“جمهورية نفسي”.. ألوان الحياة في المنزل التونسي بعد الثورة

خاص-الوثائقية
هذا الحي الشعبي يقع في تونس العاصمة، وفي هذا البيت المتواضع تسكن أسرة مكونة من ستة أشخاص؛ الأب الخمسيني عامل البناء، وزوجته الأربعينية، وابنه يوسف العشريني السبّاك، والبنت مريم وعمرها 18 عاما، أما محمود ذو الـ17 ربيعا فقد ترك الدراسة، بينما ياسين الذي يصغره بأربعة أعوام ما زال على مقاعد الدرس.
هذه العائلة هي موضوع فيلم أنتجته وبثته قناة الجزيرة الوثائقية بعنوان “جمهورية نفسي”، وهي مثال لآلاف العائلات التونسية التي لا تساعدها ظروفها الاقتصادية على تحسين حياة أبنائها، مما يدفع الشباب اليافع إلى التفكير بطرق ملتوية، وأحيانا متطرفة من أجل تغيير مسار حياتهم، أو حتى إنهائها، حين يأخذ اليأس منهم كل مأخذ.
حمامة من النوع المصري.. رحلة إلى سوق المنصف باي
يخاطب ياسين أمه قائلا: أمي، أنا ذاهب إلى سوق المنصف باي مع رفاقي إياد وأيمن.
الأم: كن حذرا يا ولدي.
في طريقه يعرج ياسين على صديقه إياد: إياد، هل تذهب معي إلى سوق المنصف باي؟
إياد: نعم أذهب.
ياسين: وهل معك نقود؟
إياد: نعم، مع بعضها.
ياسين: سنأخذ أيمن في طريقنا، آمل أن لا نتعرض للسرقة هذه المرة.
إياد: ماذا ستشتري؟ أنا أريد سمّانا وفراخا، أريدها فراخا إناثا.
ياسين: أنا أريد أن أشتري حمامة من النوع المصري.
عاد ياسين إلى البيت فرحا بالحمامة التي اشتراها، وخاطب أمه قائلا: أمي انظري، لقد اشتريت حمامة من النوع المصري.
الأم: بكم اشتريتها؟
ياسين: بأربعة دنانير.
مريم: إنها جميلة، دعيني أمسكها يا أمي.

“اضغط عليّ في العمل وأعطني 30”.. أجر ضعيف في عمل العائلة
تخاطب الأم ياسين قائلة: تعال خذ الطعام لأبيك وأخيك محمود، إنهما يعملان في نهج القيروان، آخر منزل إلى اليسار.
يتوجه ياسين إلى ورشة البناء، حيث يعمل أبوه وأخوه، يحييهما ويقبل رأس أبيه. يستقبله أبوه بحنان ويقول له: أهلا يا بني ضعها هناك، سأصنع قفصا لطيورك من عربة اليد هذه، فقط جهّز الخشب والمسامير ريثما ننتهي من العمل.
في فترة الاستراحة يجلس أبو يوسف مع ابنه مجمود لتناول الطعام فيقول له: لماذا لا تريد الاستمرار في العمل معي يا محمود؟ ها هو الطعام يأتينا إلى هنا.
يرد محمود: الطعام في البيت أحسن، أعمل معك ثلاثة أيام ولا تعطيني سوى 20 دينارا، أما العامل العادي فتعطيه 30 دينارا في اليوم.
الأب: أنت ابني، يكفيك سبعة دنانير في اليوم، ثم هؤلاء عمّال، أضغط عليهم في العمل، أما أنت فلا.
محمود: أنا موافق، اضغط عليّ في العمل وأعطني 30.
الأب: ولكن هذا ليس مربحا لي.
محمود: ولا حتى لي، سأعمل بإرادتي، وسوف أعطيك بدل طعامي في البيت، سأفتح مكتبا للسمسرة، وأدفع أجرة 70 دينارا، وسترى كيف ستنهال علي الأموال.
الأب: هيا نعود إلى العمل.
محمود: لا، سوف أعود إلى البيت، سأغتسل وأبدل ملابسي وأذهب إلى “سيدي رزيق”.

“أنا أدخر من عملي”.. طموحات الكسب السريع
يعود محمود إلى المنزل منتصف النهار، لم يكمل يومه مع أبيه في أعمال البناء، فمحمود من أبناء الألفينيات الذين يبحثون عن الكسب السريع دون بذل مزيد من الجهد. وبعد أن اغتسل وغيّر ملابسه، سألته أمه وهو يهمّ بالخروج: إلى أين تذهب يا محمود؟
يرد محمود: إلى المقهى، سأشاهد مباراة، وإذا لم تعجبني سوف أذهب إلى صالة الألعاب.
ويبدو أن أخاه الأصغر ياسين على علم ببعض تحركاته في سبيل البحث عن عمل، فسأله: ماذا فعلت اليوم؟ هل ذهبت إلى بن عروس؟
أجاب محمود: لا، بل ذهبت إلى الملّاسين، أخذت العقد وقمت بتوقيعه.
ياسين: وهل أعطاك أبي مصروفا؟
محمود: لا، أنا أدخر من عملي.

“سيندهش والداي عند قراءتها”.. يوميات ياسين
يتحدث ياسين عن يومياته قائلا: في الصباح عندي حصة إعلامية، ثم أعود إلى المدرسة بعض الظهر، من الواحدة إلى الثالثة حصة فرنسية، ومن الثالثة إلى الخامسة اللغة العربية، ثم أعود للبيت وأذهب إلى الدروس الخصوصية. لست متفوقا في الدراسة، هذا ليس بيدي، مستواي متوسط، لست ذكيا ولا غبيا. في بعض الأحيان أرسب، أحصل على 8/20، ثم يأتي تقدير السلوك لينجحك أو يرسبك.
لماذا تضجر مني أمي بسبب التحصيل الدراسي؟ هذا غير معقول، إذن لماذا ينجبوننا؟ لنقوم بشؤون البيت إذن؟ نغسل الصحون وننظف الأرضيات؟ ألهذا خلق الأطفال؟ من حقوق الطفل الحصول على التعليم، واللباس اللائق، واللعب المناسب، والحصول على مصروف، إذا ذهبت إلى مندوبية حقوق الطفل سيزودونك بقائمة طويلة، سيندهش والداي عند قراءتها.
غدا بإذن الله سأنجح في المدرسة وأتوجه إلى الإعدادية، وسأتعلم حرفة أكسب منها رزقي. أبي صعب المراس، لا يكاد يعطيني دينارا أو نصفه، أنا محروم من بعض الحاجات؛ المصروف غير كاف، ليس لدي هاتف، لا أحصل على ترفيه.

“ما هي أمنياتك للسنة الجديدة؟”.. فرحة تكسر هموم العائلة
في المطبخ تقوم مريم -ابنتهم الوحيدة- بإعداد السلطات، بينما تقوم الأم بطهي الطعام، الفاصوليا والدجاج. أما ياسين فيجلس في المطبخ متذمرا لأن أباه لم يحضر لهم حلويات ومرطبات، يبدو أنها مناسبة رأس السنة الميلادية. في هذه الأثناء يدخل أبوهم البيت وقد أحضر معه علبة كرتونية كبيرة، إنها الحلويات والمرطبات التي ينتظرها ياسين.
على مائدة الطعام يسأل الأب ابنه الأوسط محمود: ما هي أمنياتك للسنة الجديدة 2019؟
فيجيب محمود: دراجة نارية ومشروعا.
يتحدث الوالد عن أولاده قائلا: ياسين قلبه طيب وهو شجاع، لكنه مجنون قليلا، أما محمود فكثير التفكير وفطن، ويحب تجربة كل شيء. في المرة الأخيرة حاول أن يهاجر بطريقة غير مشروعة، واضطرني أن أذهب إلى مخفر الشرطة في منتصف الليل من أجل التوقيع على إخلاء سبيله.

“ثورة 14 يناير لا تعني لي شيئا”.. خيبة الآمال وأحلام الهجرة
على شاطئ البحر يتمشى محمود وأخوه ياسين، يتحدثان عن المعاناة اليومية وعن المستقبل الغامض، يقول محمود:
أنا قلق، وعندي الكثير من الأحلام، لم لا أحققها في أوروبا؟
ياسين: وها هو الشرطي قد حققها لك، لكمات عديدة، أين أمسكوا بك؟
محمود: تحت ذلك الجسر، كانت هناك سيارة شرطة في ذهاب وإياب مستمر، وكنا نحن مختبئين وراء تلك الكثبان.
ياسين: وكيف رأوكم؟
محمود: لم يرونا إلا عندما اقتربنا من الباخرة، لي أصدقاء صعدوا باخرة سويسرية، ولم يكتشفوهم إلا عندما أصبحوا داخلها. الحياة في أوروبا أفضل، يجب أن أهاجر قبل أن أبلغ 18 سنة، هناك تفتح لك الأبواب عندما تكون قاصرا. أما بعد الثامنة عشرة فسوف تضطر إلى عمل غير مشروع، مثل أن تقترن في زواج صوري مع امرأة لا تدري إن كانت صادقة أم لا.
لي صديق هاجر قبل شهرين، وأموره على ما يرام، ينام في دار للأيتام ويعطونه مصروفا يكفيه، المهم أن يلتزم بأنظمة الدار. ولي صديق آخر سافر وهو التاسعة عشرة، ولكنه كذب عليهم وقال إن عمره 16 عاما، ولم يلتزم بأنظمة الدار؛ فعاد في ليلة متأخراً وهو ثمل، فطردوه بعد أن تبين أن عمره أكثر من 18.
أفكر في أمي بالطبع، عندما أصل هناك سوف أتصل بها حالا وأطمئنها عن نفسي، فالهجرة غير الشرعية (الحرقة) مكلفة، لأنني سأحتاج إلى 3000 دينار، سأحاول مع صاحب القارب على ألف دينار مقدما، وسأريه الباقي، ولكن لن أدفعه له قبل الوصول.
ياسين: أما أنا فلو حصلت على فرصة (حرقة) مجانية فلن أتردد في السفر، لست وحدي في ذلك، أراهن أن الشعب التونسي كله لو حصل على فرصة مجانية للهجرة فلن يتردد أحد.
أتمنى أن تندلع ثورة أخرى حتى أهاجر، سأتدبر أمر أجرة القارب بأي طريقة وأهاجر.
ياسين: ثورة 14 يناير لا تعني لي شيئا يحتفلون بذكراها ولم يحصلوا بعد على أيّ من حقوقهم، كنت أظن أن أسعار الحليب والخبز ستنخفض، أليس للفقراء الحق في العيش؟
محمود: اندلعت الثورة ولم يتحقق شيء، عشنا التخريب ونهب المتاجر فقط، يتحدثون عن أول ثورة تنجح في العالم، ونحن لم نرَ نجاحا. يقولون إن أهل تونس متحابّون، هذا ليس صحيحا، كلّ مهتم بنفسه فقط، أنا مثلا “رئيس جمهورية نفسي”.

“لو كنت أريد الجهاد لما فكرت في الهجرة إلى أوروبا”.. هواجس الإرهاب
يتدرب محمود على أعمال السباكة في الوكالة التونسية للتكوين المهني، فقد انقطع عن الدراسة الأساسية منذ الصف السابع، بعد أن فشل في اجتيازه مرتين. يقول: إذا حصلت على الشهادة المهنية فسوف أغض الطرف عن الهجرة غير الشرعية (الحرقة)، وسأعمل هنا لمدة عامين لأكتسب الخبرة وأجني بعض المال، وسأحاول الحصول على عقد عمل في الخليج أو أوروبا.
ومثل جميع المراهقين في سنه، فإن محمود يُتعِب أمه في شراء الطلبات، فإلى جانب أنه يجلب الخبز غير ناضج، فإنه كذلك يختلس بعضا من النقود التي تعطيها له أمه ويدخرها لنفسه، ولكنه أحيانا يتحدث بحكمة الكبار، فبعدما فرغوا من إفطار رمضان، قال: هناك من يصوم رمضان وغيره من الشهور لأنهم لا يجدون طعاما يأكلونه، الذي يرى مصيبة الناس تهون عليه مصيبته.
يخشى والد محمود على ابنه من بعض الأفكار المتطرفة، وأحيانا ينهاه عن الذهاب إلى المسجد خوفا عليه مما يتحدث به بعض الشيوخ. لكن محمود يطمئنه: لو كنت أريد الجهاد لما فكرت في الهجرة إلى أوروبا.

“السبب ببساطة أن ظروفنا المعيشية صعبة”.. محرقة الأحلام
تتحدث مريم عن ظروف عائلتها الصعبة قائلة: لقد تركت المدرسة مبكرا، وكذلك فعل أخي الأكبر يوسف من قبلي، وكذلك محمود، والسبب ببساطة أن ظروفنا المعيشية صعبة، ويتحتم علينا العمل لتأمين مصاريفنا الشخصية، وكذلك للمساهمة مع والدنا في تأمين مصاريف البيت.
ويقول يوسف، الابن الأكبر في العائلة: أنا أعمل، ويمكنني أن أكون مستقلا بشخصي، ولكنني لن أضحي بإخوتي وأهلي، إنهم قطعة مني، لم أفكر يوما في الـ”أنا”، بل أفكر دائما بصيغة “نحن”.
وتشارك أم يوسف في هذا الحوار قائلة: لا أنسى عندما كان ابني يوسف يذهب للمدرسة بحذاء ممزق، وها هو قد حصل على شهادة التكوين المهني الآن، أنا أخشى عليهم من الهجرة غير الشرعية، فأنا أسميها “طريق الموت”.
وتتابع ابنتهم مريم قائلة: تغيرت أحلامي، كنت أتمنى أن أكمل دراستي وأحصل على البكالوريا، وأذهب إلى الكلية، كنت أتمنى دراسة الحقوق لأتخرج محامية أو قاضية، لكن الظروف لم تساعدني.
ثم تتوقف المسكينة عن الحديث، لقد خنقتها العَبرة.

“أحبك يا أمي”.. محاولة الهروب من الحياة إلى الموت
يتحدث أبو يوسف بشيء من الأسى قائلا: ينقصنا التواصل الدائم، لم أكن أعرف أن ابني محمود يفكر بهذه الطريقة، عندما أحاول أن أسألهم ماذا تفعلون وبماذا تفكرون وما هي مخططاتكم للمستقبل، يكون جوابهم: وماذا عسانا أن نفعل، كل شيء له ثمن، ونحن لا نملك النقود، أنت لا تعطينا النقود لنتدبر أمرنا، ماذا أقول لهم حينها؟ أنا فعلا لا أستطيع تلبية جميع طلباتهم.
ويقول الصغير ياسين: عائلتي لا تدللني، أقراني ومن هم أصغر مني يمتلكون هواتف ذكية وأنا ليس لدي، لا أذكر آخر مرة أخذني فيها أبي إلى مطعم واشترى لي البيتزا، لم نخرج مع العائلة في رحلة ترفيهية منذ زمن.
وهنا تقاطعه مريم: وبدلا من ذلك تفكر في الانتحار يا ياسين؟ لم يتجاوز عمرك 14 عاما وتريد أن ترتاح من الدنيا؟ لقد وجدتُ ورقة على مكتبه رسم فيها قلبا، وكتب “أحبك يا أمي”، وكلاما آخر يوحي بأنه ينوي الانتحار، كتمت الأمر عن أمي وأخبرت يوسف ومحمود، فذهبا ليبحثا عنه حتى وجداه.
يرد عليها ياسين: كانت مجرد كلمات كتبتها، أنا لست مجنونا حتى أنتحر، نعم لقد رسبت سنتين، ولكنني سأعيد الدراسة وسوف أنجح، بدأت أدرك كيف تكون الدراسة طريقا للنجاح، وسوف أكون ناجحا.

” كلهم نهبوا وسرقوا ومضوا”.. صرخة الشعب في وجوه الحكّام
في اليوم التالي ذهبت أم يوسف إلى صندوق الاقتراع، لانتخاب رئيس الجمهورية، أبناؤها يستحثونها لتخبرهم من انتخبت؛ قيس سعيّد أم نبيل القروي؟ لكنها تقول لهم: لا شأن لكم بهذا، هذه قناعاتي الشخصية.
فيرد محمود: لو كانت سني تسمح لي بالانتخاب لما انتخبت أيا منهما، هذا حقي، لا أحد يجبرني على الانتخاب، ماذا فعل لنا الحكّام السابقون؟ كلهم نهبوا وسرقوا ومضوا، ولم نستفد نحن شيئا.
تمضي الحياة بهذه الأسرة مثل غيرها، صخب ومعاناة وشيء من الفرح، سوف يصطحب محمود أمه وأخته مريم لحضور احتفال النادي الأفريقي، بينما يواصل ياسين تعليمه في الإعدادية، وقد نجح في تجاوز الصعوبات التعليمية، أما محمود فقد بلغ سن الرشد ولم يعد يفكر في الهجرة إلا إلى الخليج، وهو في طريقه للحصول على شهادة التأهيل المهني.
في تونس ينقطع عن التعليم كل يوم 280 طالبا، معظمهم في المرحلة الابتدائية، وأغلب الحالات بسبب الأوضاع الاجتماعية، كما أن 41% من المهاجرين غير الشرعيين هم من الأطفال، وأكثر من 300 طفل يفكرون في الانتحار سنويا، وهذا يشكل ثاني أكبر نسبة وفيات مبكرة بعد حوادث السيارات، أما عدد الأطفال الذين أسرتهم داعش فتجاوز 200.
نرجوكم.. أدركوا أطفال تونس.