“الدول المارقة”.. نظام دولي على مقاس القبعة الأمريكية

خاص-الوثائقية

يمكن استخدام مصطلح الدول المارقة من منطلقيْن، أما الأول منهما فهو دعائي، ويطلق على الدول الأعداء، وأما الثاني فهو موضوعي يطلق على الدول التي لا تتقيد بالأعراف الدولية، وعلى هذا فالمنطق يقول إن الدول القوية تكون في الغالب ضمن التصنيف الثاني، الأمر الذي يكون ممنوعا داخليا ويثير حفيظة هذه الدول، وهو ما يؤكده التاريخ دائما.

 

في حلقة مثيرة من حلقات برنامج “خارج النص”، فتحت قناة الجزيرة الفضائية ملف الفيلسوف الأمريكي المعاصر “نعوم تشومسكي”، وكتابه المثير للجدل “الدول المارقة”، واستضافت لهذه الغاية المؤلف نفسه، إلى جانب ثلة من الباحثين والمحللين لإلقاء مزيد من الضوء على هذا الكتاب الذي أحدث ضجة كبيرة داخل الولايات المتحدة كما في خارجها.

“نعوم تشومسكي”.. ثورة الفيلسوف اليساري على السياسة الأمريكية

يعتبر “نعوم تشومسكي” من أكثر الفلاسفة المعاصرين انتقادا لسياسات الولايات المتحدة الأمريكية، ويصنف كتابه “الدول المارقة” على أنه الأكثر جدلا في الأوساط الأمريكية، وقد واجه الكاتب بسببه نقدا لاذعا من اليمين الأمريكي، بينما رأى آخرون أن الكتاب تناول حقيقة لم يجرؤ كثيرون على التطرق إليها.

نعوم تشومسكي أستاذ اللسانيات بمعهد إم آي تي وفيلسوف أمريكي ومؤرخ وناقد وناشط سياسي وله العديد من المؤلفات

 

تتداول النخب السياسية في الولايات المتحدة مصطلح “الدول المارقة” على نطاق واسع، وغالبا ما تقصد به تلك الدول التي تفرض قيودا على حقوق الإنسان أو تسعى لتطوير أسلحة دمار شامل، ولكن “تشومسكي” تناول هذا المصطلح من منظور أبعد من ذلك، وتحدى الوصف الشائع، ليخلق سجالا سياسيا قسّم الرأي العام الأمريكي.

“الدول المارقة”.. كتاب يكشف الحقائق للرأي العام الأمريكي

يقول “تشومسكي” عن كتابه: كتبت هذا الكتاب في وقت كان الحديث فيه رائجا عن الدول التي تتحدى القانون الدولي، وتمارس العدوان بحرية، وكانت بالطبع هي الدول التي تعادي أمريكا، ولكنني أردت أن يعرف الرأي العام الأمريكي والعالم أجمع، أن أمريكا هي نفسها عنوان العنف في العالم، وأنها كانت وما زالت تمارس التسلط والتعذيب ضد الإنسان في مناطق كثيرة من العالم.

كتاب “الدول المارقة” (سنة 2000) أثار جدلا واسعا في الأوساط السياسية والمثقفة في أمريكا

 

ويرد عليه د. “ديفي بوليك” مدير منتدى فكرة، وهو بالطبع يمثل وجهة النظر اليمينية: أشخاص مثل “تشومسكي” انتقائيون للغاية، ويبحثون دائما عن الأمور السيئة المتعلقة بالسياسة الخارجية، ويبالغون في تضخيمها، ويُغفلون فكرة أن هذه الأشياء ربما تكون عن غير قصد، وأنها تحدث في دول أخرى كثيرة، وليس في أمريكا وحدها.

أما د. نبيل خوري، وهو مسؤول سابق في الخارجية الأمريكية فيعتبر أن “تشومسكي” أحد أهم كتّاب القرن العشرين وبدايات الـ21، وهو من المنظرين الأخلاقيين في شؤون السياسة الدولية، ويتناول في كتابه معنى الدولة المارقة بشكل علمي موضوعي، ويطبقه على الجميع، بما فيهم الولايات المتحدة.

حفظ المصالح الأمريكية.. ذريعة خرق القانون الدولي

في سياق مبررات ظهور مصطلح الدول المارقة يقول د. “إنديرجيت بارمار” أستاذ السياسة الدولية بجامعة لندن: ظهر مصطلح الدولة المارقة في نهاية الحرب الباردة وانتهاء التهديد السوفياتي لأمريكا والغرب، وكان على الولايات المتحدة أن تجد لنفسها ذريعة من أجل شن الحروب والتدخل في الدول، للحفاظ على مكانتها الدولية، بحيث تصطبغ الدول التي لا تنقاد للسياسة الأمريكية بلون الدولة المارقة.

بوش الأب والابن يرتكبان جرائم حرب وإبادة بدعوى الدول العربية والإسلامية المارقة

 

ثم يعود د. “بوليك” لتبرير السلوك العدواني لأمريكا في العالم بقوله: ينتقد “تشومسكي” الولايات المتحدة لأنها لا تلتزم بالقانون الدولي دائما، والحقيقة أن جميع الدول لا يمكنها الالتزام بكل حذافير القانون الدولي، ولا توجد دولة قادرة على فرض هذا القانون على الآخرين، كما أن مصطلح “القانون الدولي” نفسه غير واضح المعالم ومحدد الأطر دائما وفي كل البلدان.

من جهته يدافع العميل السابق في وكالة الاستخبارات المركزية (CIA) “غلين كارل” عن سياسات بلاده الخارجية بقوله: من السهل انتقاد بعض سياسات الولايات المتحدة الخارجية، لكن لا يمكن وصفها بالدولة المارقة. صحيح أن الولايات المتحدة تتصرف بلا رحمة أحيانا للحفاظ على مصالحها في العالم، ولكنها ليست بالدولة المارقة التي لا تتقيد بالمعايير الدولية بالكلية.

“الفضيلة المطلقة”.. عصا الطغاة التي يؤدبون بها العالم

يتحدث “تشومسكي” بجرأة عن مصطلح “الفضيلة المطلقة” الذي تستخدمه أمريكا لتبرير تصرفاتها الخارجية قائلا: من السهل أن يدعي أحدٌ ما الفضيلة المطلقة، وينبري لتطبيقها على الآخرين، وهذا ما فعله “ستالين” و”هتلر” من قبل، وتحاول الولايات المتحدة أن تصنعه حاليا، ولكن ما هي هذه الفضيلة المطلقة؟ وهل يتفق الآخرون معنا على معاييرها؟

وفي واقع الأمر فإن أمريكا تتحرك خارجيا من خلال مصالحها الذاتية ومصالح حلفائها الذين يدورون في فلكها. يؤكد هذه الحقيقة الدكتور “بارمار” بقوله: إن الولايات المتحدة -بصفتها مركز النظام العالمي- ترى لزاما عليها أن تحفظ الأمن والسلم الدوليين، وتمنع دولا مارقة تهدد النظام العالمي، وهي في حقيقة الأمر تحمي مصالحها ومكاسب حلفائها حول العالم.

أقوال مختارة من كتب تشومسكي تصف الحالة العالمية للمتسلطين

 

وفي هذا الصدد يوضح الكتاب أن واشنطن دعمت انقلابات عسكرية وأنظمة مستبدة، وقوضت حكومات ديمقراطية، وقصفت دولا بالقوة المفرطة، دون محاولة البحث عن خيارات سلمية أخرى. ولذا يرى “تشومسكي” أن أمريكا تستثني نفسها حين تتحدث عن دول أخرى خارجة على القانون، تلك الرؤية التي كانت صادمة لليمينيين.

ويرى الكتاب أن أمريكا التي تزعم حماية الديمقراطية في العالم، إنما تدعم أشكالا معينة منها، وفي تلك الدول التي تحتفظ بعلاقات طيبة وطويلة مع واشنطن، وتعمل على تقويض التجارب الحقيقية بالقوة الغاشمة، لمجرد أنها لا تدور في فلك مصالحها، ويظهر ذلك جليا في قمع الثورات التحررية في بعض دول أمريكا اللاتينية ووصفها بالمارقة.

قصف التلفزيون الليبي.. أساليب تأديب الدول المارقة على واشنطن

يستعرض “تشومسكي” في ثنايا كتابه الأسباب والأمثلة التي دعته إلى وصف بلاده بالدولة المارقة. فقد كانت ليبيا خيارا مفضلا لهذا الوصف أثناء ولاية الرئيس “ريغان”، فاختارت أمريكا هذه الدولة الضعيفة لصب جام غضبها عليها بوصفها داعمة لنيكاراغوا (المارقة)، لذا قامت بتدبير أول قصف تاريخي لمحطة التلفزيون الليبي، في الوقت الذي كان هذا الجهاز فيه أقوى وسيلة لحشد الدعم للإرهاب الأمريكي على نيكاراغوا.

حادثة لوكربي الشهيرة (1988) التي اتهمت ليبيا بالضلوع بها كدولة مارقة خارجة عن النظام الدولي الأمريكي

 

كان الغرب يعتبر ليبيا دولة مارقة تدعم الإرهاب الدولي، وتستهدف مصالح الكتلة الغربية والولايات المتحدة، ومثل ليبيا ذكر “تشومسكي” دولا أخرى مثل كوبا وفيتنام وأفغانستان وإندونيسيا، وبحث باستفاضة علاقة أمريكا مع العراق. وهنا لا بد من الوقوف على نظرة الأمريكيين لغزو بلادهم للعراق.

يرى فريق من الأمريكيين أن غزو العراق كان كارثيا بجميع المعايير وعلى كافة الصعد، بينما يرى فريق آخر أن التدخل الأمريكي في العراق كان لحماية المدنيين من الديكتاتوريات المتسلطة، حصل هذا في الشرق الأوسط وفي جنوب آسيا، كانت مهمات إنسانية أحيانا، واتخذت أشكالا أخرى كذلك، وكلها في إطار حماية المصالح الأمريكية في تلك المناطق.

الاحتلال الصهيوني.. راعي السلام يدعم الطرف المتسلط

يتطرق “تشومسكي” في كتابه إلى ادعاءات الولايات المتحدة أنها تطبق القانون الدولي في سياستها الخارجية، ولكنه يذكر أمثلة صارخة على سكوت واشنطن تجاه انتهاكات حلفائها لحقوق الإنسان، وبالخصوص ما يحدث للفلسطينيين على أرضهم من قبل قوات الاحتلال الصهيوني، مثل القتل خارج إطار القانون، والتعذيب الممنهج والسجن دون تهمة وهدم البيوت.

الانتهاكات الصهيونية المستمرة ضد الشعب الفلسطيني تغض أمريكا الطرف عنها كون إسرائيل ربيبتها في الشرق الأوسط

 

في هذا الشأن تحاول الولايات المتحدة التملص من مسؤولياتها كراعية لعملية السلام في الشرق الأوسط، وبدلا من اقتراح الحلول الملزمة، فإنها تدعم الطرف القوي المتسلط ضد الطرف الضعيف الأعزل، وتنهال مليارات الدولارات وأحدث الأسلحة الفتاكة سنويا على إسرائيل بحجة (تأديب) الدول المارقة في الشرق الأوسط.

“كل الخيارات متاحة”.. شرطي العالم يخرق الدستور الأمريكي

لم يقتصر “تشومسكي” على انتقاد الولايات المتحدة في سياستها الخارجية، بل تعدى ذلك إلى شنّ هجوم متواصل على سياساتها الداخلية كذلك، حتى صار يوصف باليساري المتطرف والمعارض لسياسات بلاده. وهو الأمر الذي عرّضه للكثير من النقد والهجوم من قبل خصومه اليمينيين.

ويختم “تشومسكي” حديثه بالتعليق على الحالة الإيرانية، فيقول: لم يفشل أي رئيس أمريكي في استخدام القوة أو التهديد بها من طرف واحد، ودون أدنى رادع، وعندما يقول الرؤساء المتعاقبون إن جميع الخيارات متاحة تجاه إيران فهم يعنون تماما ما يقولون، بما في ذلك استخدام الأسلحة النووية لردع خصومهم، وهذه بالطبع جرائم لا تنتهك القانون الدولي فحسب، بل والدستور الأمريكي كذلك.


إعلان