أسرار بلوتو.. رحلة إلى كوكب غامض في أطراف المجموعة الشمسية

خاص-الوثائقية
بلوتو هو ذلك الحلم البعيد الذي راود العلماء منذ بدايات القرن العشرين، أما قبل ذلك فلم يكن شيئا مذكورا أصلا، ذلك أن أكثر التلسكوبات تقنية في الماضي لم يكن بمقدوره مشاهدة ما هو أصغر من الكواكب العملاقة مثل زحل والمشتري والمريخ.
لكن فطرة الإنسان المبنية على حب الاستكشاف ظلت تركض خلف فضولها إلى أن دلّها على هذا الكوكب الصغير في أقصى أطراف مجموعتنا الشمسية.
واستكمالا لسلسلة وثائقيات “أسرار المجموعة الشمسية”، فقد بثت قناة الجزيرة الوثائقية هذه الحلقة عن الكوكب القزم “بلوتو”، واستعرضت فيها جهود العلماء والباحثين، وإسهامات وكالة الفضاء الأمريكية (ناسا)، والبرامج البحثية التي أشرفت عليها الجامعات الكبرى والمعاهد، وشاركت فيها ثلة من ألمع طلابها، وقدمت خلالها الأوراق البحثية والمشاريع التقنية لاستكشاف هذا الكوكب البعيد.
نبتون وأورانوس.. كوكب مستلقٍ وآخر بارد معتم
عند الحافة البعيدة من المجموعة الشمسية حيث لا يصل إلا القليل من أشعة الشمس، هنالك عالم كامل لم يستكشفه البشر إلا في وقت قريب، إنه بلوتو، “إيفرست” المجموعة الشمسية، فهو الأبعد والأبرد والأصعب منالا، والذهاب إليه يعني اكتشاف عالم جديد في ما وراء المجموعة الشمسية.
أطلقت مركبة فوياجر-2 في أغسطس/آب 1977 لاستكشاف نبتون وأورانوس، وكانت الصور الأولى لأورانوس مملة بعض الشيء، فهو كوكب مختلف يدور حول نفسه وهو مستلق على جانبه، على خلاف الكواكب الأخرى، هل وقع له حدث معين جعله يفعل هكذا؟ لا أحد يعلم.
وفي سبتمبر/أيلول 1989 كان العالم على موعد مع نبتون، وهو كوكب بارد ومعتم، لكنه أكثر تشويقا من أورانوس، غلافه أزرق اللون مع غيوم داكنة، لكن أهمَّ ما في نظام نبتون هو قمره الكبير تريتون. فسطحه يشبه الشمع المنصهر، ويبدو أنه عالم شديد النشاط، وغياب الفوهات النيزكية يدل على أن النشاط حديث، وهنالك انبعاثات من الدخان الأسود تخرج من إحدى الحفر، مما يعني وجود نشاط جيولوجي.

بعد النجاح الباهر لمركبة “فوياجر” في عبور المجموعة الشمسية، أصدر البريد الأمريكي مجموعة من الطوابع على كل منها صورة لكل مركبة مع الكوكب الذي وصلت إليه، ولكن بلوتو صُوّر وحيدا دون مركبة، وهناك صار التحدي القادم: يجب أن نزور بلوتو، المهمة القادمة هي زيارة بلوتو.
“كلايد تومبو”.. فلكي يكتشف جسما غامضا يتحرك في السماء
كانت بداية الطريق إلى بلوتو مع “كلايد تومبو”، وكان ذلك عندما كانت الولايات المتحدة تعاني من كساد خانق. فقد نشأ “تومبو” في كانساس خلال الكساد الكبير، وكان في طفولته شغوفا بالفلك، فعلّم نفسه بنفسه معتمدا على المكتبة المحلية، وفي 1928 صنع تلسكوبا من العمود المرفقي لسيارة قديمة وبعض المعدات من المزرعة.

كان حلم “تومبو” أن يصبح عالم فلك، لكنه لم يكن يملك فكرة حول كيفية مغادرة المزرعة في زمن الكساد. يقول: “كنت مهتما بالمعرفة، وكنت أحب مراقبة السماء، ولذلك رسمت المريخ والمشتري”. أرسل “تومبو” رسوماته إلى مرصد لويل في أريزونا، ونالت رسوماته الإعجاب، فعُرض عليه العمل هناك، وكانت وظيفته البحث عن كوكب آخر بعد نبتون.
استخدم “تومبو” التلسكوب في رقعة صغيرة من السماء على ألواح زجاجية، ودرس الصور على آلة خاصة لعله يرصد الكوكب الغامض، وبعد عام من العمل المضني ضاعت جهوده سدى، لكنه صمم على النجاح، وفي فبراير/شباط 1930 وأثناء مقارنة صور ملتقطة بفارق 6 أيام لاحظ جسما متحرِّكا، ونظر مرة أخرى وصوّر الرقعة نفسها مرة ثالثة، وعندئذٍ أدرك أنه اكتشف كوكبا تاسعا وراء نبتون.
حركة بلوتو السرية.. خطة لغزو أطراف المملكة الشمسية
بعد “تومبو” بعدة عقود، أدركت مجموعة من الشباب أن وكالة الفضاء الأمريكية ناسا تصب جهودها في بوتقة المركبات المتطورة الكبيرة مثل فوياجر وكاسيني، ولا تعير انتباها لمركبة صغيرة تغزو الكوكب الأخير بلوتو، فتداعى هؤلاء الشباب لمساءلة ناسا عن سبب امتناعها عن زيارة آخر الكواكب، وهكذا نشأت حركة سرية من الأفراد الراغبين في دراسة بلوتو، سميت “حركة بلوتو السرية”.

أجرت حركة بلوتو السرية دراسة حول إمكانية إرسال مركبة صغيرة إلى بلوتو، ولكن صعوبات كثيرة ومعوقات ضخمة كانت تواجههم في تنفيذ مشروعهم الريادي، فمن مشكلة الدعم إلى المشاكل التقنية، إلى مراحل التفاوض العسيرة مع أعضاء وكالة ناسا الذين كانوا يعرضون عليهم هذه الفكرة “المجنونة”.
استمرت أبحاث العلماء الشباب في البحث عن الكوكب المجهول، وأدت دراساتهم على مدى بضع سنين إلى أن بلوتو ليس جرما منفردا يهيم على وجهه في أطراف المجموعة الشمسية، والحقيقة أنه أكبر عضو في مجموعة هائلة من الأجسام، في ما يعرف بـ”حزام كايبر”، وهي تقوم بدور بالغ الأهمية في تفسير كيفية تشكُّل المجموعة الشمسية.
الاستعانة بالجاذبية.. كوكب المشتري يساهم في اختصار الرحلة النائية
قدم تلسكوب هابل أول صورة لبلوتو، وتكونت الصورة من (8-بكسل) فقط، بواقع بكسل واحد لكل 390 كيلومترا مربعا من سطح بلوتو، أما في إطار مشروع نيوهورايزنز فسيتحول بلوتو من نقطة مضيئة إلى عالم مدهش، وسيتمكن العلماء من تكوين الخرائط لسطحه، حيث وضعت المركبة سنة 2006 على أكبر صاروخ متوفر لدى ناسا آنذاك وهو أطلس-5، ووضعوا عليها طابعا بريديا وحفنة رماد من رفات “تومبو”.

حلّقت نيوهورايزنز حول المشتري، واستفادت من حيلة تدعى “الاستعانة بالجاذبية”، حيث يتحرك المشتري في مداره وتحلق المركبة بمحاذاته ويسحبها المشتري إليه، ثم ينحني في مداره ويواصل كلّ منهما طريقه، وهذا اللقاء يمنح دفعة إضافية لسرعة نيوهورايزنز، لتختصر سنوات من الرحلة من تسع إلى ثماني سنوات للوصول إلى بلوتو.
وقد لجأ العلماء إلى أسلوب “السبات”، وهو إطفاء المركبة ليوم واحد في البداية ثم لأسبوع ثم لبضعة أسابيع، وهذا إجراء ضروري لمنع تلف المعدات قبل وصولها إلى وجهتها، ولزيادة احتمالية تشغيلها إذا كانت مطفأة معظم الوقت وتنبعث منها إشارة خافتة عند التشغيل.
عيد الاستقلال الأمريكي.. احتفالات موازية للتحليق حول بلوتو
نظرا لطبيعة التحليق القريب، سيلقي العلماء نظرة فاحصة على أحد نصفي بلوتو، أما النصف الثاني فلن يستطيعوا رؤيته بوضوح، وقد كانت الفكرة هي التقاط الصور باستخدام تلسكوب هابل الفضائي، ووضع خارطة للعمل، لكن بلوتو بعيد جدا وصغير للغاية، ويصعب على المركبة الحصول على أي معلومات عنه.
ولهذا فقد احتاج تصميم الخرائط إلى معالجة الحاسوب لمدة ست أو سبع سنوات، وكان الناتج خريطة هي أفضل المتاح قبل وصول المركبة إلى هناك، وبفضلها يمكن توجيه المركبة، هناك رقعة معينة على بلوتو تعدّ الأكثر سطوعا فيه، وبجوارها واحدة من أكثر المناطق إعتاما على سطح الكوكب، ويمكن مشاهدة المنطقة الواصلة بينهما وكذلك المناطق القطبية الشمالية.

في يوليو/تموز 2015 كانت رحلة نيوهورايزنز إلى بلوتو في سنتها التاسعة، ولم يبق سوى عشرة أيام للوصول إلى الكوكب. وبينما كانت الولايات المتحدة تحتفل بعيد استقلالها، كانت مديرة العمليات “أليس باومن” تستعد لتحويل سلسلة الأوامر التي ستوجه حركة نيوهورايزنز للتحليق بالقرب من بلوتو.
عوائق تصنع نكهة الانتصار العظيم.. ثمار 26 عاما من العمل
هناك عدد من البوابات المنطقية التي يجب عبورها عند التواصل مع المركبة الفضائية؛ في البداية تغلق البوابة الأولى ثم الثانية فالثالثة، وهكذا تنفَّذ عملية القياس عن بُعد، لكنْ حدث ما لم يكن متوقعا، فقد أغلقت البوابة الأولى ثم الثانية، وقبل إغلاق الأخيرة انقطع الاتصال بالمركبة لأكثر من ساعة قبل أن يعيد الفريق الاتصال مع نيوهورايزنز.
لم تنته الصعوبات بإغلاق البوابة الثالثة، فقد أرسلت المركبة تقريرا غير مباشر عن حالتها أثناء انقطاع الاتصال، إذ أنها أعادت تحميل ذاكرة الحاسوب وأعادت تشغيل نفسها، ونتج عن ذلك فقدان كافة البيانات المخزنة لديها. ولم يكن أمام الفريق سوى ثلاثة أيام لإعادة كتابة أوامر التحليق القريب وتحميلها على المركبة، وإلا فإن نيوهورايزنز ستضل طريقها إلى بلوتو.

وعلى مدار الأيام الثلاثة التالية عمل الفريق كل ما في وسعهم من أجل استعادة البرمجيات الضائعة، وإعداد برامج تعويضية من أجل استعادة الأوامر الأساسية، وكان ذلك يحتاج تسع ساعات (بسرعة الضوء) حتى يصل الرد من المركبة، وكان على الفريق أن يواصل العمل دون نوم حتى لا يضيع جهد تسع سنوات هباء. وبالفعل انتقلت المركبة إلى مسارها المقرر للتحليق القريب وتكللت جهود الفريق بالنجاح.
فور وصول أوامر التحليق القريب توجهت المركبة صوب بلوتو. وفي يوليو/تموز 2015 أرسلت نيوهورايزنز إشارة إلى الأرض بنجاحها في التحليق قرب بلوتو، لكن الفريق انتظر تسع ساعات إضافية بسبب المسافة الشاسعة بين الأرض وبلوتو، لمعرفة ما إن كانوا قد نجحوا في تصوير ذلك الجزء النائي من العالم.
وأخيرا وصلت الصورة وعرضت على الشاشة؛ كان جمالها مدهشا، وهم ينظرون إليها في ذهول.
سطح بلوتو.. عالم جيولوجي نشط يخبئ أحلام الحياة
في عام 1989 أطلق فريق من العلماء الشباب حملة لإرسال مركبة إلى بلوتو، لكي يرى العالم ذلك الجرم الذي لم يستطع البشر رؤيته، وبعد 26 عاما تمكنوا من تحقيق هدفهم، وجعلوا ذلك من أكثر الإنجازات تفردا في تاريخ السفر إلى الفضاء، لقد كان حدثا استثنائيّا، فنحن أمام عالم جديد تماما.
وكما كشفت فوياجر في ترايتون قمر نبتون، فقد أظهرت صور نيوهورايزنز وجود عالم نشط جيولوجيا في بلوتو؛ جبال ووديان وكتل جليدية، وجميعها تدل على وجود نشاط على السطح. كان ذلك مذهلا، جبال تضاهي جبال روكي في ضخامتها. إن بلوتو هو أفريست المجموعة الشمسية بحق.

تظهر الصور معلما لامعا يشبه القلب على سطح بلوتو، يبلغ طوله 1600 كيلومتر، وهو يتكون من النيتروجين المتجمد، وقد يكون هيكله مدعوما بالمياه تحت سطحه، وإذا وجد الماء فهناك فرصة لظهور الحياة. ألن يكون من المثير لو أمسى بلوتو واحدا من مواقع المجموعة الشمسية التي توجد فيها أو كانت فيها حياة؟ حتى لو كان ذلك في الأطراف البعيدة للمجموعة الشمسية.
حزام كايبر.. أسرار تكون الأجرام العظمى بالمجموعة الشمسية
ومع مغيب الشمس خلف بلوتو شوهدت حلقة كبيرة في السماء الزرقاء، سديمٌ في أعالي الغلاف الجوي، تابعت نيوهورايزنز رحلتها إلى حزام كايبر، وبعد ثلاث سنوات ونصف، وفي مطلع عام 2019 وصلت إلى جرم صغير في حزام كايبر يدعى “آروكوث”، وُجد هذا الجرم المعقد على بعد 1.6 مليار كيلومتر بعد بلوتو، وهو يصنف ضمن فئة فريدة من الأجرام في حزام كايبر بعد كوكب نبتون.

تضم هذه الفئة ما يسمى الأجسام السماوية الباردة، وهي تتحرك حول الشمس في مدارات دائرية منتظمة، وتسير بالتوازي مع بعضها ونادرا ما يحدث تصادم بينها، ومن الواضح أنها في هذه المدارات منذ نشأة المجموعة الشمسية وهذا ما يمنع التداخل في مداراتها، إنها اللبنات الأساسية للمجموعة الشمسية، والأجرام التي لم تلتحم بكواكب عملاقة، ولذا ظلت تسبح في الجزء المتجمد من النظام الشمسي.
كشفت الصور أن آروكوث يتكون من جسمين متصلين ببعضهما، يندمجان ببطء شديد، وهكذا تتجمع أجسام صغيرة وتتصل ببعضها برفق حتى تلتصق دون أن يدمر أحدها الآخر، وهكذا يتكون جسمٌ أكبر حجما إلى أن يبلغ شيئا كحجم الأرض، إنها المرة الأولى التي يشاهد البشر فيها كيف تكوّنت الأجرام العملاقة في مجموعتنا الشمسية، بل وفي الأكوان البعيدة منذ الأزمان السحيقة.