بيروت وسراييفو.. حروب تفسد ساحات الفن وسينما تتحدى ميادين الحرب
خاص- الوثائقية
في عام 1983 غنت فيروز للمرة الأولى أغنيتها “لبيروت”، وهي واحدة من أشهر أغانيها التي ظلت الجماهير العربية ترددها لأجيال وحتى اليوم، وفي ذلك الوقت كانت الحرب الأهلية في منتصفها تماما، بدأت قبل ثمان سنوات وستنتهي بعد سبع.
وقد رسم الشاعر اللبناني “جوزيف حرب” (1944-2014) في “لبيروت” صورة لمدينة تئن تحت قصف النيران، وتتحسر على ماضيها القريب الذي جعلها في المخيلة الجمعية العربية قبلة للفن والجمال والتحرر.
لِبيروت
من قلبي سلامٌ لِبيروت
وقُبَلٌ لِلبحرِ والبيوت
لِصخرةٍ كأنّها وجهُ بحّارٍ قديمِ
لِبيروت
هيَ مِن روحِ الشّعبِ خمرٌ
هيَ مِن عرقِهِ خُبزٌ ويَاسَمين
فكيفَ صارَ طعمُها طعمَ نارٍ ودُخانِ؟
بيروت ما قبل الحرب.. حقبة ازدهار الثقافة والسياحة والفن
تلك الصورة المتحولة من مدينة الخمر والخبز والياسمين إلى النار والدخان، هي واقع المدينة بين ستينياتها وثمانينياتها. وبدون الإغراق في محاولة رسم صورة رومانسية منبعها الحنين إلى الماضي، فإن بيروت الستينيات ومطلع السبعينيات كانت بلا شك إحدى أهم الوجهات السياحية الرئيسية، عربيا على الأقل.
وقد تمتعت لبنان في تلك الحقبة بازدهار ثقافي وفني سمح لها أن تكون وجهة بارزة للإنتاج والعرض السينمائي، خاصة بعد تأميم السينما في مصر، إذ انعكس على تنشيط حركة الإنتاج المشترك بين البلدين، وأدى إلى تجاوز عدد الأفلام السينمائية الطويلة المنتجة في لبنان العشرين فيلما. كل ذلك انتهى إلى غير عودة ربما، على أثر اندلاع حرب الخمسة عشر عاما التي لم تتعافَ المدينة منها حتى اليوم.
سراييفو.. حكاية عكسية لمأساة بيروت
تمثل مدينة سراييفو عاصمة البوسنة الحكاية العكسية لبيروت، فهي مدينة اكتسب اسمها زخما ارتبط بحرب طاحنة أودت بحياة ما يقارب مئة ألف بوسني، وأصابت ربع مليون آخرين في النصف الأول من تسعينيات القرن الماضي.
واليوم بعد مرور 30 عاما على اندلاع تلك الحرب، تعتبر تلك المدينة المقبرة وجهة لأهم مهرجان سينمائي في البلقان، ويحمل اسمها، إضافة إلى مهرجان آخر متخصص في الأفلام الوثائقية أطلقته قناة الجزيرة الوثائقية قبل خمس سنوات، وتحفل المدينة إلى جانبهما بعدد من الفعاليات الغنية والثقافية طوال العام. فكيف ولدت تلك البهجة من رحم المعاناة؟
حصار سراييفو.. ولادة المهرجان من تحت رماد الحرب
قصة ميلاد مهرجان سراييفو هي واحدة من القصص الأكثر إلهاما في الذاكرة الفنية الأوروبية، فخلال حصار سراييفو -أطول حصار شهدته مدينة في حروب العالم الحديث (1992-1996)- قرر مجموعة من الفنانين الناشطين في العمل الثقافي البوسني إطلاق مهرجان سينمائي حاشد، يمنح سكانها شعورا مؤقتا بالأمان والبهجة اللحظية تحت صوت المدافع.
وعن تلك الفكرة الجامحة، يعلق “هاريس باشوفيتش” المدير الأول لمهرجان سراييفو قائلا: اعتدت أن يسألني الصحفيون: لماذا المهرجان في وقت الحرب؟ واعتدت أن أجيب: ولماذا الحرب وقت المهرجان؟
ويحكي “سردان ساريناك” مخرج مشروع فيلم (سينما تحت الحصار) الذي يوثق قصة إطلاق المهرجان، أنه أثناء تصوير فيلمه التقى بإحدى البوسنيات اللائي شهدن الحرب في شبابهن، وأخبرته أن الدافع الرئيسي وراء حضورها عروض المهرجان السينمائية كان محاولة أن تجد في دراكولا وسيلة لنسيان الخوف الحقيقي في شوارع المدينة.
أما الممثل البريطاني الحائز على جائزة الأوسكار عام 1991 “جيرمي إيرونز”، فله ذكرى استثنائية مع تلك الفترة العصيبة، إذ كان ممن سعوا إلى كسر الحصار المفروض على المدينة، عن طريق التسلل إلى داخلها وحضور المهرجان لتسليط الضوء العالمي على معاناة سكان المدينة المحاصرين. يحكي “إيرونز” قائلا: لم أكن قد سافرت أبدا إلى ساحة حرب من قبل، لم نكن نعلم ما إن كانوا سيطلقون علينا النار أثناء هبوطنا على مدرج المطار مثلا. لم نكن نعلم أي شيء.
جائحة كورونا.. عقبة كادت تفسد إرادة المهرجان الخارقة
ذلك المخاض شديد التفرد لمهرجان سراييفو هو ما دفع القائمين عليه على مدار ربع قرن لتذليل كافة العقبات التي قد تعيق إقامة المهرجان لأي دورة، رغم الوضع الاقتصادي الطاحن خلال سنوات ما بعد الحرب، إيمانا بأن الجيل الأول من مؤسسي المهرجان قد أقام الحجة على من تلاهم، بقرارهم إطلاق المهرجان خلال حصار عسكري وحرب شرسة.
أربكت تلك الذكرى إدارة المهرجان عندما حلت الجائحة على العالم عام 2020، في أول دورة للمهرجان بعد “يوبيله الفضي”.
وبعد خلاف داخلي حول ما إذا كان ينبغي للمهرجان أن يستمر رغم كل شيء، أو أن تلغى إقامته استثناء لعام واحد لحين انتهاء الوباء، حتى استقر الأمر على استمرار إقامة فعالياته ولكن على شبكة الإنترنت، على غرار ما فعلته أغلب مهرجانات السينما العالمية في ذلك العام.
الجزيرة بلقان.. احتفاء وثائقي بالمهرجان الأصلي والمدينة الصامدة
جذب مشهد مهرجان سراييفو القائمين على قناة الجزيرة بلقان التي انطلقت من العاصمة سراييفو عام 2011، إلى أن يحذو حذو مهرجان سراييفو بإطلاق مهرجانهم الذي يحمل اسم القناة، وقرروا له أن يكون متخصصا في الفيلم الوثائقي، ليكملوا ذلك المشهد المحتفي بالسينما بطيف جديد.
وفي عام 2018 تحولت تلك الفكرة إلى مبادرة، وانطلقت الدورة الأولى من مهرجان الجزيرة بلقان من ساحة النصب التذكاري الشهيرة في قلب المدينة، وأعلن المهرجان أنه يهدف لدعم السينما الوثائقية ومخرجيها المهتمين بالظواهر الاجتماعية وتفاعلاتها، وكذلك لدعم حقوق الإنسان والحريات والعدالة والتسامح، وهي القيم التي استطاعت بها المدينة التحرر من أشباح ماضيها القريب.
وخلال السنوات الأخيرة ازداد المشهد السينمائي ازدهارا في تلك المدينة التي صار أهلها يحظون في نهاية كل صيف وحلول كل خريف بمهرجانين سينمائيين كبيرين، أحدهما للسينما الروائية أساسا، والآخر للسينما الوثائقية، تجاوز عدد روادهما 150 ألف شخص، في مدينة لا يزيد عدد سكانها عن 350 ألف، وتجاوز عدد الأفلام المعروضة فيهما 300 فيلم تمثل أكثر من 70 دولة حول العالم.
أيام الجزيرة الوثائقية.. منصة دعم الأفلام في البلقان والقوقاز
اتسعت مساحة المبادرات السينمائية في العام الحالي بإعلان الجزيرة الوثائقية إطلاق منصتها تحت اسم “أيام الجزيرة الوثائقية”، بهدف دعم صناع الأفلام في منطقة البلقان والقوقاز إلى جانب المنطقة العربية.
وخلال دورتها الأولى استضافت المنصة 25 مشروع فيلم تسجيلي قيد التطوير والإنتاج لمدة 3 أيام، إذ التقى صناع تلك المشاريع مع العاملين في صناعة السينما التسجيلية حول العالم، للنقاش حول فرص التعاون والإنتاج المشترك بينهم، وانتهت الفعالية بتقديم جوائز مادية وإنتاجية للمشروعات الفائزة بلغت قيمتها 73 ألف دولار أمريكي.