استخراج ماء الشرب.. سعي حثيث لصيد الندى والضباب من السماء

يمان الشريف

ظهر مصطلح “بيوفيليا” على لسان عالم النفس الاجتماعي الألماني “إريك فروم”، في أحد أكثر أعماله شمولية وشهرة، وهو كتاب “تشريح التدميرية البشرية” المنشور في عام 1974، وقد فسّر “فروم” ذلك المصطلح برغبة الإنسان وميله فطريا نحو إنشاء روابط مع الطبيعة وبحثه عن المصادر الداعمة للحياة، كما أنّه فسّر البيوفيليا بأنها الرغبة في الانخراط بمختلف أنماط وأشكال الحياة الأخرى.1

إنّ التزام الإنسان فطريا اتجاه السبل التي تدعم استمرارية الحياة يُعد أمرا غريزيا، لا سيما مصادر المياه الطبيعية، فهي إحدى المقومات الأساسية، هذا إن لم تكن المقوّم الأهم على الإطلاق بالنسبة لجميع الكائنات الحية، والدليل على ذلك هو نشوء الحضارات البشرية السابقة على ضفاف الأنهار مثل الحضارة الفرعونية والبابلية، أو على المناطق الساحلية مثل الحضارة الرومانية وغيرها.

 

ولم يعرف الإنسان منذ القدم أمرا أهم من الماء لاستمرارية الحياة بكافة أشكالها، وأهم ما يتطلع إليه علماء الفلك والفضاء دوما في عملية رصدهم المستمرة هو وجود الماء على سطح أي كوكب آخر.

وعلى الرغم من أنّ كوكب الأرض هو الكوكب الوحيد الذي يحتوي على الماء بحالته السائلة والوحيد في المجموعة الشمسية وفق ما نعلمه حتى هذه اللحظة عن بقية الكواكب، فإنّ نسبة 3% فقط من ماء الأرض تعد صالحة للاستعمال البشري، أما النسبة الباقية من الماء فهي مالحة تحتاج إلى عملية “تحلية ماء” وإزالة الملوحة منها.2

لم يعد الأمر عصيا اليوم على كبرى الدول، بل إنّ الماء المُحلّى والمكرر يُعد أحد معالم دول العالم الحديث، لكنه يحتاج إلى طاقات هائلة بالإضافة إلى منشآت بأحجام ضخمة لتنفيذ عملية كهذه، وهذا ما قد لا يتوفر في كل مكان وزمان.

وقد أشار “بيل بيتمان” الخبير في إدارة المياه في القارة الأفريقية، إلى أنه بحلول عام 2050 ستتضاءل وفرة المياه في 87 دولة وستعاني حينئذ من شح الماء، لذا توجهت بعض الشركات إلى اعتماد طرق أخرى لاستخراج الماء من مصادر غير شائعة وبوسائل مبتكرة، وهذا من شأنه أن يكون سبيلا للنجاة مستقبلا.3

قطر الندى.. تقنيات شعب الإنكا في العصور القديمة

إن عملية استخراج الماء من الهواء، أو من الغلاف الجوي بمعنى أصح، يُعد خيارا بديلا للطرق التقليدية، والفلسفة الرئيسة القائمة عليها هي تكثيف بخار الماء على نحو فعّال من الهواء المحيط الرطب، وقد لا تكون هذه العملية حديثة نسبيا، إذ كان شعب الإنكا يسكنون في مدن ومناطق مرتفعة للغاية، وكانوا يعتمدون على جمع الندى عن طريق صهاريج كبيرة تجمعه وتخزنه، ثمّ توزعه لاحقا بواسطة أسوار مائية بدائية.

مقارنة بين كمية الماء على سطح الأرض (الكرة الكبيرة) وكمية الماء الصالح للشرب (الكرة الصغيرة)

 

لكن اليوم، تختلف طرق تحقيق تلك تقنية من طريقة إلى أخرى، فبعضها يعتمد على لفائف حارة وباردة تغيّر من درجة حرارة الهواء، بحيث يعمل الجهاز على تبريد الهواء إلى درجة حرارة أقل من درجة التكثف أو نقطة الندى، وحينها يتحوّل بخار الماء إلى الحالة السائلة. كما توجد طرق أخرى تعتمد على المجففات أو على الضغط لتحقيق ذات الغرض.

ويمكن تحقيق ذلك، إما باستخدام تقنيات تستند على الطبيعة للقيام بعملها بالاعتماد على فرق درجة الحرارة، أو باستخدام محرّكات وطاقة إضافية لتأدية الغرض.4

حصاد الضباب.. شبكات لاصطياد بخار الماء جنوب المغرب

عند حافة الصحراء الكبرى في جنوب غرب المغرب، تسكن قبائل آيت باعمران، وقد اعتمدوا في سقياهم على المياه الجوفية لقرون طويلة، إلا أنّ تلك المصادر الطبيعية تتعرض اليوم لنقصان حاد بسبب الجفاف الشديد الحاصل مؤخرا، وهذا ما دعا منظمة “دار سي حماد” غير الحكومية إلى تبنّي أكبر مشروع شبكات صيدٍ لبخار الماء في العالم، إذ ينتشر الضباب بكثرة في المنطقة، ويمد المشروع بمياه الشرب 400 شخصا يعيشون في 5 قرى متجاورة، معظمهم من السيدات والأطفال.5

تعتمد تقنية هذا المشروع على شبكات قماشية ذات مسامات دقيقة للغاية، من ألياف البوليثين، تتجمع عليها قطرات الضباب قبل أن يتكثف ثمّ يتجه الماء المكثّف نحو أوعية توجد أسفل الشبكات.

شبكات اصطياد الضباب تعمل بكفاءة عالية في مناطق الضباب

 

وقبل بضع سنوات، استطاع باحثون من جامعة أكرون بولاية أوهايو أن يطوّروا من هذه التقنية ويزيدوا من فعاليتها عن طريق تثبيت خيوط من “البوليمر” معزولة كهربائيا حول معدن الجرافيت ممتدة على عرض الشبك كله، وقد منح هذا التعديل البسيط مساحة إضافية كبيرة للشبكة، وهذا يعني الاستفادة من الضباب بقدر أكبر.

إنّ ناتج الماء المستخرج من هذه التقنية يعادل 180 لترا لكل متر مربع من الشبكة في اليوم الواحد، لكن تكمن مساوئ هذه التقنية في أنّها مرتبطة بكثافة الضباب في الجو، فتكون بذلك محدودة الإنتاج، وإذا لم يوجد الضباب نهائيا، فإنّ الفائدة تنعدم تماما.

تقليص استهلاك الطاقة.. تحديات درجات الحرارة المنخفضة

بطبيعة الحال، فإنّ تكثيف بخار الماء من الهواء يتطلب درجات حرارة منخفضة، وهذا ما قد لا يتوفر في ساعات النهار بوجود أشعة الشمس، ويكمن العلاج في تبريد جهاز التكثيف باستخدام طاقة خارجية، ولا يبدو هذا الأمر فعالا بسبب الطاقة اللازمة.

إنّ الغاية من مثل هذه التقنيات لاستخراج الماء هو تقليص استهلاك الطاقة، مع استغلال ساعات اليوم كله بقدر المستطاع، وهذا ما استطاع تحقيقه المعهد الفيدرالي السويسري للتكنولوجيا (ETH) في زيوريخ، إذ ابتكر الباحثون جهازا يعمل على مدار اليوم معتمدا على سطح ذاتي التبريد بدرع إشعاعي خاص دون استهلاك أيّ طاقة.

يتكون الجهاز من لوح زجاجي مطلي بـ”البوليمر” والفضة ومصمم بشكل خاص لعكس أشعة الشمس وأيضا لتحرير الطاقة التي بداخله إلى الخارج، ولهذا اللوح قدرة على خفض درجة الحرارة إلى 15 درجة مئوية أقل من درجة الحرارة المحيطة به، وفي الأسفل يوجد وعاء لجمع الماء المكثف.

المعهد الفيدرالي السويسري للتكنولوجيا في زيوريخ يطور جهازا ذا سطح ذاتي التبريد بدرع إشعاعي لتكثيف الماء

 

وبين اللوح الزجاجي المطلي والوعاء، توجد طبقة زجاجية مطلية بمادة مقاومة للماء لمساعدة تكوين قطرات الماء وإرسالها إلى الأسفل. وفي الأعلى تقبع الإضافة المهمة، وهي درع إشعاعي مخروطي الشكل، لزيادة حماية جهاز تكثيف الهواء من أشعة الشمس.

وكما أظهرت الدراسات التجريبية، فإن الجهاز قادر على إنتاج ما يصل إلى 53 مليلتر من الماء لكل قدم مربع من سطح لوح في الساعة الواحدة، وفي الظروف غير المثالية يُعد ذلك قدرا ليس سيئا.6

قضبان الكربون المتخلصة من الماء.. اكتشاف بالصدفة

في عام 2016، أعلن فريق من الباحثين في “المختبر الوطني شمال غرب المحيط الهادئ” عن توصلهم لاكتشاف عن طريق الخطأ قادر على إنتاج الماء بطريقة مبتكرة، بواسطة قضبان كربونية بحجم النانوميتر. فمن المعلوم بالنسبة للعلماء أنّ المواد تمتص المزيد من الماء مع زيادة الرطوبة في الهواء المحيط، لكن ذلك ما لم يحدث مع هذه القضبان متناهية الصغر، بل كانت تعمل عكس ذلك بتخلصها من الماء بدلا من امتصاصه عند درجات الرطوبة العالية.

لقد توصل العلماء إلى هذا الاكتشاف بالخطأ حينما أراد المختبر صناعة قضبان نانوية مغناطيسية، وعند إجراء الفحوص اللازمة، تبيّن لهم أنّ هذه الأجسام تفقد الوزن مع زيادة الرطوبة. ومع مراقبة الحالة بالمجاهر والعدسات المكبرة، تبيّن لهم ظهور قطرات مائية من بين الأعمدة النانوية، قبل أن تتبخر في نقطة ما.

إنتاج الماء بواسطة قضبان كربونية نانوميترية

 

وبمزيد من البحث استطاعوا العثور على أوراق بحثية تعود إلى عشرين سنة إلى الوراء، وتكشف عن سر تبخر الماء عندما يتسع الحيّز الذي تتشكل به قطرات الماء بين تلك الأعمدة النانوية إلى عرض 1.5 نانوميتر.7

إنّ معدل 10-20% فقط من هذه الأعمدة قادر على احتضان قطرات الماء، وما زال العلماء في دور البحث لزيادة فعالية هذه التقنية المكتشفة حديثا، ومهما كانت النتائج، فإن هذه الأعمدة النانوية قادرة على إنتاج الماء حتى في الظروف الصحراوية القاسية.

قطب المريخ.. مخزن الماء المتجمد على جار الأرض

جزءٌ من البحث العلمي الذي يهتم باستخراج الماء بسبُل غير مألوفة يتضمن كذلك الجانب البعيد من الأرض، في الفضاء الخارجي وعلى أسطح الأجرام السماوية بالتحديد، ويُعد التوسع البشري في الفضاء الخارجي أحد المخططات المستقبلية، سواءً في القريب العاجل أو بعد مئة عاما، فكما خطا الإنسان يوما على القمر، فإنّه يستطيع فعل ذلك على سطح كوكب المريخ الذي يُعد مجديا أكثر من غيره من الكواكب، بسبب مقومات الحياة على سطحه.

صحيح أنّ ما شوهد في السابق من كميات كبيرة من الماء المتجمد تحت سطح المريخ عند قطبيه تقدّر كميتها بـ5 مليون كيلومتر مكعب؛ تبدو نقطة إيجابية لاستعمار الكوكب الأحمر، لكننا ما زلنا بعيدين كلّ البعد عن الاستفادة من الماء بحالته المتجمدة.8

قطب كوكب المريخ الجنوبي الغني بالجليد والماء

 

لذا فمحاكاة الوسائل التي تطرقنا إليها على سطح الأرض لاستخراج الماء من الهواء، ستبدو مرغوبة على سطح المريخ، على أن نضع بعين الاعتبار الفروقات الشاسعة بين تركيب وسماكة الغلاف الجوي على كلا الكوكبين.

وبالنظر إلى مكونات الغلاف الجوي للمريخ نجد أنه تمثله الغازات وفق النسب التالية: 95% من ثاني أوكسيد الكربون، و3% نيتروجين و1.6% أرغون، وبالإضافة إلى نسب ضئيلة من الأوكسيجين وغازات أخرى، وهنا يكمن التحدي الأكبر.

“مفاعل امتصاص بخار الماء”.. حصاد الهواء المريخي

مرت بنا سنوات طويلة تخللها عمل دؤوب ومحاولات حثيثة لابتكار أول جهاز قادر على إمداد الرحلات البشرية على سطح المريخ بالمياه الصالحة للشرب، على أن لا يستهلك الكثير من الطاقة ولا يشغل حيّزا كبيرا في أثناء عملية نقله وتنصيبه، لتفادي التكلفة الباهظة.

وفي تسعينيات القرن الماضي، أقدم فريق تابع لجامعة واشنطن في ولاية واشنطن على اختراع جهاز قادر على استخراج الماء من الغلاف الجوي للمريخ مطلقين عليه “مفاعل امتصاص بخار الماء”، ويسمى اختصارا “وافار”، وتعقد عليه آمال كثيرة لبساطة تركيبه وفعاليته العالية.

وتعد عملية الامتصاص الكيميائي تقنية حديثة نسبيا، وهي عملية فصل الجزيئات بمناخل دقيقة للغاية توجد على طبقة من “الزيوليت”، وهو نوع من أحجار سيليكات الألمنيوم، ويتميز بأنّه عالي المسامية ويستخدم في عملية الامتصاص الكيميائي.

أجهزة مبتكرة لتوفير الماء من الغلاف الجوي على سطح المريخ

 

إنّ عملية الامتصاص بحد ذاتها لا تحتاج إلى طاقة، لكن تحريك وإزالة الجزيئات الممتصة تتطلب جزءا من الطاقة، إضافة إلى استخدام مروحة خارجية لتوجيه الهواء “المريخي” نحو المناخل. وتحت الظروف المثالية لكوكب المريخ بدرجة حرارة عليا تبلغ 20 تحت الصفر، وضغط جوي يصل إلى 800 باسكال، ونسبة رطوبة 0.06%؛ فسوف يستهلك من الطاقة 4.9 كيلو واط-ساعة لكل كيلوغرام واحد من الماء.9

ولتزويد الجهاز بالوقود اللازم، كان لا بد من استخدام محطة مخصصة للقيام بـ”تفاعل ساباتييه”، بالإضافة إلى عملية “التحليل الكهربائي” لإنتاج الميثان والأوكسيجين من غاز ثاني أوكسيد الكربون الموجود بكثرة في الغلاف الجوي، وهذا من شأنه تزويد الجهاز بالوقود اللازم بالإضافة إلى الماء، وهذه العملية ذاتها مستخدمة على متن محطة الفضاء الدولية.

إنّ جهاز “وافار” قادر على استخراج الماء من بخار الماء، في ظل ظروف قاسية وفي بيئة ينتشر بها غاز ثاني أوكسيد الكربون، لكن بالطبع لن يكون الأمر مناسبا وكافيا على نطاق واسع مثل عمليات الرّي أو إدارة محركات المصانع الضخمة على سطح المريخ.

 

المصادر:

[1] روجرز، كارا (التاريخ غير معروف). فرضية البيوفيليا. تم الاسترداد من: https://www.britannica.com/science/biophilia-hypothesis

[2] محررو الموقع (التاريخ غير معروف). مياه الأرض. تم الاسترداد من: https://olc.worldbank.org/sites/default/files/sco/E7B1C4DE-C187-5EDB-3EF2-897802DEA3BF/Nasa/chapter1.html#:~:text=Of%20all%20the%20water%20that,is%20deep%20underground%20in%20aquifers.

[3] باجيو، جويلاما (2021). شح المياه ستحدث قريبا. تم الاسترداد من: https://www.ipsnews.net/2021/07/water-scarcity-coming-soon/

[4] ماكفادين، كريستوفر (2021). فيما يلي أكثر الطرق تقدمًا لاستخراج كمية وفيرة من الماء من طبقة الهواء الرقيقة. تم الاسترداد من: https://interestingengineering.com/everything-you-need-to-know-about-air-to-water-devices?utm_source=Facebook&utm_medium=Article&utm_campaign=organic&utm_content=Dec17&fbclid=IwAR3dnODToxG3vdBLs8bDOyaB0mLtlq7ofkHL5idUCZ4LHwbc6IGW8-Nfmy0

[5] محررو الموقع (التاريخ غير معروف). حصاد الضباب بقيادة النساء من أجل نظام إيكولوجي مرن ومستدام. تم الاسترداد من: https://unfccc.int/climate-action/momentum-for-change/women-for-results/women-led-fog-harvesting-for-a-resilient–sustainable-ecosystem

[6] برجامين، فابيو (2021). حصاد مياه الشرب من الرطوبة على مدار الساعة. تم الاسترداد من: https://ethz.ch/en/news-and-events/eth-news/news/2021/06/harvesting-drinking-water-from-humidity.html

[7] إريفينج، مايكل (2016). عن طريق الخطأ، توصل العلماء إلى قضبان نانوية تجمع الماء من الهواء. تم الاسترداد من: https://newatlas.com/accidental-nanorods-harvest-release-water/43833/

[8] براون، دواين (2015). تشير أبحاث ناسا إلى أن المريخ كان يحتوي على مياه أكثر من المحيط المتجمد الشمالي للأرض. تم الاسترداد من: https://www.nasa.gov/press/2015/march/nasa-research-suggests-mars-once-had-more-water-than-earth-s-arctic-ocean

[9] كزنز، ستيفين، وويليامز، جون، وبروكر، آدم (1996). ورقة بحثية: دراسة تجريبية لمفاعل امتصاص بخار الماء للمارس في استخدام موارد الموقع. تم الاسترداد من: https://www.lpi.usra.edu/meetings/isru97/pdf/2510.pdf


إعلان