“خطر غصن القنا”.. أغنية يمانية تحولت من التشهير إلى الغزل الرفيع

خاص- الوثائقية

تعتبر أغنية “خطر غصن القنا” من الأغاني الشعبية الخالدة في الذاكرة الجمعية اليمنية، وقد كتب كلماتها الشاعر اليمني المشهور مطهر الإرياني، واستمد قوام قصيدته وتفعيلاتها من أغنية شعبية اسمها “الدودحية”، احتفظ فيها بالوزن والقافية، وقام بتغيير كلماتها بسبب قصة طريفة سنوردها لاحقا.

 

وقد غناها لأول مرة الفنان اليمني علي بن علي الآنسي في سبعينيات القرن الماضي، ثم أصبحت موروثا شعبيا يحرص على ترداده معظم الفنانين العرب من الشباب والمخضرمين، وقد أفردت لها الجزيرة الوثائقية حلقة خاصة من سلسلة “حكاية أغنية” التي قامت القناة بإنتاجها.

“قد دردحو بِشْ على وادي بَنا”.. قضية أخلاقية تفضح القبيلة

يعود أصل القصيدة -كما يوردها الناقد الفني محمد المقبلي- إلى قصة حب بين فتاة تدعى الدودحية وابن عمها، وهما من قبيلة مشهورة سكنت منطقة وادي بنا، وقد تطورت إلى علاقة خارج إطار الزواج الشرعي، وافتضح أمرها ووصل الأمر إلى القاضي، فكان مخيرا بين أن يقيم عليهما الحد، أو يتجاوز عنهما، خصوصا أن الفتاة من قبيلة ذات مكانة.

 

أصرّ القاضي على إنفاذ الحدّ في حقهما، وكان المتداول في التعزير أن يُشَهَّر بهما بين القبائل، وأن يطاف بهما بين الناس مقيَّدين وقد كتبت على ظهريهما عبارات عن الفعل الفاحش الذي اقترفاه، ويبدو أن هذه الحادثة قد أثارت ما في دواخل العامة، ليس على الفتاة وحدها، ولكن على الطبقة الحاكمة من الأشراف وشيوخ القبيلة:

يا دودحية ويا غصن القنا .. قد دردحو بِشْ على وادي بَنا

والدردحة كلمة من الدارجة اليمنية وتعني التشنيع والتشهير، وقد اتسعت دائرة التشنيع بقبيلة الفتاة حتى عمّت القرى والقبائل المجاورة، ووصل الاستياء من القبيلة أن اشتكت ورفعت أمرها إلى الرئيس القاضي عبد الرحمن الإرياني.

محو أغاني التشهير بترانيم الغزل.. ذكاء القاضي

كان القاضي عبد الرحمن الإرياني قاضيا ذا حكمةٍ ونفوذ في عموم اليمن، وهو يعلم أنه لن يستطيع تغيير ذائقة عموم الشعب بالقوة. فما كان منه إلا أن تعامل مع الأمر بحكمة بالغة، وطلب من الشاعر مطهر الإرياني أن ينسج قصيدة جديدة على نفس الوزن والقافية، ولكن بكلمات مختلفة، رجاء أن تُنسي هذه الكلمات الجديدة ما استقر في أذهان الناس من القصيدة التشهيرية الأصلية.

الفنان علي الآنسي يغني كلمات أغنية “خطر غصن القنا” التي طلب تأليفها القاضي عبد الرحمن الإرياني

 

ومع تعاقب الأيام، نسي الناس أو تناسوا الأغنية الأصلية، وحلّت في ذاكرتهم مكانها أغنية حازت على إعجاب الجمهور اليمني قاطبة، ومن بعده الجمهور العربي العريض:

خطر غصن القنا.. وارد على الما

نزل وادي يَنا.. أنا يا بوي انا

ومرّ جنبي

الأغنية المعاصرة.. انبعاث فني في زمن الجمهورية الجديدة

جاءت الأغنية بشكلها المعاصر لتعبّر عن الانبعاث الفني في زمن الجمهورية الجديدة، فقد كان الغناء والموسيقى محرما في عهد الدولة الإمامية الهاشمية، حتى أن الفنان علي الآنسي الذي يعتبر أول من سجّل هذه الأغنية، كان ممنوعا من الغناء في صنعاء، وكان يغني في ريف تعز فقط:

أمان يا نازل الوادي أمان

أنا يا بوي انا

نحوي وصوَّب سهامه واعتنى

وصاد قلبي

الشاعر مطَّهّر الإرياني (يمينا) كاتب كلمات أغينة “خطر غصن القنا” التي غناها الفنان علي الآنسي (شمالا)

 

ويرى كثير من النقاد الفنيين أن هذه الأغنية، بقدر ما كانت انتصارا للفتاة من حملة التشنيع ضدها، فإنها كانت انتصارا للجمهورية الجديدة، والثورة على نظام الشيوخ وأعيان القبائل الحاكم.

غزل نقي بمفردات الريف اليمني.. إن من البيان لسحرا

أبدع الشاعر مطهر الإرياني عندما حوّل الوجدان الجمعي الشعبي من التهكم على الفتاة إلى التغني بجماليات ومفردات هذه القصيدة الغزلية الرفيعة:

يا طول همّي

ويا طول النواح

أخذ قلبي وراح

وضاق صدري بالعيون الصحاح

يا طول همي

بعد حوالي قرن من الزمان على قصة الدودحية، ما زال الناس يتغنون بهذه المقطوعة الفائقة الجمال التي ضمّنها الشاعر مفردات من البيئة الريفية اليمنية، وحمّلها أبهى صور الغزل النقي، بعد أن كانت القصيدة الأولى المنسوجة على المنوال نفسه فيها من التشهير والتهكم الشيء الكثير. وصدق رسول الله ﷺ إذ قال: “إِنَّ مِنَ الْبَيَانِ لَسِحْرًا”.