بيتي أكازا.. قصة عائلة اقتُلعت من أحضان الطبيعة وصدمت بالمدينة

خاص-الوثائقية
على أطراف العاصمة الرومانية بوخارست، وتحت خزان مياه مهجور، عاشت عائلة “إيناتشي” في انسجام مع الطبيعة لمدة عقدين من الزمان، إلى أن قررت الحكومة تحويل هذه المنطقة إلى حديقة وطنية، مما اضطر الأطفال الذين اعتادوا قضاء أيامهم في الطبيعة إلى التعرف على حياة المدينة، والذهاب إلى المدرسة بدلا من السباحة في البحيرة، واستبدال أدوات الصيد الخاصة بهم بهواتف محمولة.
ورافق فيلم “بيتي أكازا” الذي بثته الجزيرة الوثائقية، رحلة العائلة منذ أن كانت تعيش في كوخ قرب البحيرة وتعاني الأمرين بسبب أجواء الطقس، إلى أن اقتلعت من مكانٍ كان مرتعها ونشأت فيه لينقلوها إلى منطقة غريبة على أفرادها.
لم تُترك هذه العائلة وحدها، وباتت هدفا لمسؤولي الخدمات الاجتماعية الذين “يُغِيرون” يوميا وبزيارات مفاجئة إلى مكان سكن العائلة بحثا عن الأولاد الذين يعيشون في ظروف سيئة، وفق معايير حقوق الطفل.
ولكن الوالد ” إيناتشي” علم من أحد أصدقائه بقدومهم، ولهذا “هرّبت” الوالدة أبناءها إلى “كوخ” يُعرف بالمخبأ بني خصيصا لإبعادهم عن أعين المسؤولين.
فالطريق إلى “المخبأ” وعر، ولهذا لا يمكن أن يصل إليه أي غريب سواء رجال الشرطة أو غيرهم.
غير أن الهرب لم يكن المواجهة الوحيدة، فرب العائلة أكد أنه لا يخشاهم وسيواجههم، والزوجة رفعت شعار التحدي ووعدت باستخدام أدوات مطبخها للدفاع عن أولادها.
رحل “الغرباء”.. حان موعد العودة إلى الكوخ
حل الظلام ورحل “الغرباء”، وحان موعد العودة إلى كوخ لا يصلح للعيش، فهنا الأولاد ينامون في مكان واحد مع الطيور والدجاج والكلاب والقطط، متأقلمون مع الطبيعة التي أصبحت بيتهم وملعبهم، وفي الليل يصطادون الأسماك من البحيرة ويطهونها ويأكلونها، فالأسماك مصدر رزقهم، إذ يجول “فالي” ابنهم البكر على سكان المنطقة المجاورة ويعرض عليهم السمك الذي اصطاده.
الأمور لم تتوقف عند مسؤولي الخدمات الاجتماعية، إذ زار رئيس الوزراء الروماني المحب للطبيعة ووزيرة البيئة منطقة بحيرة “فكاريشت”، في الجزء الجنوبي من العاصمة الرومانية.

أكد رئيس الوزراء تحويل هذه المنطقة المهجورة منذ سنوات إلى متنزه طبيعي في قلب المدينة، وسيكون أكبر متنزه طبيعي حضري في الاتحاد الأوروبي.
كل هذه التصريحات والتغطية الإعلامية الكبيرة لزيارة رئيس الوزراء والوزيرة كانت تجري أمام أعين إيناتشي رب العائلة الذي بدأ ينظر إليهما بقلق على مستقبله ومستقبل عائلته.
وبما أن الكاميرات حاضرة، شرع رئيس الوزراء هو والوزيرة في جمع القمامة من المكان ووضعها في أكياس تمهيدا لبدء العمل.
وبعدها تقدم إيناتشي للحديث إلى الوزيرة، وشرح لها أنه يعيش في هذا المكان منذ 18 عاما ورأى الكثير من الأمور الجنونية، وأكد لها أنه طالما هو موجود في المكان فسيبقى محميا.
وتابع أنه أول من اكتشف وجود ثعالب الماء وعدة أنواع من الطيور النادرة في منطقة فكاريشت التي يعيش فيها، ووثقها مصورون محترفون. وذكر لها أن لديه 9 أطفال ولن يقبل بالظلم، وتابع “إذا دمروا المتنزه سأموت أنا أيضا”.
ولكن ما مصير هذه العائلة عندما ينفذ مشروع تحويل المنطقة الطبيعية إلى محمية كي تتنفس بوخارست هواءً نقياً، وتحظى بمكان مخصص للأطفال والسياح والباحثين؟

الوعد الذي أعطته الوزيرة بأن مديري منطقة فكاريشت الجدد يعرفون المنطقة ويهتمون لأمرها كثيرا وسيساعدون العائلة؛ تُرجم سريعا بإرسال السلطات المحلية موظفة لمساعدة العائلة في تسجيل أبنائها بالمدارس.
واللافت أن إيناتشي أنهى دراسته الثانوية وكان يعمل مساعدا كيميائيا في مختبر، وانتقل إلى هذه المنطقة لأنه كره “الحضارة المقيتة”، كما يقول.
أشجار الصفصاف.. قيود المدنية الحديثة
تحولت المنطقة سريعا إلى وجهة طبيعية يزورها الأمير تشارلز ولي عهد بريطانيا ويزرع فيها شجرة. وبدأت المدارس بتنظيم رحلات برية إلى المنطقة لتعريف الأطفال على خصائصها، وكيف أن عددا من الصيادين كانوا يضعون الغراء على أغصان الأشجار لاصطياد العصافير ووضعها في الأقفاص وبيعها في الأسواق.
وأيضا نظمت جمعيات البيئة -وبينها جميعة “فكاريشت” لحماية المتنزهات الطبيعية- زيارات لها. يقول أحد مؤسسي الجمعية إن الأخيرة ناضلت بجد لحماية المنطقة حتى لا تصبح مثل حدائق المدن المعتادة، وتابع أن فصائل الحيوانات والموائل هنا مميزة، ليس لأنها موجودة في قلب المدينة، بل لأنها نادرة الوجود في جميع أنحاء العالم.
وتوجه مدير المنطقة والناشط البيئي بالكلام إلى إيناتشي -الذي كان يستمع متفاجئا بكلام الناشط البيئي ولسان حاله يقول “أنا من حميت المنطقة وحافظت عليها لـ18 عاما”- وقال له “إن حرق النفايات قد يشعل المنطقة برمتها”.

وفي حوار بين المسؤول عن المتنزه وإيناتشي، قال الأخير إنه “يريد زراعة أشجار الصفصاف هذا العام” ليجيبه أنه “يجب أن يتحدث أولا إلى الدوائر الأكاديمية والمختصين” ويريد تفقد أي أشجار صفصاف تضررت من الحريق، ثم تستبدل المتضررة أولا، ثم يخبرنا علماء النبات بالأماكن التي يمكننا زراعتها ليستدرك إيناتشي ويقول إنهم لا يعرفون هذا المكان بقدر ما أعرفه.
وبعدما كان إيناتشي يفعل ما يحلو له، بات بحاجة لترخيص للزراعة في هذا المتنزه الطبيعي، فالذي كان يقوم به على مر عقدين من الزمان لم يعد ممكنا وبات عليه الحصول على الموافقة من السلطات المحلية قبل أن يقدم على أي خطوة.
عاد إيناتشي إلى منزله غاضبا متحسرا على ما يجري، وأكد أنه كان يتوقع الوصول إلى هذا اليوم. من الآن وصاعدا لن يسمحوا له بالزراعة أو صيد الأسماك، لكنه لم يكترث وأجبر ابنه البكر “فالي” على الذهاب إلى البحيرة ليلا واصطياد الأسماك.
أصول غجرية.. مواطنون درجة ثانية
تابعت السلطات محاولتها إغراء إيناتشي وعائلته ودفعهم للرحيل عبر إرسال الهدايا بمناسبة عيد الميلاد، ولكن الوالد بدا مصرا على موقفه بأنه لن يغادر المكان مذكرا إياهم بوعد قطعوه له بتعيينه حارسا على المتنزه.
وكان من بين الهدايا كتب لأطفاله الذين لا يعرفون القراءة والكتابة ولم يذهبوا للمدارس أبدا، ولكن إيناتشي وصفها بأنها “تافهة” وأولاده ليسوا بحاجة إليها ورماها في موقد التدفئة.
وفجأة، دهم مسؤولون من جمعيات حماية الطفل كوخ إيناتشي وطلبوا من الأولاد الدخول إلى الداخل لأن البرد قارس. وعرف هؤلاء أنفسهم بأنهم مستشارو رئيس البلدية الذي ينسق مع الشرطة المحلية، ودار نقاش عالي النبرة مع إيناتشي وزوجته الذين رفضوا نقل الأولاد إلى الملجأ مصرين أن العيش في الطبيعة مع الحمام والدجاج والحيوانات أفضل. واتهم المسؤولون إيناتشي وزوجته بأنهما يعرضان حياة الأطفال وصحتهم للخطر لأن المكان الذي يعيشون فيه غير لائق.

وعندها، هدد إيناتشي بإشعال النار بنفسه إذا انتزعوا أولاده منه، لكن الشرطة تدخلت وثنته عن هذا الفعل.
وفي نقاش آخر، قالت إحدى المتعاطفات مع إيناتشي وعائلته للمسؤول إنه يعاملهم كمواطني درجة ثانية (لأنهم من أصول غجرية) وليست هذه الطريقة المثلى لإعادة دمج هؤلاء في المجتمع وتحويلهم إلى عناصر فاعلة.
ورغم القساوة التي يظهر عليها إيناتشي، فإنه بدأ بالبكاء حين علم أنهم سيأخذون أولاده بعيدا عنه، وقال “لن أقبل أن يحرموني منكم لأن لا أحد يعلم كم قاسيت في تربيتكم، فأنا مريض جدا ولا أريد خسارة أي منكم”.
وبعد تدهور حالته الصحية نقل إيناتشي إلى أحد المستشفيات لإجراء فحوص طبية. وخلال زيارة ابنه البكر له للاطمئنان على صحته قال له إنهم أجبروهم على “هدم المنزل”.
وقام الأطفال بتسريح الحيوانات التي كانوا يربونها وكانت جزءا من عائلتهم، وأمنت لهم البلدية منزلا ليسكنوا فيه وبدأت تعتني بهم وبصحتهم البدنية والنفسية وتعيد دمجهم في المجتمع عبر تسجيلهم في المدارس.
حضارة ومدنية ومدرسة.. وحنين للطبيعة
بدأ الأطفال يتعرفون على الحضارة والمدنية اللتين حاول والدهم إبعادهم عنهما. وبعد أن كانوا يحرقون النفايات في المتنزه بات عليهم فرزها بحسب نوعها. واعتاد الأطفال على المدرسة والنظام فيها، ولعب كرة القدم مع زملائهم.
ورغم كل ما تقدم، لم ينس الأولاد الحياة التي عاشوها لسنوات طويلة، فقد كانوا يذهبون من حين لآخر للسباحة في البحيرة.
كما كانوا يلعبون كرة القدم في الشارع؛ الأمر الذي أثار غضب بعض القاطنين قرب منزل العائلة الجديد وهاجمهم أحد السكان وطلب منهم أن يعودوا لـ”حجرهم” قرب البحيرة لأنهم “غجر”.
وأصبح لديهم حاسوب محمول، يتحلقون حوله لمشاهدة مقاطع الفيديو ويسمعون الموسيقى.

وحاول “ماني” وشقيقه الأصغر خلال زيارتهم لإحدى المتنزهات؛ صيد الأسماك من بحيرتها، لكن أحد الأشخاص تدخل وقال لهم إن الصيد هنا ممنوع، وهناك أماكن أخرى مخصصة للصيد، لكن عليك دفع المال لدخولها، وتابع أنه إذا رأتكم الشرطة وأنتم تصطادون سيفرضون عليكما غرامات.
الأخوان لم يهتما بالأمر وعندما حضرت الشرطة ووجدت بحوزتهما مجموعة من الأسماك ضربت أحدهما واعتقلتهما بتهمة صيد الأسماك في المتنزهات العامة.
وحاول إيناتشي ثني ابنه البكر عن هذه الأفعال وهدده بإغلاق باب المنزل الساعة العاشرة ليلا، لكنه لم يهتم وقال إنه سيخرج بكل الأحوال، لكن والده حذره من أن مصيره سيكون السجن في نهاية المطاف. وتابع “إذا ألقوا القبض عليك مرة أخرى لن يطلقوا سراحك بسرعة”.
وبدا أن إيناتشي غير مقتنع بحياته الجديدة ويريد بناء كوخ آخر والانتقال إليه مع عائلته ليكون في مكان بعيد عن ضوضاء المدينة والحضارة “المقيتة”، وسيحرص على إبقائهم على الحال الذي أنشأهم عليها. غير أن الزوجة رفضت الفكرة وأصرت على البقاء مع أولادها والاعتناء بهم إلى أن تصبح عجوزة.
لدى إيناتشي وجهة نظر أنه إذا ترك أطفاله يعيشون في المدينة فإنهم سيصبحون “بلطجية ويسيئون التصرف ويعودون في وقت متأخر إلى المنزل، يصولون ويجولون ولا يردون على اتصالاتي”. وأوضحت الزوجة أنهما “ولدان وليسا ابنتين، سأحميهما حتى النهاية ولا أريد أن ينتهي الأمر بهما في الملجأ بعيدا عني”.
لكن الوالد حذرها: “ابقي مع الأولاد، لن تتمكني من السيطرة عليهم، لن أبقى هنا بعد الآن”.

بدأت الأم وأولادها في البحث في القمامة عن البلاستيك والأوراق والمعادن وفرزها تمهيدا لبيعها وشراء الطعام من الأموال التي يجنوها.
كما شارك “فالي” في بناء أكواخ خشبية في المتنزه تمهيدا لافتتاح مسار التنوع البيولوجي الحضري الأول من نوعه في متنزه فكاريشت الطبيعي.
ويعرّف أحد المسؤولين المحليين بزميلهم “فالي إيناكي” أحد أولاد إيناتشي الذين نشؤوا هنا. وقال إنه “أفضل من يعرف أنواع الحيوانات هنا ونسأله دائما عنها وما زال يستخدم الأسماء الشائعة”.
وأجرت معه إحدى الإذاعات المحلية لقاء سألته فيه عن حياة عائلته من قبل ويومياته، وهل هو نادم على تركه الحياة السابقة، وهل يحن للعودة إليها؟
في الحياة المدنية.. الابن يشب عن الطوق
قال إيناتشي لفالي إنه قريبا جدا عليه “دفع نصف إيجار المنزل والكهرباء والماء لأنه سيبلغ الـ18، ولا للعب على ماكينات القمار، أريدك أن تعود ذاك الابن الصالح”.
رفض فالي وقال إنه لا شأن لوالده بما يفعل، معتبرا أن “والده لم يكن الأب الصالح، فعندما كنا في فكاريشت أنا كنت أطعم العائلة من الأسماك التي كنت أصطادها وأبيعها وأنت لا تعمل ولا تفعل أي شيء”.
وبدأت الخلافات تظهر على السطح بين الأب والابن البكر ويزداد الشرخ بين الأخير والعائلة بعد أن أصبح مستقلا ويعمل ويجني المال. ويحمّل الوالد مسؤولية ذلك إلى العالم المتحضر وتركهم الحياة السابقة في الكوخ يوم كانوا كلهم يدا واحدة وجسدا متماسكا.
وشرح فالي كيف أنه حين كان في الـ 16 من عمره لم يكن يعرف القراءة والكتابة، وبدأ من الصفر و”حتى اليوم لست متمكنا بعد من القراءة، لم تكلف نفسك أن ترسلني للمدرسة، ولو سُمح لك بتربية باقي إخوتي في فكاريشت لانتهى بهم المطاف مثل القرود.. رُزقتَ بـ20 ولدا وبنتا ولم تقدم لهم شيئا ولم تكن أبا صالحا”.

وبعد تدهور أوضاع العائلة، جاءت إحدى العاملات في جمعيات حقوق الطفل إلى إيناتشي وزوجته لتحذرهما من أن أولادهما متسخون دائما ورائحة المنزل نتنة ويعانون من صعوبات في التعلم ولا يذهبون للمدرسة بانتظام، ولهذا فالدولة قد تأخذهم منكما، عليكما أن تتعلموا كيفية الاعتناء بأنفسكم، فليست مهمتنا أن نعتني بكم إلى الأبد.
وهددتهم بإدخالهم في برنامج الإسكان الاجتماعي، غير أن إيناتشي رفض الفكرة وأكد أنه لن ينتقل إلى أحياء “الغيتو”، فهذا “الحي سيئ بما يكفي”.
وترد المسؤولة الاجتماعية أن الكثيرين يعيشون في المساكن الاجتماعية. وعندما أصر إيناتشي على عدم الذهاب جاءه الرد الصاعق من المسؤولة الحقوقية “اذهب إلى أي مكان تريده من دون الأولاد”. وفي النهاية استسلم إيناتشي ووافق على الذهاب إلى الإسكان الاجتماعي الذي كان سيئا جدا كما يقول.

الأولاد يشعرون بالملل ويريدون العودة إلى المتنزه، والابن البكر فالي يعمل في المتنزه عامل تنظيفات. انتهت قصة عائلة “إيناتشي” مع الطبيعة وفتحت صفحة جديدة مع المدينة.