“جيمس ويب”.. ملك السماء يحطم أرقام “هابل” القياسية

يمان الشريف

في النقطة الثانية من نقاط “لاغرانج”، استقرّ تلسكوب “جيمس ويب” الفضائي يتربّص بالكون، ويعمل بهدوء بعيدا عن ضوضاء الأرض وجاره القمر، فلا شيء يؤرقه كما يفعله الضوء، بسبب حساسية عدساته اللاقطة للأشعة تحت الحمراء المنتشرة في الأرجاء.

فبعد مضي نحو عام على إطلاقه، وشهرين على الكشف عن أولى صور ملتقطة بواسطته، استطاع “جيمس ويب” أن يكسب شعبية هائلة، وأن يسحب البساط من تحت أقدام التلسكوب المخضرم “هابل” الفضائي الذي يقف الآن على أعتاب التقاعد بعد أن أمضى أكثر من 30 عاما يوجه عدساته صوب أعماق الكون مانحا إيانا أفضل اللقطات الخالدة في عقولنا مثل صورة “أعمدة التخلق” في سديم النسر وغيرها الكثير.

 

ولعلّها سنّة الحياة في أن لا شيء يدوم، ومن حسن حظ البشرية أنها تفوقت على نفسها في جعل بديل “هابل” أكثر كفاءة وقدرة، كما ينظر المهندسون والصانعون إلى أنّ الجودة قد تضاعفت نحو 100 مرّة عن السابق، وهذا يكشف لنا العمل الكبير الذي وقع خلال السنوات الماضية.

والمقارنة بين الأعجوبتين الهندسيتين هي خير شاهد على براعة العمل، لكن قبل ذلك يجب التنويه بأنّ “جيمس ويب” في الواقع لا يمكن القول عنه إنه الوريث الشرعي لـ”هابل” وذلك لعدة أسباب، أهمها تمركزهما المختلف، والتقنية المستخدمة التي منحته كفاءة إضافية.

نقاط “لاغرانج”.. مستقر التلسكوبات المتلصصة على الكون

في ميكانيكا الأجرام السماوية، كل نظام ثنائي في الفضاء -مثل الأرض والقمر، أو الشمس والأرض- يحتوي وجوبا على 5 نقاط رئيسية يتساوى عندها مجموع قوتي الجاذبية، فتلغي القوتان تأثير إحداهما الأخرى، فينعدم تأثير الجاذبية على أي جسم ثالث إذا ما استقرّ في إحدى هذه النقاط الخمس، ويُطلق عليها نقاط “لاغرانج” نسبة لمكتشفها الرياضي الإيطالي “جوزيف دي لاغرانج” من القرن الثامن عشر.

فعلى بعد مليون ونصف المليون كيلومتر من الأرض، تقع النقطة الثانية من نقاط “لاغرانج” في الجهة البعيدة عن الشمس، حيث يستقرّ بها “جيمس ويب” ينقّب في باطن الكون ويكشف أسراره بصمت بعيدا عن صخب كوكب الأرض.

ولأنها مسافة شاسعة تفصلنا، فقد أُرسِل التلسكوب دون نية العودة إليه مستقبلا، وليست هي المرة الأولى التي يجازف بها العلماء والمهندسون بإرسال شيء دون التخطيط لمراجعته لاحقا، وإلى هذه البقعة على وجه التحديد، فإلى النقطة الثانية أُرسل تلسكوب “هارشل” ومسبار “ولكينسون لقياس التباين الميكروي” (WMAP) وكذلك مسبار “بلانك”.

ويكمن الاختيار الذكي لهذا التمركز في أسبابٍ عدّة؛ فعند هذه المسافة يحدث أن تجتمع الشمس والأرض والقمر في جهة واحدة، فيختصر ذلك على التلسكوب كثيرا من العناء في حماية نفسه من المشتتات الضوئية والحرارية حوله على حدٍ سواء، وذلك بتركيب درع شمسي (Sunshield) في اتجاه واحد فقط، والأمر مهم للغاية بالنسبة إلى “جيمس ويب” لأنه يعمل على التقاط الأشعة الحمراء فحسب، دون غيرها من موجات الأشعة الكهرومغناطيسية، وهذا يعني أن حساسيته عالية للغاية لأيّ ضوء أو حرارة.

صورة لسديم النسر بعدسة جيمس ويب تحت الحمراء (يمينا) وبعدسة هابل للأشعة المرئية (شمالا)

 

والأمر يتعدى الحرارة القادمة من الأجرام السماوية الثلاثة، فحتى حرارة التلسكوب نفسه تؤثر على حساسية العدسات والمستشعرات، لذلك تعد فائدة أخرى للدرع الشمسي البالغة مساحته ملعب كرة تنس أرضي؛ أن يعمل على عزل حراري لشقي التلسكوب عن بعضهما لضمان عمله بأعلى كفاءة، وتتفاوت الحرارة بشكل كبير بين الشقين، فالوجه المقابل للشمس تصل حرارته مستوى غليان الماء، أما الوجه الآخر فدرجة حرارته 233 درجة مئوية تحت الصفر، وهي كفيلة بتجميد غاز النيتروجين.1

كما أنه في حقيقة الأمر لا يبقى التلسكوب ثابتا في موقعه، بل يدور حول موقعه في النقطة الثانية بمدار قطره أكبر من مدار القمر حول الأرض، ويتم دورته مرّة كل ستة أشهر، وذلك لتفادي حدوث كسوف للشمس فيترتب عليه خلل في التوازن الحراري للتلسكوب، أو يتعطل بسبب فقدانه للطاقة الشمسية اللازمة لعمل الأجهزة الإلكترونية.

عدسة “جيمس ويب”.. خلية نحل عملاقة تتفوق على “هابل”

بطبيعة الحال يلعب حجم العدسات دورا محوريا في تجميع الأشعة الكهرومغناطيسية القادمة من الفضاء السحيق، والقاعدة ببساطة كالآتي؛ كلما كان حجم العدسات أكبر، كان مقدار الأشعة الملتقطة أكثر.

ويتضح مدى الفرق الشاسع بين حجم العدسات بين كلا المقرابين، فنجد بأنّ قطر عدسة تلسكوب هابل يبلغ 2.4 متر، وبمساحة إجمالية تبلغ 4.5 أمتار مربعة.

مقارنة بين قطري مرآتي التلسكوبين الفضائيين جيمس ويب وهابل

 

في حين يتكوّن تلسكوب “جيمس ويب” من مجموعة من العدسات سداسية الأضلاع يبلغ عددها 18 عدسة مرتبة على هيئة خليّة النحل، مع وجود مساحة فارغة تتسع لخليّة واحدة في المنتصف، ويبلغ قطر هذه العدسات مجتمعة نحو 6.5 أمتار، مما يعطي مساحة أكبر بكثير (33.2 مترا مربعا) متفوقا على هابل بنحو 7.3 مرات.2

الطيف الكهرومغناطيسي.. التقاط الأشعة القادمة من المجرات السحيقة

يُعد نوع الطيف الكهرومغناطيسي المُلتقط إحدى السمات الهامة، بل هو المحور الأهم في دائرة المنافسة بين المقرابين، وهنا يظهر سبب علو كعب “جيمس ويب” وتقدمه عن أقرانه في كشف دهاليز الكون. وقبل الحديث عن خاصية كلا العدستين، لنتطرق في البداية إلى الحديث عن الأشعة الكهرومغناطيسية بإيجاز.

إن الأشعة الكهرومغناطيسية هي شكل من أشكال الطاقة تصدره الجسيمات المشحونة أو الشحنات المتحركة، وتمتصه كذلك، كما تتمكن هذه الأشعة من السفر والتنقل بالفضاء دون الحاجة إلى وسيط، أي أنها قادرة على الحركة في الفراغ على هيئة موجات، وتقطع هذه المسافات الشاسعة بسرعة الضوء.

إضافة إلى أن الأشعة الكهرومغناطيسية تمتلك خاصية مزدوجة، إذ تتصرف تارة على أنها موجات، وتارة أخرى على أنها جسيمات يُطلق عليها الفوتونات. ويُصنف الإشعاع الكهرومغناطيسي وفقا لتردد موجته، بمعنى آخر، لو نظرنا إلى شريط الأمواج (الأشعة) الكهرومغناطيسية، سنلاحظ تغيرا في الطول الموجي (أو التردد الموجي)، هذا التغيّر هو ما يحدد نوع هذه الأشعة.

فعلى سبيل المثال لا الحصر، عندما نبدأ من الطول الموجي الأطول نجد الأشعة الراديوية، ثمّ الطول الموجي المتوسط نجد الأشعة المرئية وهو الطيف المرئي الذي تبصره عين الإنسان، ثم الطول الموجي الأقصر وهي أشعة غاما. وبين هذه المستويات الثلاث ثمّة عدد من الأطياف الأخرى.

المسافة التي يدور عندها كل من تلسكوبي هابل وجيمس ويب الفضائيين

 

وبالنسبة لتلسكوب “هابل” فإنّ عدساته تعمل على التقاط الأشعة المرئية، تماما كما تعمل عدسات التصوير الاعتيادية، بالإضافة إلى التقاطه للأشعة فوق البنفسجية، وجزء بسيط من الأشعة تحت الحمراء. وبذلك يكون نطاق عمله محدودا للغاية.

أما تلسكوب “جيمس ويب”، فإنّ على متنه 4 أدوات علمية مختصة في التقاط الأشعة تحت الحمراء (القريبة) على نطاق ترددي بين 0.6 و28 ميكرومترا، وكذلك جزء بسيط من الأشعة المرئية الحمراء والصفراء. وهذا يعني الكثير بالنسبة للعلماء، لأن الأشعة تحت الحمراء قادرة على اختراق الغبار الكوني الذي يمنع الأشعة المرئية من العبور، أي أننا في الرؤية نتجاوز جميع العراقيل المرئية، فنرى مشهدا مغايرا تماما لما تبصره الأعين.

فضلا عن رؤية النجوم البعيدة والمجرات الأخرى، فإنّ “جيمس ويب” قادر على التقاط الأشعة القادمة من باطن المجرات، حيث تتموقع الثقوب السوداء فائقة الضخامة، والتي يحيطها سحاب وغبار كوني هائل يحول بيننا وبين رؤية ما يجري في تلك البقعة الفضائية.3

رؤية الأجسام الباردة.. رحلة البحث عن أسرار الكون البدائي

إن من ضمن خصائص تلسكوب “جيمس ويب” رؤية الأجسام الباردة مثل الكواكب، وأيضا تحليل غلافها الجوي كيميائيا وتحديد سماكته ودرجة حرارته وغير ذلك من الخصائص. وهو أحد الأهداف التي أرسل “جيمس ويب” لأجلها، فالبحث عن كوكب آخر صالح للحياة شبيه بالأرض بات أمرا محتما بالنسبة لوكالة الفضاء الأمريكية ناسا بريادة مشروعها “سيتي” (SETI) للبحث عن الكائنات الذكية خارج الأرض.

يمكن لجيمس ويب الوصول إلى العصور الأولى من الكون، حين نشأت المجرات الأولى.

 

وهناك سبب آخر أهم هو البحث عن الخيوط الأولى للكون البدائي وما تبعه من نشأة النجوم والمجرات البدائية، أي عندما كان عمر الكون يتراوح بين 300 مليون إلى مليار سنة. وهنا يمكننا استحضار نظرية “أينشتاين” للنسبية العامة التي تقول إنه بسبب توسع الكون تزداد المسافات بين الأجرام السماوية وتتمدد، مما يدفع المجرات إلى أن تنزاح عن بعضها.

هذا الانزياح في المسافات يدفع كذلك الأشعة الضوئية إلى التمدد في طولها الموجي، فتتحوّل إلى الأشعة تحت الحمراء مع مرور الوقت، وهو ما يُعرف في فيزياء الفلك بخاصية “الانزياح نحو الأحمر” (Redshift)، والسبيل الوحيد لرؤية هذه الأشعة البدائية هو استخدام المستشعرات اللازمة التي يحتويها “جيمس ويب”.

استطاع المهندسون أن يطوّعوا كافة قدراتهم العلمية والتقنية في تصميم تلسكوب “جميس ويب”، ولتكن خلاصة الحديث عن ذلك التفوق في نقطة قد تغيب عن القارئ، وهي في تلك المدة الزمنية التي يستغرقها المقرابان لالتقاط صورة ما. فتلسكوب “هابل” يستغرق أسابيع من عمره لكي يلتقط صورة معينة من الفضاء السحيق، في حين يتطلب الأمر فقط 12 ساعة ونصفا بالنسبة إلى “جيمس ويب” لكي ينجز ذات العمل ويلتقط ذات الصورة، وهذا كفيل بأن ينهي أيّ نقاش يتناول المقارنة بينهما.4

 

المصادر:

[1] محررو الموقع. (2021). مدار جيمس ويب. تم الاسترداد من: https://webb.nasa.gov/content/about/orbit.html

[2] محررو الموقع (2022). جيمس ويب وهابل. تم الاسترداد من: https://www.jwst.nasa.gov/content/about/comparisonWebbVsHubble.html

[3] بيترسن، كارولين (2022). صور جيمس ويب التي تنتظرها: سديم الجبار. تم الاسترداد من: https://www.universetoday.com/157576/the-webb-image-youve-been-waiting-for-the-orion-nebula/

[4] جينو، ماريان (2022). تُظهر الصور جنبًا إلى جنب مدى قوة تلسكوب جيمس ويب الجديد التابع لناسا المتفوق على تلسكوب هابل. تم الاسترداد من: https://www.businessinsider.com/photos-james-webb-vs-hubble-universe-pictures-show-huge-improvement-2022-7