“يا المنفي”.. ترانيم الثورة الخالدة في المنفى والوطن والمهجر

يرتبط التراث الأدبي والفني الجزائري خلال القرنين الماضيين ارتباطا وثيقا بالاحتلال الفرنسي، وتكاد مخرجاته تنحصر في مقاومة المحتل وتصوير بطولات الثوار، ووصف معاناة الأسرى والمنفيين.

وفي هذا السياق جاءت أغنبة “يا المنفي”، فهي من جهة تصور بدقة يوميات الأسرى الجزائريين في سجون المحتل الفرنسي، ومن جهة أخرى ترسم أطياف الأمل وبشائر النصر في الأفق الجزائري الواسع الذي يضيق عنه كيد المعتدين. لذا كانت “يا المنفي” موضوع واحدة من حلقات سلسلة “حكاية أغنية”، من إنتاج وتقديم قناة الجزيرة الوثائقية.

“قولوا لأمي ما تبكيش”.. أدب المقاومة والصمود في المنفى

سوف يصحبنا في سردية هذه الأغنية الفنان الشعبي سيدي علي عالية، حيث يقول: أنا من عائلة فنية، كنت أستمع لأبي وهو يغني، أحب عزفه وغناءه، وتمنيت أن أكون مثله في أحد الأيام، وأبرز الأغاني التي كان يرددها أغنية “يا المنفي”، فتعلمتها منه وبدأت أغنيها:

قولوا لأمي ما تبكيش.. يا المنفي
ولدك ربي ما يخليش.. يا المنفي
أصبري يمّه ما تبكيش.. يا المنفي

وهي من الأغاني التي شهدت رواجا على المستوى المحلي والعربي بل والعالمي أحيانا، ويرجح أن انطلاقتها كانت في فترة نفي الجزائريين الثوار إلى جزيرة كاليدونيا في المحيط الهادئ، من أجل إخماد الأصوات المقاوِمة مثل ثورة المقراني في 1871 التي شاركه فيها اثنان من أبنائه، وهما عزيز ومحمد الحداد، ضمن 320 معتقلا آخرين، ومنهم أيضا أحمد بومزراق.

وقد سُجن الآباء الكبار في قسنطينة، وحكم على الشيخ الحداد المقراني بالسجن مدة خمس سنوات، أما أبناؤه والشباب الآخرون فقد نُفوا إلى جزيرة كاليدونيا.

لا يُعرف من كتب هذه القصيدة على وجه التحديد، ويرجح أن يكون أحد المنفيين، ويصف فيها يوميات سجنه والظروف غير الآدمية التي كان المحتل الفرنسي يفرضها على الثوار الجزائريين عندما يقعون في الأسر. فكانت الكلمة هي السلاح الوحيد الذي يعبر به السجين عن العذاب والقسوة التي يعانيها.

حين أخذوني إلى المحكمة.. يا المنفي
جنود كبار وصغار.. يا المنفي
والأصفاد توزن قنطار.. يا المنفي
حكموا علي بعام ونهار.. يا المنفي

أغنية الثورة والمنفى.. سَلْوة الجزائري في الحل والترحال

رافقت كلمات الأغنية المنفيين إلى الحقول والمزارع التي عملوا فيها في جزيرة المنفى كاليدونيا، وكان فيها نوع من التسلية عن الواقع المرير الذي يعيشونه بعيدين عن الأهل والوطن.

وإذا أمعنّا النظر في كلمات الأغنية بالتفصيل، فهي لا تتحدث عن رحلة المنفى بقدر ما تتحدث عن ظروف دخول السجن والأحوال المرافقة، من ثقل الأصفاد والقيود إلى المعاملة الجلفة القاسية من قبل الدرك والجنود، إلى حلق شعر الرأس والأوضاع المزرية في الزنزانة من عدم النظافة وانتشار الحشرات والطعام السيئ.

وقد ذاع صيت الأغنية أيضا أثناء الحرب العالمية الأولى، وذلك عندما كانت فرنسا تجند الشباب الجزائري اليافع، وتلقي بهم إلى جبهات القتال البعيدة، في ألمانيا وباقي دول أوروبا.

كانت فرنسا تنكل بالمساجين الجزائريين وتذيقهم سوء العذاب والحياة القاسية

وفي أثناء ثورات الجزائر المجيدة التي امتدت بين عامي 1954-1962 أنشد المتظاهرون وجموع الشعب الثائر هذه الأغنية في الطرقات والميادين، يستحضرون من خلالها أرواح الشهداء والسجناء الذين قضوا، والتضحيات التي بذلتها جموع الشعب الجزائري خلال فترة الاحتلال الفرنسي البغيض للجزائر على مدى 130 عاما.

ولما تجاوزت أبواب السجن.. يا المنفي
وفيها سبعة رجال شداد.. يا المنفي
وقالوا لي ألديك سجائر.. يا المنفي
وأنا بينهم مندهش.. يا المنفي

“يا المنفي”.. سفيرة الأغاني الجزائرية في بلدان المهجر

وقد قام المغني الشعبي آكلي يحياتن بتلحين هذه الأغنية، مع مجموعة أخرى من الأغاني الوطنية المشابهة، في أواخر الخمسينيات وأوائل الستينيات، عندما كان معتقلا في سجون الاحتلال الفرنسي، ثم رأت هذه المجموعة النور، ضمن ألبوم قام بتسجيله بعد خروجه من السجن.

وجاء من بعد آكلي مغنّون آخرون، كلٌ غناها بطريقته ولهجته، والتقى الجميع على تضمينها تلك الأحاسيس الوطنية الصادقة، والعواطف الجياشة للشعب الجزائري بكل أطيافه، ممن التقوا على كُرْهِ المحتل ومقاومته.

في المهجر، لا تزال أغنية “يا المنفي” حاضرة في وجدان الجزائريين

وانتشرت الأغنية في الآفاق، وغناها جميع المهاجرين المغاربة، ليس في فرنسا وحدها بل في معظم البلدان الأوروبية التي هاجروا للعمل فيها، وقد كانت الأغنية تحدّيا جريئا لفرنسا، وتذكيرا لها في كل وقت أن الشعب الجزائري لن ينسى الجرائم التي ارتكبها المحتل بحقه. وغناها كثير من أبناء الجاليات العربية في المهجر، على اختلاف منابتهم من مصريين وعراقيين وسوريين.

يا قلبي لماذا تشمئز.. يا المنفي
والحساء هو هو لم يتغير.. يالمنفي
الكأس ملأى بالماء.. يا المنفي
والخنافس تعوم فيها.. يالمنفي