“من هنا نبدأ”.. كتاب ينشد الاشتراكية والعلمنة من داخل البيت الأزهري

خاص-الوثائقية

في مطلع 1950 صدر كتاب “من هنا نبدأ”، ولقي مؤلفه الشاب الأزهري خالد محمد خالد بسببه هجوما عنيفا من الأزهر والهيئات والشخصيات الإسلامية، ممن رأوا في الكتاب هجوما على الإسلام وثوابته، لكنّ محكمة بداية القاهرة أتاحت الكتاب وبرّأت صاحبه، بحجة أنه يقع تحت باب حرية الرأي.

 

هذا الكتاب المثير للجدل وضعته قناة الجزيرة الفضائية بين يديْ ثلة من الباحثين والمفكرين العرب، الصادرين عن مشارب فكرية شتى، فقدموا مداخلاتهم على محتوى الكتاب، بين مؤيد ومعارض، ومنتصر لأفكار الكاتب ومناوئ لها، ثم قُدِّمت هذه المداخلات المهمة في حلقة من حلقات برنامج “خارج النص”.

“حمل الكتاب صدمة لجماهير المسلمين”

يقول الدكتور أحمد زايد أستاذ العقيدة بجامعة قطر: “حمل الكتاب صدمة لجماهير المسلمين، فقد كان فيه من التلميح وبعض التصريح ما فَهم منه علماء الأزهر أن الكتاب يطعن في الإسلام نفسه”. بينما رأى الدكتور محمد الجمّال أستاذ الفقه في جامعة السلطان محمد الفاتح أن الذي ينظر في جزئيات الكتاب، كلٌّ على حدة لا يلاحظ شيئا، ولكن الذي يجمع هذه الجزيئات فسيتكوّن منها جسم ينقض الإسلام جملة وتفصيلا.

الكاتب خالد محمد خالد صاحب الكتاب المثير للجدل “من هنا نبدأ” الذي تراجع عنه فيما بعد

 

أما المؤيدون لأطروحات الكتاب فمنهم الدكتورة ناجية الوريمي أستاذة الحضارة بالجامعة التونسية، فقد قالت: رد فعل الأزهر على الكتاب كان متوقعا، وعندما نقرأ مبررات القضاء في تبرئة الكاتب والسماح بتداول الكتاب نجد أنه لا يهاجم الإسلام، بل يقدّم قراءة قد لا تُرضي بعض الأطراف، وهي أفكار قابلة للنقاش، ولكنها بالتأكيد لا تندرج تحت باب الكفر أو الزندقة أو ازدراء الإسلام.

كان هذا أول كتاب يؤلفه خالد محمد خالد الذي سيصبح فيما بعد أحد أشهر المفكرين الإسلاميين، وسيقدم عشرات الكتب التي سيثير بعضها مزيدا من الجدل والنقاش حول أفكاره. يقول الأستاذ خالد في تسجيل صوتي: أخطر ما في أزمتنا الحاضرة أننا غرباء عن أنفسنا وحقيقتنا، ونعيش بعيدا عن جوهرنا الذي يشترك في صنعه ميراثنا الديني والحضاري كذلك.

“الدين لا الكهانة”.. طعن فكري في سلطة الحارس المطلق

ضم كتاب “من هنا نبدأ” أربعة فصول طرح فيها الكاتب أفكاره بشأن علاقة الدين بالدولة، وعرّج على الأفكار الاجتماعية في مصر في تلك الفترة، وكيف تأثرت بأداء المؤسسة الدينية ورجالها، وقد حمل الفصل الأول عنوان “الدين لا الكهانة”، وانتقد فيه الكاتب ما أسماه الكهنوت الديني في المجتمع المصري، والدور الذي يلعبه بعض رجال الدين في تشريع سياسات الإفقار ودعم ذوي المال والسياسة باسم الدين.

في فصل “الدين لا الكهانة” انتقد الكاتب ما أسماه الكهنوت الديني ودور رجال الدين في تشريع بعض السياسات باسم الدين

 

وجاء في الكتاب ما نصه: لقد منحت الكهانة نفسَها سلطة واسعة النطاق، والعجيب أنها تفرض نفسها فرضا على شؤون المجتمع كلها، ما تعلم منها وما لا تعلم، وقد منحت نفسها سلطة الحارس المطلق الذي وُكِلت إليه حراسة النظم الاقتصادية والتقاليد الاجتماعية. إنها لتحتكر عقول الناس وتضرب حولها حصارا قاسيا ونطاقا من حديد، إنها لترى في العقل الحر أعظم خطر يهدد وجودها لأنها لا تحتمل هجوما واحدا منه، فبينما لا تستطيع الكهانة أن تعيش إلا في الظلام، إذا بالدين يدعو لإضاءة الأنوار، ويعلن سلطان العقل أيما إعلان.

رجال الدين.. اقتباس من صورة الكهانة الأوروبية

يقول الباحث صلاح الدين الجورشي: يطرح الكاتب قضية جوهرية؛ فهو يتحدث عن الدين، ثم يتحدث عن الذين يتكلمون باسم الدين، ويُضْفون على أفكارهم نوعا من القداسة، ويحاولون أن يخلقوا هذا الالتباس؛ أي أن يخلطوا بين أفكارهم وبين النصوص الدينية، ولذلك سمّاه كهنوتا.

وتتابعه الدكتورة زهية جويرو، أستاذة الحضارة بجامعة منوبة، بقولها: هذه الكهانة ظهرت من خلال تحوّل الرسالة إلى مؤسسة دينية، تتوسل بسلطة الدين من أجل شرعنة سلطتها البشرية، وحوّلت بذلك الدينَ إلى ضرب من الكهنوت.

وضع خالد محمد خالد عشرات الكتب التي أثار بعضها مزيدا من الجدل والنقاش حول أفكاره

 

ويعارضهما الدكتور محمد الصغير، مستشار وزير الأوقاف المصري السابق قائلا: لقد استصحب الأستاذ خالد محمد خالد صورة الكهانة الأوروبية، وعلاقة الكنيسة بالدولة وأسقطها على المجتمع الإسلامي، وأنا بدوري أسأل الأستاذ خالد: أين الكهّان المسلمين الذين حكموا باسم الدين في تاريخ الأمة، إذا قصدتَ الخلفاء الراشدين فهذه أنصح الحكومات التي حكمت الأرض على مرّ التاريخ، بشهادة الأستاذ خالد نفسه.

ففي الإسلام لا أحد معصوم وينطق باسم الله إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم. لكنْ في الوقت نفسه يرى الكاتب أن “هناك من يعيق تطور المجتمعات بعقلية التحريم، في هذه الحالة تكون الشريعة سدّا يعيق تقدم المجتمع، فهؤلاء يسعون إلى إقناع الناس بقبول الواقع المجحف الذي كانت فيه الفئات الشعبية تعيش الفقر والظلم، ويقنعونهم أن هذا قدرهم”.

“الخبز هو السلام”.. دعوة إلى التوزيع العادل للثروات

حمل الفصل الثاني عنوان “الخبز هو السلام”، وقد قدّم فيه الكاتب تصوراته حول الأوضاع الاجتماعية، واعتبر أن الإسلام ينزع نحو الأهداف الاشتراكية التي تدعم التوزيع العادل للثروات، وفيه عرض لمساوئ الإقطاع والاحتكار، سواء احتكار الأرض أو رؤوس الأموال، وكيف يهدد ذلك حياة الشعب في حاضره ومستقبله.

في فصل “الخبز هو السلام” اعتبر الكاتب أن الإسلام ينزع نحو الأهداف الاشتراكية التي تدعم التوزيع العادل للثروات

 

يقول الكاتب: ما دام في جانب من المجتمع ثراء متغطرس فلا بد أن يكون في الجانب الآخر فقر متذمر، وهذا التذمر النامي المتراكم من أخطر الأشياء على حياة الأمة، وإن المسؤولية الكاملة لتجثم على كاهل الرجعية الاقتصادية التي تمتص الحياة من الشعوب، وتعرقل كل اتجاه نحو اشتراكية يانعة.

توغل الرأسمالية.. صرخة واعية بحاجة المجتمع المصري

يرى بعضهم أن تفكير الكاتب خالد محمد خالد بالاشتراكية كان مدفوعا بوعيه بحاجة المجتمع المصري لنظام أكثر عدالة، يحفظ لأغلبيتهم كرامتهم، فمن مخاطر الرأسمالية أنها توغلت بلا قيود أو ضوابط أخلاقية، وأخضعت جزءا كبيرا من المجتمع -وخاصة العمّال والفلاحين- لسيطرة هؤلاء الرأسماليين، والأخطر أن هذا التوغل جاء بغطاء شرعي من المؤسسات الدينية.

ويرد الدكتور محمد الصغير، مستشار وزير الأوقاف المصري السابق على هذا الطرح قائلا: “قول الأستاذ خالد إن الإسلام ينزع إلى الاشتراكية، هو في حقيقته أن بعض الجوانب المضيئة في الاشتراكية تقاطعت مع التعاليم الإسلامية الأصيلة، فلا يجوز إلحاق الأصل بالتابع”. وقد رفض خالد نفسه الاشتراكية التي بموجبها وزّع عبد الناصر أراضي الإقطاع على الفقراء.

وضع الشيخ الغزالي كتاب “من هنا نعلم” ردا على كل ما أثاره خالد في كتابه “من هنا نبدأ”

 

بينما تنزع الدكتورة ناجية الوريمي أستاذة الحضارة بالجامعة التونسية إلى الاعتقاد بأن السياق الثقافي والسياسي وقت نشر الكتاب كان مفعما بالاشتراكية التي تنتشر عالميا، ومصر ليست استثناء، لا سيما أنه خلال بضع سنوات سيتبنى عبد الناصر الفكر الاشتراكي، بل إن مجلة الأزهر في ذلك الوقت نشرت مقالات للتقريب بين الماركسية والإسلام.

“قومية الحكم”.. ضرورة الفصل بين الدين والسياسة

جاء الفصل الثالث من الكتاب بعنوان “قومية الحكم” ليقدم فيه الكاتب رؤيته حول علاقة الدين بالدولة، معتبرا أن الحكومات الدينية تضر بالدين والدولة على السواء، وأن الفصل بينهما يحفظ قدسية الدين وتأثيره على الناس ويفسح المجال لنشوء دولة مدنية حديثة.

يقول الأستاذ خالد محمد خالد في تسجيل صوتي: كنت قد قرأت عن الحكومة الدينية في أوروبا في العصور الوسطى، عندما كان البابا والكنيسة يحكمون، فتأثرت بذلك، وقلت في فصل “قومية الحكم” إن الإسلام ليس بحاجة لأن يكون دولة، وحسبه أن يكون دينا.

في فصل “قومية الحكم” يقدم الكاتب رؤيته حول علاقة الدين بالدولة، معتبرا أن الحكومات الدينية تضر بالدين والدولة

 

ويرى المعارضون أن هذا طرحٌ شاذ عن الإسلام الذي ينبني عليه وفي ظلاله اقتصاد الأمة وسياستها واجتماعها، كما أنه لا توجد في الإسلام دولة كهنوتية على غرار ما حدث لأوروبا المسيحية في العصور الوسطى، ولا معصوم مقدس يحكم باسم الإله في الإسلام، وإنما الحاكم أجير عند الرعية، يقيم فيهم شرع الله ويحفظ حقوقهم.

بينما يرى المؤيدون أنه كلما التقت السياسة بالدين في ذهن الكاتب قال: إننا نفقد هذا وذاك، فالكتاب مبني أساسا على ضرورة الفصل بين الدين والسياسة، أي عندما نفصل بين الدين والدولة فإننا نعيد إليهما الاعتبار معا، فالدين مجموعة من القيم الروحية والأخلاقية لا يجب أن تختلط مع الدولة التي تحترم حقوق الإنسان وحريته.

“الدولة في الإسلام”.. كتاب جديد ينقض الكتاب القديم

بعد 30 عاما من صدور كتاب “من هنا نبدأ”، أثار خالد محمد خالد ضجة جديدة، وباغت القراء بكتاب جديد أسماه “الدولة في الإسلام”، وقد قدّم فيه قراءة جديدة لعلاقة الدين بالدولة، واعتبر أن ما طرحه في بداية حياته أفكار حماسية لم تكن مبنية على فهم عميق لتصورات الإسلام حول شكل الدولة وعلاقته بها.

يقول الأستاذ خالد: خبرة الكاتب وقراءاته وحركة الفكر والتاريخ يمكن أن تصقل أفكاره، والأمانة العلمية تقتضي أن لا يخجل الكاتب من مراجعة ما كتب، وأنا أعترف أنني جازفت حينما قلت سابقا إن الإسلام دين لا دولة، وانتهيت إلى يقين لا شكّ فيه أن الإسلام دين ودولة.

كتاب “الدولة في الإسلام” الذي قدم فيه خالد محمد خالد قراءة جديدة لعلاقة الدين بالدولة

 

وقد جاء رد الدكتور محمد الغزالي على “من هنا نبدأ” هادئا، فألف كتاب “من هنا نعلم”، وفيه ردود علمية وموضوعية هادئة على كل ما أثاره خالد في كتابه. وقد كان رد فعل الأستاذ خالد عظيما ومشرفا عندما قبل جميع أطروحات الغزالي، وتراجع عن كتابه “من هنا نبدأ”، وألّف كتابه “الدولة في الإسلام”. فكان نموذجا للكتاب الإسلاميين الذين لا يجدون غضاضة في الاعتراف بخطئهم والتراجع عنه.

بينما رأى دعاة الفصل بين الدين والدولة أن تراجع خالد محمد خالد جاء تحت وطأةِ ضغوط المؤسسة الدينية التقليدية ورجالها، ويقصدون هنا الأزهر، الأمر الذي جعله وحيدا مبعدا ومعزولا عن محيطه، مما دفعه إلى التراجع عن أفكاره بعد أن صمد فترة عليها، لكنّ تراجعه هذا أضر بصورته وسيرته العلمية، ومع هذا يبقى الكتاب معلما من معالم الثقافة العربية المعاصرة، كما يقولون.


إعلان