“كالونك في خطر”.. مئات الحرائق تشعل موسم الصيف في غابات مرسيليا
خاص-الوثائقية
ذات مساء من سبتمبر/أيلول 2016، وفي الوقت الذي كان ينبغي فيه هطول أمطار وبداية شتاء جديد، تلقى مركز العمليات في بوشدورون إنذارا عن حريق حدث للتو في بلدة لوميني جنوب مارسيليا، نتج عن عبث مراهق بقداحة كبريت، وساعد هبوب رياح مسترال على دفعه باتجاه جبال كالونك.
في هذه الحلقة من سلسلة “في قلب الخطر”، التي تبثها الجزيرة الوثائقية، نسلط الضوء على حريق اجتاح منطقة كالونك جنوب فرنسا، ولم يكن غريبا على النيران أنها أتت على آلاف الدونمات من المناطق الحرجية والغابات، ولكن الغريب أنها اشتعلت في مثل هذا الوقت من السنة، إذ يفترض أن تهطل فيه أمطار الخريف.
وادي كاربيانيي.. قاعدة عسكرية في مرمى النيران
سوف يتولى الملازم “روبرت مجلي” أمر التدخل، وتضم مجموعته طائرة سكاوت، وشاحنتين بسعة 3500 جالون ماء، وسوف ترسل فورا إلى جبال كالونك، حيث تتصاعد أعمدة الدخان الهائلة.
بدأت طائرات الماء من طراز “كاندير” العمل بعد 10 دقائق من نشوب الحريق، وتساندها طائرة “داش8” التي تحمل 10 أطنان من مخمدات النيران، بينما تحلق في أجواء أعلى طائرة “هورس” الاستطلاعية.
تبذل هذه المعدات قصارى جهدها في محاصرة النيران في وادي جينست قبل أن تصل إلى ثكنة عسكرية ذات أهمية استراتيجية، ويتوقع “مجلي” وفريقه ما هو أسوأ، لهذا فقد ارتدوا بدلات الحريق وتوجهوا إلى مصدر الدخان، وكلما واصلوا التقدم يبدو الحريق مخيفا أكثر. لقد أخليت المنطقة ومنع الناس من الدخول.
طُلب من “مجلي” ورجاله الانتظار وعدم خوض غمار النيران في معركة خاسرة، وبعد قليل جاءت التعليمات بإرسال مجموعة من الرجال إلى الجهة اليسرى من النيران على امتداد وادي جينست، ثم تمركزت الشاحنات على جانب الطريق في مواجهة جدار النار، وبدأ تمديد خراطيم المياه. تسير عملية الإطفاء بشكل جيد، ولكن ألسنة اللهب تتمدد بحيث يتعذر على الخراطيم الوصول إليها.
تنتشر النيران شمالا باتجاه وادي كاربيانيي، وهذا يعني أنها ستصل إلى القاعدة العسكرية، الأمر الذي ينذر بسوء كبير، ويرفع مستوى الشعور بالخوف، ولكن فريق “مجلي” يشعر أنه قام بما عليه في حدود الإمكانات المتاحة، وخفّض مستوى النار في المنطقة التي يسيطر عليها، والخطوة الممكنة القادمة هي جمع خراطيم المياه وإعادة التمركز في نقطة أقرب إلى مركز النيران.
مواجهة النار بالنار.. سلاح إنقاذ اليخوت والمنازل وغابات الصنوبر
لا يوجد منفذ مناسب للوصول إلى النيران في جينست، هنالك طريق عبر كالونك ولكنه للأسف لا يؤدي إلى كاربيانيي، والنيران تزداد اشتعالا، وتأكل في طريقها الحشائش والأشجار في عدة دونمات من الغابة، وتهدد متنزه كالونك الوطني الذي يضم عدة مضائق جيرية تخطف الأنفاس، وتجذب مليونين من السياح سنويا.
في خليج ميناء “نيو” وعلى شبه الجزيرة هنالك تجمع لليخوت والمنازل المستقلة في غابة الصنوبر التي تتعرض لخطر محدق. وبالعودة إلى وادي جينست فإن النار تواصل سعيها الحثيث نحو القاعدة العسكرية ولم يعد يفصلها سوى كيلومترين فقط، ولذا يجب على فريق مجلي الإسراع بالتوجه نحو هدف جديد، إذ عليهم إيجاد نقطة ضعف للنيران في الجهة الشمالية، ومهاجمتها من هناك.
لكن النار تباغتهم وتتحول إلى الجهة اليمنى، ويستمر “روبرت مجلي” وفريقه في البحث عن منفذ يقتربون فيه من النيران، قد توجد نقطة ضعف يمكن النفاذ منها على بعد 1000 قدم من أقرب البنايات. وقد تمكن “روبرت” من الوصول إلى منطقة بها صهريج مياه وطريق متجه إلى الشمال يمكن بواسطته محاصرة النيران ومنع تقدمها نحو القاعدة العسكرية.
وصلت تعزيزات للمكان، فرقة النيران التكتيكية لمواجهة النار بالنار، وشاحنتا إطفاء كبيرتان.
وضع “روبرت” مع قائد مجموعة النار التكتيكية “بورشييه” خطة جريئة، وينتظران التصديق عليها من قبل رئيس قسم الإطفاء في المنطقة. وسوف يستفيد الفريق من تضاريس الوادي التي تعيد توجيه الرياح، وسيشعلون النار التكتيكية بحيث تواجه نيران الغابة وتوقف زحفها، ثم يسيطرون على النار التكتيكية ويطفئونها.
خطة النار التكتيكية.. موازنة بين كفاءة العمل وسلامة الأرواح
السلاح الآخر الذي سيستخدمه رجال الإطفاء في خطتهم هو الغطاء الجوي الذي توفره طائرات الكاندير، فسوف تساعد المياه المتدفقة على إطفاء النيران وكبح جماح تقدمها، وعلى الأرض ينتظر الرجال تقدم رأس الوحش، وليس عليهم إشعال النيران المضادة الآن، بل يجب الانتظار حتى تقترب النار أكثر، والأهم من ذلك عدم الخوف والتحلي بالشجاعة.
اقتربت النيران فجأة، إنه جدار هائل من النار يحجب الأفق ويتقدم نحو الرجال بسرعة، لقد تلوَّث الهواء وارتفعت درجة حرارة الجو، والدخان يحجب الشمس بالكامل. وفي هذه الأجواء يصبح توزيع القوات صعبا للغاية، وعليهم الموازنة الدقيقة بين كفاءة العمل وسلامة أرواحهم.
تبدو الأمور قاتمة للغاية، فالرجال محاصرون بالكامل وسط الدخان الكثيف، وقد أعطيت التعليمات بإشعال النار التكتيكية، لكن لا يمكن التكهن وسط هذه الأجواء بنجاح العملية من عدمه، وها هو الفريق بدأ فورا بالبحث عن خطة بديلة لحماية كاربيانيي. لكن في لحظة هدأت الرياح وانقشع الدخان قليلا، وتبين أن خطة النار المضادة قد نجحت بفعالية، وبدأ الرجال بإخماد جيوب النار الباقية بعد العملية البطولية.
فرغت حمولة الماء مع انتهاء المهمة، لكن الصهريج الذي وجدوه في الموقع شكّل لهم نعمة حقيقية. لم تستسلم النيران لهم بالكامل، فقد عاودت نشاطها من جهة الجنوب، وهي تتحرك مسرعة باتجاه كالونْك، وتلتهم في طريقها هكتارات من الغابات الخضراء، بالرغم من الاحتياطات التي قامت بها السلطات خلال الربيع من أجل إعادة توجيه النيران بعيدا عن الثروة الخضراء والمناظر السياحية الخلابة.
القافزات.. شرر النار المتطاير يهدد الغابات
تعتمد النار في انتشارها المذهل على الشرر المتطاير، أو ما يسمى “القافزات”، فمع هبوب الرياح القوية يتطاير الشرر على مساحات أوسع ويُنشئ بؤرا جديدة للنيران، وهو بالضبط ما حدث على بعد 500 متر في وادي شالومبرون، حيث ظهرت بؤرة مشتعلة جديدة، وتبعتها بؤر أخرى كثيرة.
لذا يجب استغلال طائرات الكاندير فيما بقي من هذا النهار، فهي تعود إلى مهاجعها ليلا، بينما تعمل الشاحنات ثقيلة الحمولة بفعالية كبيرة لتمنع رأس الوحش من ابتلاع المزارع الخاصة. غير أن بعض البؤر في المنحدرات شديدة الوعورة لا يمكن الوصول إليها بتاتا، ويكتفي رجال الإطفاء بالتحديق فيها وهي تشتعل.
وأخيرا حققت الشاحنات الثقيلة نصرا في بداية الليل، إذ تمكنت من السيطرة على الرأس المتقدم من النيران، وإنقاذ مزرعة “لوجيسون” من الخطر المحدق بها، وتتوجه جهود الطاقم الآن لحماية بلدة كاسيه، وتساعدهم التلال الجيرية الجرداء التي لا تجد عليها النار ما تأكله. وكذلك أثبتت الاحتياطات التي اتخذتها السلطات في الربيع نجاعة منقطعة النظير في كبح جماح الوحش.
في هذا الوقت يتنفس رجال الإطفاء الصعداء، وعلى الرغم من حلكة الليل وقتامة الجو المفعم بالدخان والغازات، فإنهم يجدون متسعا لبعض اللهو واستعادة بعض اللحظات العصيبة التي عاشوها خلال النهار، وما عليهم سوى إخماد ما بقي من الجمر الذي ما يزال محتدما تحت الرماد.
بعد أن أنهى “مجلي” ورجاله مهمتهم حوالي العاشرة ليلا، وصلتهم تعزيزات لاستلام مواقعهم، وبدأ “مجلي” يضع الفريق الجديد في صورة الحدث، ويوضح لهم البؤر التي أخمدت وتلك التي يخشى أن تثور مجددا، ثم أطلعهم على أماكن فرق المكافحة الأخرى التي تعمل معهم، وتمنى لهم السلامة.
رياح النهار تمحو تخطيط الليل.. صباح مشتعل
في مركز القيادة المتنقل، يفكر الرجال في الإجراءات التي من شأنها منع نشوب حرائق جديدة، ويستعدون ليوم عصيب آخر، ويبقى التحدي الرئيسي الذي يواجه مركز القيادة هو الرياح التي ستغير اتجاهها الليلة، وقد تحمل معها الجمر إلى مناطق لم تصل إليها النيران، ثم يودعهم قائد المنطقة متمنيا لهم صباحا هادئا.
لكن مع الأسف لم يكن صباحهم كما تمنى القائد، فمع طلوع الشمس جاءت الأخبار السيئة المتوقعة، لقد اشتعلت النيران مجددا، لكن باتجاه مرسيليا هذه المرة، مما يجعل مليون نسمة عرضة للنيران. ويمثل إضعاف هذه النار مسألة جوهرية لرجال الإطفاء، ومن حسن الحظ أن طائرات كاندير استأنفت عملها في الصباح، واستطاعت السيطرة على النيران بعد إسقاط 60 طنا من الماء على عشر دفعات.
ما زالت في المكان بعض البؤر التي تشبه القنابل القابلة للانفجار في أية لحظة، لقد رصدتها طائرة الاستطلاع هورس في أماكن متعددة من وادي جينست وشالومبرون، وتقوم الفرق بتثبيط هذه البؤر عن طريق رشها بسائل بنفسجي خاص لتثبيط الحرائق. ثم عادت الحرائق للاشتعال في منطقة جيرية وعرة من شالومبون لا تصلها الشاحنات، هناك فريق واحد يتقن التعامل مع هذه الحالة؛ إنه فريق المروحيات.
سلاح المروحيات والطائرات المسيّرة.. جنود السماء
تنقل المروحيات فريق العمل ومعداتهم إلى مناطق لا يمكن الوصول إليها، ويشرف “بارجيس” على عمل الفريق من مهبط المروحية المؤقت، ويتعين عليهم تثبيت خزانين للماء في مناطق يحددونها، وتثبيت الخراطيم وإنزال الرجال في مواقع يمكنهم منها أن يسيطروا على الحرائق المتوقعة، وتكمن صعوبة هذه المهمة في نقل وتأمين خزان الماء الأكبر حجما بسعة 800 جالون.
بعدها تقوم المروحيات بنقل الرجال وحقائب الماء التي تمكنهم من غمر أماكن تحتوي على الجمر قبل أن يعاود الاشتعال.
إن النظرة من المروحية إلى مكان الكارثة يعطي صورة مؤلمة عن الدمار الذي خلفه الحريق، لقد احترقت 4200 دونم من الأراضي وغابة صنوبر، أي ما يعادل 300 ملعب كرة قدم، وتحتاج عدة سنوات قادمة لإعادة ترميمها.
لقد تعامل رجال الإطفاء ببراعة منقطعة النظير مع هذا الحريق، وفي كل مرة تلهمهم التحديات مهارات جديدة للتعامل مع أنواع الحرائق، وتكشف لهم أيضا عن مواطن الخلل، وعن المعدات التي عليهم تجديدها ورفع كفاءتها، وتظهر الحاجة أيضا لوجود مراكز للتحكم في بعض المناطق غير المغطاة بهذه الخدمات.
قد يكون إنشاء مركز تحكم في المنتزه الوطني أولوية ثانية في هذا الموسم، والأولوية الأولى الآن هي التأكد من عدم اشتعال الحرائق من جديد بعد 72 ساعة من إخمادها، في هذه المرة سوف يقومون باستخدام الطائرات المسيرة من دون طيار (الدرونز)، ويكلف استئجارها 3500 يورو للساعة، وهي سلاح جديد طوّره رجال الإطفاء، ويسمح لشخص واحد فقط بتحديد خارطة الأماكن الساخنة.
تحمل هذه الطائرة الصغيرة كاميرات خاصة ذات حساسية فائقة للأشعة تحت الحمراء، أي أنها تكتشف البؤر ذات الحرارة العالية، وتستطيع الطائرة التحليق لمدة ساعة ونصف، تمسح خلالها مئات الدونمات، في مناطق يصعب على الرجال والآليات الوصول إليها. كانت هذه الطائرة تساعد في البحث عن الأشخاص الذين تقطعت بهم السبل وضلّوا طرقهم.
هطول الأمطار.. تحديات السيول الطينية الجارفة
نحن في منتصف أيلول/سبتمبر، وما زالت الأعشاب جافة بشكل يدعو للقلق ويبقي فرص اشتعال النيران قائمة. من جانبهم ينتظر رجال الإطفاء شيئا واحدا فقط هو هطول المطر، ولكن ما ينتظرونه قد يكون له عواقب وخيمة، فالحرائق التي اشتعلت خلَّفت كثيرا من الرماد والأتربة المكشوفة التي تكون قابلة للانجراف وإحداث تدمير كبير في حالة هطول كبير للأمطار.
لقد وقع المحذور، وتشكل منخفض جوي هطلت على أثره أمطار غزيرة جرفت في طريقها الأتربة والرماد وبقايا الأشجار، وشكّلت أودية هادرة. ولكن لحسن الحظ فقد تمكنت السدود المقامة على مجاري السيول من استيعاب ثورة الأودية المحدودة، ولم تتشكل أنهار جارفة، كان يمكن أن تصل إلى مراكز المدن وتحدث ضررا كبيرا.
في هذا العام اندلع 378 حريقا، ولكنها بحمد الله لم تتسبب في أي حالات وفاة في صفوف المدنيين ولا رجال الإطفاء، لم تكن هنالك سوى 8 إصابات طفيفة في حريق تشاتانوف، ولكن رجال الإطفاء يعلمون أنهم يواجهون عدوا لا يرحم، وما يزالون يتذكرون اثنين من أصدقائهم لقيا حتفهما وهما يواجهان نيران صيف 1989.
في ذلك اليوم الحزين، وفي بلدة تريتس الصغيرة، أسقطت طائرة 6 أطنان من الماء على رأسَيْ “جيرارد شابينو” و”ماجد شابي” مباشرة، مما أدى إلى مقتلهما على الفور، وما يزال رجال الإطفاء إلى الآن يشاطرون عائلات الضحايا أحزانهم وذكرياتهم، في بادرة لردّ الجميل إلى الذين بذلوا أرواحهم من أجل حماية الآخرين.
بطولات وتضحيات وتكريمات.. حصاد صيف حارق
أظهر رجال ونساء الإطفاء في بوشدورون، شجاعة منقطعة النظير في مواجهة الحرائق هذا العام، وأثبتوا أنهم على قدر المسؤولية، لم يثبتوا أنهم قادرون على مكافحة الحرائق فحسب، ولكنهم كذلك يتمتعون بكل ما يلزم ليكونوا رجال إطفاء أشداء في المستقبل.
في نهاية هذا الموسم (2016) كرمت مجموعة من الشبان المتطوعين، كما رفعت رتبهم لأنهم أثبتوا شجاعة وقدرة والتزاما منقطع النظير في أداء المهمات المنوطة بهم، وكذلك كرّم بعض الضباط من ذوي الخبرات الطويلة على قيادتهم وحسن إدارتهم للعمليات المختلفة في مكافحة حرائق الغابات.
دفعت الطبيعة الأم الثمن الأكبر من جرّاء الحرائق، إذ خسرت أكثر من 50 كيلومترا مربعا من المناطق الحرجية وغابات الصنوبر والحيوانات، ولكن الخسائر المادية كانت محدودة نوعا ما؛ 25 منزلا، ومطعما واحدا، ومدرسة ثانوية، وقد شارك 13 ألف رجل إطفاء في مكافحتها، وأنفقت 4.6 مليون يورو على تكاليف المكافحة وحماية المنازل.
ستتعافى غابات البحر الأبيض المتوسط من آثار الحريق، لكن الأمر سيتطلب سنوات وعقودا، وسيعلق موسم حرائق الغابات هذا في الذاكرة لأمدٍ طويل، وسنظل نتذكر ذكاء وشجاعة وأساليب وخبرات أولئك الذين خاضوا هذه المعارك، إنهم رجال الإطفاء.