من البادية أو لا، وأن تكون فنانا قادرا على التعامل مع متطلبات وحاجات السوق الفني اليوم، وهذا ما سيضمن نجاح ألبومك، لأنه إن لم يكن الفن يسري في دمك فإنك لن تنجح.
واعتبر أن الشاب خالد مستوى خاص خرج عن الراي، وحين تستمع إلى ألبوماته تجده يعمل على الصوت لوحده وعلى الآلات الموسيقية وحدها، فهو يعمل على الآلات في الأستديو، ثم يأتي لوضع صوته على الأغنية ويضع النموذج، ثم يأتي من يقوم بالتوزيع الموسيقي، خالد يشتغل بالطريقة الأوروبية، وهو ارتقى بعيدا في عالم الموسيقى، ولديه مديرة أعمال على مستوى عال من الاحترافية، وهي زوجته المغربية. إضافة إلى التغطية الإعلامية الكبيرة والاتفاقات لبث حفلاته، والأهم من كل شيء أنه موهوب ولديه حنجرة رائعة.
وختم حديثه بكلامه عن ظروف الفن المتقلبة في وهران قائلا: أما نحن، فما زلنا هنا في وهران، ما زلنا نحاول تطوير أنفسنا وفننا، هنا عندنا ما زال الشعب يقبل على الواي واي وإي إي، وهذا مشكل بالنسبة لي، لكن ما باليد حيلة، لأن الشباب يحبون هذا الغناء، فإذا رفضت القيام بما يريده سيختار أستديو آخر، لذا عليك تحمل كل شيء. اليوم ليس كما في الماضي، وإذا أردنا الحقيقة، فقد تبدلت الحياة.
“في رأيي أن تؤدي المرأة الراي بشكل عادي”
تقول مغنية الراي الشابة نوال: إن الراي عالمي ومعروف في كل مكان، وهو فن شعبي مثل الركادة، ولديهما نفس الكلمات، أحيانا قد تجد كلمات غير مقبولة، لكن مع مرور الوقت أصبح الراي طبيعيا، لأن كل الناس باتت تستمع للأغاني، وبعض الأغاني تنجح رغم تضمنها لكلمات قبيحة. هناك عدة أنواع من الراي مثل العاطفي، ويكون الموضوع وجدانيا وموسيقاه هادئة، وهناك الراي الوهراني والراي البدوي.
وتحدثت عن غناء المرأة للراي وما يواجهها من صعوبات قائلة: في رأيي أن تؤدي المرأة الراي بشكل عادي، والرجل والمرأة متشابهان في هذا الموضوع، وبالنسبة للمشاكل، فمثلا أنا زوجة، ورغم أنني نشأت في أسرة فنية، وبحكم أن زوجي عازف (بيانو) فلا شيء يمنعني من الغناء، لكن قد يعترضك عائق كما حدث عندما كنت حاملا، ولم أستطع السفر لبلجيكا للمشاركة في إحدى الحفلات هناك، وبعد الحمل لم أعمل في شهر رمضان لأنني كنت نفساء وقتها.
وختمت متحدثة عن معاناة الفنانين في ظل القرصنة بقولها: لم يعد هناك تسجيل للأغاني وإصدار ألبومات، لأن القرصنة قضت علينا، وحين نعد عملا جديدا نقوم برفعه على مواقع الإنترنت والتواصل الاجتماعي لضمان انتشاره.
“كان تطور فن الراي بفضل الشاب خالد”.. رحلة النجاح في فرنسا
يقول مغني الراي الشاب أمير: إن المواضيع التي كانت تشد الشباب حين بدأنا مسارنا أغلبها هي عن الهجرة، والكل يتحدث عنها ويريد السفر إلى أوروبا، وتقريبا كان هو أساس القاعدة التي كنا نبني عليها اختياراتنا، كأغاني أناس يعيشون في الغربة، وآخرون يرغبون بها، وأناس يعيشون البؤس والبطالة.
في السياق نفسه يتحدث مغني الراي الشاب طارق قائلا: كنت أول من مزج بين الراي والراب، وواصلت في هذه الاتجاه حتى أصدرت ألبوما من هذه الأغاني، لكن الأمر الصعب هو النجاح في هذا الدمج، مع الحفاظ على هيكل الراي، دون تنفير آذان المستمع.
من جهته يقول الموزع الموسيقي قادة: لدى الشاب حسني رحمه الله أغان عاطفية، وعندما مات ازداد الإعجاب به، لأنه كان يغني بإحساس وصدق ومن أعماق قلبه، أما الشاب خالد فيمكن القول إنه الرجل الأكثر شغفا في الغناء، ورغم أنهم ضيقوا عليه وعزلوه فقد رحل إلى فرنسا ووصل للعالمية.
ويروي أنه قدم عليه أحد المغنيين بكلمات سوقية، وطلب منه أن يسجلها له مبررا الكلمات بقوله إنها راي اليوم، فأجبتُه: أنا لم أفهم شيئا من هذه الكلمات، وقلت هذا ليس الراي.
ويقول المغني والموسيقي الشاب حسين: كان تطور فن الراي بفضل الشاب خالد، في اليوم الذي خرج فيه ألبومه “دي دي” حقق نجاحا باهرا، مما فتح الباب لدراسة فن الراي، وبعدها جاء الديو مع الفرنسي “جون جاك غولدمان”، وحققت الأغنية الشهيرة “عايشة” نجاحات عالمية، وهكذا وجد الراي مكانه في عالم الموسيقى.