“سقوط الشيوعية”.. أنغام تسورت جدار برلين واحتفلت بالنصر

خاص-الوثائقية

الموسيقى لغة العالم ورمز لحرية التعبير، وهي تجسيد للتاريخ وللمشاعر التي تعيدنا لحقب زمنية مضت، وتذكرنا بالتفاصيل التي اختزلت بالأعمال الإبداعية لفنانين كانوا جزءا لا يتجزأ من نبض الشعب.

تتناول هذه الحلقة من السلسلة الوثائقية “أغان صنعت التاريخ”، لحظة هدم جدار برلين الذي فرق بين الجزء الشرقي والغربي للمدينة، وهي اللحظة التي اعتبرت مرحلة حاسمة، ليس في ألمانيا فحسب بل في التاريخ العالمي، إذ أدى هدم الجدار لإنهاء الحرب الباردة بين أمريكا والاتحاد السوفياتي، وبعد ذلك انهيار الشيوعية.

وتتحدث الحلقة عن أهم الأحداث في تلك الفترة من خلال تسليط الضوء على الموسيقى والأغاني الشهيرة التي رافقتها وعبّرت عنها، وتقدم عددا كبيرا من الصور والمقاطع الأرشيفية النادرة، إلى جانب مقابلات مع بعض أعظم الموسيقيين والصحفيين والمؤرخين.

 

جدار برلين.. حاجز شيوعي يقسم إحدى أكبر مدن العالم

كان الرئيس الأمريكي “رونالد ريغان” يرى أن من يقبعون خلف الستار الحديدي هم أسرى، بينما اعتبر خلفه الرئيس “جورج بوش الأب” الجدار شاهدا على فشل الشيوعية، وبقي هذا الجدار لمدة 28 عاما يقسم إحدى أكبر المدن في العالم.

قام الشيوعيين ببناء الجدار لمنع الناس من الفرار باتجاه الغرب، رغم أنه اعتبر رمزا للوحشية والقمع، وفي العام 1989 بدا العالم وكأنه تغير بين لحظة وضحاها.

تقول الموسيقية “ميليسا إيثريدج”: كنت في جولة أوروبية في نوفمبر/تشرين الثاني عام 1989، قدمت عرضا في هانوفر وكنت سأخلد للنوم في الحافلة، قال لي مدير أعمالي هناك تقارير إخبارية تفيد أن شيئا ما سيحدث.

تتابع “ميليسا”: عندما استيقظت توقفت الحافلة في ذلك الصباح بين الزحام وتوجهت للجدار، كان الجنود واقفين على الحائط من دون أسلحة، وتساءل الجميع عن ما سيحدث، وعن ما ستفعل ألمانيا الشرقية، أتذكّر تلك الفتاة التي ركضت إلى الجدار وركلته، وعندما غربت الشمس نزل الجنود وأحضروا المناشير الكهربائية لقص الجدار وهدموه.

“جو كوكر يغني “مع مساعدة قليلة من أصدقائي

 

“مع مساعدة قليلة من أصدقائي”.. احتفال لم الشمل

تدفق مواطنو ألمانيا الشرقية إلى الجدار عند بوابة براندنبرغ وأخذوا يتسلقونه بمساعدة من مواطني ألمانيا الغربية للعبور إلى الجهة الأخرى، وبالفعل انهار الجدار الذي ظل حقيقة ماثلة في وسط برلين، لقد انهار الجدار بسرعة وبطريقة غير متوقعة.

احتشد الألمان المبتهجون من جانبي الجدار في شوارع برلين الغربية، وأقيم احتفال على وجه السرعة ضم الفنانة الأمريكية “ميليسا إيثريدج” والبريطاني “جو كوكر”.

بدأت “ميليسا إيثريدج” بالغناء، وكان الألمان الغربيون يرقصون، بينما الشرقيون مندهشون. يقول “جيستينيان جامبل” المؤرخ في متحف ويندي: فجأة توحد المنفصلون، وكانت لحظة ابتهاج، ليس هناك وسيلة للتعبير أفضل من “جو كوكر”، وهو يغني “مع مساعدة قليلة من أصدقائي” (With A Little Help from my Friends).

سجلت الكاميرات لحظات لا تنسى، للفؤوس التي هدمت الجدار، وتلك الأيادي التي اخترقت الجدار، لقد كان عالما جديدا، وانهيار الشيوعية هو نهاية القمع، فقد رزح الألمان الشرقيون تحت وطأة الدكتاتورية منذ العام 1949، ويرى المؤرخ “جينيسى هوتمان” أن الفضل في هذا التحول يعود لشجاعة مواطني ألمانيا الشرقية واحتجاجاتهم ومعارضتهم.

بقي الجدار، ولكنه لم يوقف الأفكار حول التطور والرغبة في كسر الحواجز، استغرق الأمر سنوات عديدة بعكس ما يظن الناس، ولحظة هدم الجدار كانت الشرارة فقط.

يقول “جيستينيان جامبل”: كان سقوط الجدار لحظة محورية في تاريخ البشرية، وقد بدأ كل شيء من الحرب العالمية الثانية، ففي عام 1945 انقسمت أوروبا إلى مجالي نفوذ، الأول أمريكي في الغرب، والنفوذ السوفياتي في الشرق، وكانت برلين جزيرة وسط المنطقة السوفياتية، ولم يكن أحد من الطرفين قادرا على التخلي عنها، لذا بالإضافة لتقسيم أوروبا قسمت برلين.

الفرحة تعم ألمان برلين الشرقية والغربية بعد أن التم شملهم بسقوط الجدار

 

“فترة عصيبة على مواطني جمهورية ألمانيا”.. سقوط الأسوار

ارتبطت ألمانيا الشرقية بصلات قوية بالاتحاد السوفياتي، وكانت برلين الغربية جزيرة من الديمقراطية والرأسمالية على بعد 177 كيلومترا داخل ألمانيا الشرقية الشيوعية، وكانت مشكلة الشيوعيين أن الناس بإمكانهم المشي عبر الشارع والوصول إلى ألمانيا الغربية، وعندما رأوا مقدار الحرية هناك بدأوا بالفرار بأعداد كبيرة.

وضع ذلك ألمانيا الشرقية والسوفيات في ورطة، وتوصلوا إلى حل ببناء الجدار، وفي ليلة 13 من أغسطس/آب عام 1961 ظهر سياج من الأسلاك الشائكة، لم يتوقع أحد ذلك، وكان ذلك حجر الأساس لجدار برلين، وهكذا تفرقت العائلات والأصحاب، كانت هناك محاولات يائسة في اللحظات الأخيرة في الفرار عبر الأسلاك الشائكة والقفز من النوافذ، لكن بعضها لم ينجح.

بعد ذلك، أصبح جدار برلين منطقة محظورة، ومن يحاول دخولها يقتل بالرصاص. تقول د. “جاكلين بويزن”: لا شك أنها فترة عصيبة على مواطني جمهورية ألمانيا، لأنهم أدركوا أن حزبهم الحاكم يفعل ذلك ويجبرهم على البقاء.

وهناك تنقل “فيرا لينغزفيلد” -وهي مواطنة من ألمانيا الشرقية- أنه في كل درس تقريبا كانوا يلقنوننا أن الجدار ضروري وأن من ورائه أعداء كانوا يعتقدون أن مواطني ألمانيا الغربية هم المحرمون، وأنهم يخضعون للأمريكيين.

وفي خطاب له في ألمانيا عام 1963 قال “جون إف كينيدي”: تواجه الحرية عددا من الصعوبات، والديمقراطية ليست مثالية، ولكننا لم نضطر أبدا إلى بناء جدار لإبقاء شعبنا في الداخل.

تقول “هوب هاريسون”: قبل سنتين أخبر “كينيدي” مستشاريه بصورة سرية بأن الجدار أفضل من الحرب، لكن في صيف عام 1963 رأى الجدار للمرة الأولى وشعر بقوته. قال كينيدي: إن الجدار هو الدليل الأكثر وضوحا على فشل النظام الشيوعي، وهو ليس إهانة للتاريخ فحسب، بل أيضا إهانة للإنسانية.

لم يقم “ألفيس” حفلا واحدا في ألمانيا، لكن وسائل الإعلام الألمانية كانت تعج بالمقالات عنه وعن تسريحة شعره ولباسه

 

“ألفيس بريسلي”.. موسيقي يحتل ألمانيا دون أن تطأها قدمه

يقول الموسيقي “كلاوس ماينيه” من فرقة “سكوربيونز”: كان “جون كينيدي” مثل نجوم البوب، وعندما تحدث عن الجدار كان رائعا، وحين تحدث بالألمانية بتلك الكلمات المشهورة أعطانا الثقة، فإذا تدهورت الأمور فستدعمنا أمريكا، كذلك عندما نشأنا في الخمسينيات كنا نشعر بأننا قريبون من أمريكا.

كان هناك تأثير قوي للثقافة الأمريكية، وعلى وجه الخصوص موسيقى البوب، فقد أحب الأوروبيون نجوم الأفلام وموسيقى الروك أند رول وملابس الجينز الزرقاء، وكانوا مهووسين بـ”ألفيس بريسلي”، وخاصة عندما استدعي للتجنيد بالجيش، فأحبوا ذلك، وعندما سئل “ألفيس”: هل غير الجيش رأيك عن الموسيقى؟ قال: لا، لأن الدبابات تعرف موسيقى الروك أند رول.

يقول المؤرخ “بودو مروزك”: لم يقم “ألفيس” حفلا واحدا في ألمانيا، لكن كانت وسائل الإعلام الألمانية تعج بالمقالات عنه وعن تسريحة شعره، وكيف يلبس وكانت أغانيه تبث في برامج الإذاعة.

وقد تأثر الشباب في ألمانيا بـ”ألفيس” وأطالوا شعورهم مثله، وسمعوا موسيقاه، وكذلك تأثروا بفرقتي “ذا بيتلز” و”رولينغر ستونز”. يقول الكاتب “بيتر دودجيت”: قدمت فرقة “رولينغر ستونز” إلى برلين في العام 1965 وقدمت ثلاث أغاني، قبل أن تقوم أعمال شغب، ولم تكن ألمانيا الغربية معتادة على هذا النوع من المعجبين.

كان الشباب الشيوعيون يستمعون إلى موسيقى الروك أند رول عبر راديو أوروبا الحرة وبعض التسجيلات المهربة

 

الروك أند رول.. غضب الغرب العصي على الضبط

كان المراهقون يصرخون ويصيحون، كما كانت أصوات الحشود تسمع على الجانب الآخر من الجدار، حيث كانت محاولة سماع أغاني الفرقة ممنوعة.

اعتبرت الشرطة السرية الموسيقى الغربية واحدة من أكبر التهديدات على وجود الدولة الشرقية، وخلقت ثقافة بوب خاصة بها. يقول “جيستينيان جامبل”: ابتكروا رقصتهم “ذا ليبسي” وكانت فاشلة بشكل يثير السخرية، واستمرت موسيقى روك أند رول تعبر عن الغضب في ألمانيا الغربية، وأصبح من الصعب ضبطها.

استمع الشباب الشيوعيون إلى موسيقى الروك أند رول عبر راديو أوروبا الحرة وبعض التسجيلات المهربة. يقول الصحفي “كريستوفر لانز”: أصبح من المهم وجود شيء مشترك لعبور الحاجز، كالأغنية والجينز اللذين نحبهما، كان ذلك بالنسبة للشرقيين وسيلة للتمسك بالأمل ولغد أفضل.

يعتبر مذيع الإذاعة البريطانية “بول غامباتشيني” أن عبور الحدود إلى ألمانيا الشرقية في السبعينيات كان بمثابة دخول عصر القرون الوسطى.

تقول الصحفية “ماريون براش”: نشأت وسط برلين الشرقية وكان والدي مسؤولا حربيا، وكنت في ذلك الوقت أكافح ضد ما يعاني منه أغلب الناس في جمهورية ألمانيا الشرقية، لم يكن لديهم كل شيء ومنعوا من السفر.

ديفيد باوي صاحب أغنية “هيروز” التي غناها إكراما للمتلاقين من شباب وشابات ألمانيا

 

“أبطال”.. أن تقاوم الظروف السياسية لتصبح بطلا

كانت برلين الغربية منعزلة عن باقي ألمانيا في ذلك الوقت، لكنها كانت مزدهرة، وعاش الفنانون هناك مناخا إبداعيا وعائليا. يقول الصحفي “توبياس روثر”: أحد هؤلاء الفنانين هو “ديفيد باوي” وسجل أغنية “أبطال” (Heroes). وفي لقاء صحفي وصف “ديفيد باوي” أغنيته “أبطال” بأنها مثل برلين في تلك الفترة التي عاشها هناك، ولم يكن أحد لديه شك ببقاء الجدار تلك المدة.

كانت الأغنية تتحدث عن حبيبين يتقابلان خارج الاستوديو كل يوم في استراحة الغداء، ويتبادلان القبل، كان ذلك رمزا لبطولة الحياة اليومية. تقول “ماريون براش”: كانت أغنية “أبطال” تطلب منك أن تقاوم الظروف السياسية لتصبح بطلا.

في بداية الثمانينات كان الشباب مستائين ويخرجون في مجموعات صغيرة للاحتجاج، وكانت ألمانيا الشرقية والغربية كلتاهما مهتمين بالسلام، بسبب الخوف من الحرب النووية.

كانت أوروبا خائفة مرتعدة، لذا قام الرئيس “رونالد ريغان” بإرسال صواريخ كروز إلى هناك، وكان الناس يخشون أن ينتهي كل شيء بكبسة زر، لقد كان واضحا لدى الجماهير أن ساحة الحرب النووية القادمة هي ألمانيا.

المغنية “نينا”  تغني أغنية “99 بالونا أحمر” كناية عن الحرب الباردة

 

“99 بالونا أحمر”.. أجواء الحرب الموشكة على الاندلاع

تزايدت حركات السلام المختلفة وكان هناك الكثير من الاحتجاجات وعملت مجموعات من ألمانية الشرقية والغربية معا، وفي التاسع من يوليو/تموز عام 1982، قال “رونالد ريغان” أمام البرلمان الألماني: لأولئك الذين يسيرون من أجل السلام، قلبي معكم، سأكون في مقدمة مسيرتكم إذا علمت أن المسيرات وحدها يمكن أن تحقق عالما أكثر أمنا.

وفي خضم ذلك الجو خرجت أغنية “99 بالونا أحمر” (99 Red Ballons) للمغنية “نينا” وكانت كناية عن الحرب الباردة. يقول “بيتر شيلينغ”: لا يمكن غناؤها أفضل من ذلك، لقد كانت أغنية عن سوء الفهم.

ظن الناس أن الحرب الباردة ستؤدي إلى نهاية العالم، وكانت الأغنية تقول: في هذه البيئة المشحونة التي نعيشها، إذا طار بالون إلى الجانب الآخر، فسيظن الناس أنه طائرة نفاثة، فيبدؤون بإطلاق النار عليه، وبشكل مفاجئ تشتعل الحرب العالمية.

نالت الأغنية شهرة عالمية، لكنها سجلت قبل باللغة الألمانية. تقول “نينا”: من يحب النسخة الإنجليزية لا بأس، لكن النسخة الألمانية أفضل لأنها أصيلة، فقد أخبرني أصدقاء أمريكيون أنها المرة الأولى التي يتواصلون بها مع لغة أجنبية، ذهبت إلى أمريكا وأصبحت فتاة البالون.

ميخائيل غورباتشوف أصغر الرؤساء الذين يحكمون روسيا منذ عهد ستالين

 

“انتهت الحرب الباردة بالنسبة لي حينها”.. حفل في موسكو

تولى “ميخائيل غورباتشوف” رئاسة الاتحاد السوفياتي، وأصبح أصغر رجل يقود الاتحاد السوفياتي منذ “جوزيف ستالين”، وفي خطابه الأول دعا الولايات المتحدة للانضمام إلى موسكو لإنهاء سباق التسلح. يقول الأستاذ “فريدريك لوغفال” من جامعة هارفاد: بدأ في منتصف الثمانينات كل من “غورباتشوف” و”ريغان” بالتواصل لبدء محادثات، من أجل اتفاقيات جادة لإنهاء الحرب الباردة، وبدأ القادة الروس يصدرون توجيهات للتخفيف من القيود الثقافية.

فقد كانوا قبل ذلك منعوا موسيقى البوب الغربية، وعندما ذهب المغني الأمريكي “بيلي جويل” إلى موسكو عام 1987 تصدر نشرات الأخبار، وقد اعتبر “جويل” رحلته إلى موسكو تحديا في مسيرته المهنية، إذ يقول: كان الاتحاد السوفياتي عدونا في تلك الفترة، وكأننا سنذهب إلى إمبراطورية الشر ونعزف الروك أند رول هناك، ظننت أن بإمكاني إحداث فارق، فقد جعلت موسيقانا الحرب الباردة دافئة، وقد أهديت أغنية “إخلاص” (Honesty) لروح الشاعر والمغني الروسي “فلادمير فيزوتسكي”.

خرق “بيلي جويل” حاجز عدم الثقة بين بلاده والروس، وأحضر زوجته وطفله معه خلال زيارته، وكأنه يقول لهم إنني أثق بكم بما يكفي لأحضر عائلتي معي، لن نقاتل هؤلاء الناس لأنهم يحبوننا، “انتهت الحرب الباردة بالنسبة لي حينها”.

المغني “ديفيد باوي” يخاطب معجبيه في برلين الشرقية باللغة الألمانية،

 

“إلى كل أصدقائنا على الجانب الآخر”.. ثورة الموسيقى الغاضبة

أظهر “غورباتشوف” انفتاحا في الاتحاد السوفياتي، وانضمت إليه دول في أوروبا الشرقية، لكن ألمانيا الشرقية ظلت دولة ستالينية صارمة. يقول “جيستينيان جامبل”: أصبح رعاتها في الاتحاد السوفياتي أكثر ليبرالية من الألمان الشرقيين.

شعر 17 مليون مواطن في ألمانيا الشرقية بالإحباط، فقد كانوا يرون مواطني بولندا والمجر يحتفلون بالحرية الجديدة، وما زال الأمر لديهم على حاله، لكن الغضب كان متصاعدا.

يقول “جيستينيان جامبل”: استندت فكرة وجود الجدار على خوف الناس وعدم تمكنهم من عبوره، لكن إذا اقترب عدد من الناس منه فستكون بداية النهاية، كان ينتابهم الخوف من أي حفل موسيقي في برلين الغربية لأن الناس سيقتربون وسيؤدي ذلك إلى أعمال شغب كما حدث في حفل “رولينغر ستون” عام 1965.

في عام 1987 أقيم حفل موسيقي شاركت فرقتا “يوريثميكس” و”جينسست” فيه إلى جانب “ديفيد باوي” أمام مبني رايخستايغ (البرلمان حاليا)، حيث اقترب بعض مواطني ألمانيا الشرقية من الجدار للاستماع إلى الموسيقى، وكان عناصر الشرطة ومجموعة من أمن الدولة موجودين هناك، وبدأت الأجواء تزداد سخونة وتخرج عن السيطرة.

وخلال الحفل خاطب “ديفيد باوي” معجبيه في برلين الشرقية باللغة الألمانية، وقال: “إننا نرسل أفضل الأمنيات إلى كل أصدقائنا على الجانب الآخر”، وهو ما أشعل أعمال شغب على ذلك الجانب.

كان الناس يهتفون “يجب أن يسقط الجدار”، وتصاعد الموقف وتعامل الأمن بعنف مستخدما العصي، فضربوا الناس واعتقلوا العشرات، وصورت شبكات التلفزة في ألمانيا الغربية كل هذا، وفي اليوم التالي شاهد مواطنو ألمانيا الشرقية ضرب الشرطة للشباب، حينها أدرك الناس الخلل في النظام.

الرئيس الأمريكي رونالد ريغان يقول في برلين: نحن في الغرب على أتم الاستعداد للتعاون مع الشرق

 

“أتطلع إلى الحرية”.. حفل رمز الحرية عند الجدار

بعد أربعة أيام جاء “رونالد ريغان” إلى برلين وقال: نحن في الغرب على أتم الاستعداد للتعاون مع الشرق، لتعزيز الانفتاح الحقيقي وكسر الحواجز، فالناس يفضلون خلق عالم أكثر أمنا وحرية، وبالتأكيد ليس هناك مكان أفضل من برلين كنقطة التقاء بين الشرق والغرب لصنع بداية جديدة، لتهدم هذا الجدار يا سيد “غورباتشوف”.

وفي خريف 1989، كان الناس يتظاهرون علنا ضد ألمانيا الشرقية، ويريدون مزيدا من الانفتاح، وقد خطط قادة ألمانيا الشرقية لعقد مؤتمر في التاسع من نوفمبر/تشرين ثاني، وتلقى وزير الإعلام مذكرة تقضي بتخفيف القيود على السفر، وعندما سئل الوزير خلال مؤتمر صحفي “ماذا يعني هذا لجدار برلين؟” ارتبك الوزير وخانه التعبير، وقال: الجدار مفتوح.

سمع الناس ما أرادوا سماعه، وبدأوا بالاحتشاد بشكل متزايد، فلم يكن أمام السلطات إلا إطلاق الرصاص أو فتح الحدود، وفعلا قاموا بفتح الجدار، وجرى كل شيء بسلام.

في تلك الفترة، غني “ديفيد هاسيلهوف” أغنية “أتطلع إلى الحرية” (Looking for Freedom) عند بوابة براندنبرغ، وهو واحد من المغنيين الذين حققوا أعلى إيرادات، ثم طلب منه أن يغني في برنامج بمناسبة رأس السنة، لكنه اختار أن يغني عند الجدار، وغنى بالفعل بعد أن حصل على التصاريح اللازمة بصعوبة.

كان الألمان يمرون بوقت حرج، وهم يحاولون التعود على التغير الصادم، وظهر أمامهم وجه مألوف يحبونه. يقول “بول غامباتشيني”: بسبب هذا العرض، صار “ديفيد هاسيلهوف” رمزا للحرية في ألمانيا.

أقام “رودجر وترز” قائد فرقة “بينك فلويد” عرضه الشهير “الجدار” الذي كان العرض الأضخم في تاريخ برلين

 

“الجدار”.. حفل موسيقي على أنقاض أسوار القمع

في العام 1990 كان كثير من الموسيقيين يرغبون في زيارة برلين والغناء فيها، وفي تلك الفترة أقام “رودجر وترز” عرضه الشهير “الجدار” (The Wall)، وأعلن في التلفاز أن “رودجر وترز” قائد فرقة “بينك فلويد” سيقوم بعمل عرض منفرد هو الأضخم والأغلى على الإطلاق، لقد كان عرضا موسيقيا على جدار الموت السابق، وكان له قوة رمزية هائلة.

يقول “رودجر وترز”: كان شعورا جديدا، لأن هذه الأرض لم يطأها أحد منذ العام 1945، كان عليهم إرسال فرقة المتفجرات للكشف عن العبوات غير المنفجرة، وفي تلك الفترة عثروا على مخبأ هتلر وملصقات للصليب المعقوف على الجدران.

كان عرض “الجدار” هائلا، وضم مركبات للجيش ورافعات وكثيرا من أبراج الإضاءة وأجهزة العرض والألعاب النارية، وحضر كل النجوم الكبار مثل “سيندي لوبر” و”ورودجر وترز” و”وجوني ميتشن” و”وفان ميروسن” و”براين آدمز” و”سيندي اكنور”.

وتوقف المنظمون عن إصدار تذاكر جديدة عندما وصل عدد الحضور 250 ألفا، لكن حضر 100 ألف آخرون.

بنى الفنانون بأغانيهم الجدار أثناء العرض في النصف الأول، وفي النهاية هدموه، كانت الإيحاءات النفسية أهم بكثير من العرض، فموسيقى الروك أند رول “كانت أمرا غير مألوف، ولكنه رائع”.

الشعب الألماني الفرح بالتئام شطري برلين

 

عودة الشرق الألماني إلى الغرب.. رحلة الوحدة

في الثاني من ديسمبر/كانون الأول 1990 وقعت الموافقة على إجراء الانتخابات في جميع أنحاء ألمانيا، وبدأت رحلة توحيد ألمانيا وإنهاء الشيوعية، تغيرت الحياة كثيرا في ألمانيا الشرقية، لكنها كانت صعبة بعض الشيء.

بدأ الواقع يتكشف بحلول عام 1991، وغدت الحياة أكثر صعوبة، فقد كان من المتوقع أن يخسر أكثر من مليون عامل وظائفهم في القطاعات المتضخمة، بسبب انهيار اقتصاد ألمانيا الشرقية تماما بعد الوحدة. يقول “كريستوفر لانز”: أصبح الأمر كارثيا فيما يتعلق بالبنية التحتية وغيرها، وكانت ألمانيا الشرقية دولة مدمرة، وساد شعور بالإحباط لدى الناس، لم يكن الأمر يتعلق بألمانيا وحدها، كان التغيير يجتاح العالم.

قرر الحزب الشيوعي السوفيتي التخلي عن احتكاره الذي دام 70 سنة، وأصبحت الجمهوريات مستقلة وانتهى الاتحاد السوفياتي.

في العام 1991، قدمت فرقة “سكوربيونز” أغنية “رياح التغيير” وكانت أغنية ناجحة نالت شهرة عالمية

 

“رياح التغيير”.. نشيد وطني لسقوط الجدار

يقول “توبياس روثر”: كان كل شيء متغيرا وغير مستقر، وكانت هناك أغنية تعبر عن ذلك، ومن ثم تحولت إلى ترنيمة.

في العام 1991، قدمت فرقة “سكوربيونز” أغنية “رياح التغيير” (Wind of Change)، وكانت أغنية ناجحة نالت شهرة عالمية. تقول “كاتارينا ويت”: يا لها من أغنية مثالية في وقت مثالي.

أما “كلاوس ماينيه” فيقول: حين غنيتها، كان الجميع يبدأ في الصفير، لقد تركوا انطباعا كبيرا في ذلك الصفير، وكان مثار خلاف، حتى أن شركة التسجيل أرادت حذفه، فقلت لهم: لا، هذا مستحيل.

نحن فرقة ألمانية لكننا نكتب أغانينا بالإنجليزية منذ البداية، وكانت تلك وسيلة لنشر موسيقانا في جميع أنحاء العالم وكانت أغنية “رياح التغيير” رسالة كبيرة عن السلام للتقريب بين الشعوب وتحقيق التواصل وترك العداوات، كانت بمثابة نشيد وطني لسقوط الجدار، كانت قوية وباقية حتى يومنا هذا.

هدم جدار برلين الذي ظل لعقود رمزا للقسوة والقهر، لكن على الناس تذكره دائما، فالنظر إلى الماضي يجنبنا الوقوع في نفس الأخطاء مستقبلا، وخاصة في التاريخ الذي هو منبع الدروس والعبر.


إعلان