“سيكولوجية الجماهير”.. أول كتاب في تفسير ثورات الشعوب

خاص-الوثائقية”

على أنقاض تلك السلطات العديدة التي سحقتها الثورات نجد أن هذه القوة الجديدة هي وحدها التي نهضت وترسخت، ويبدو أنها ستمتص كل الأخريات قريبا. وفي الوقت الذي أخذت فيه الأعمدة القديمة للمجتمعات تتساقط الواحدة تلو الأخرى، فإننا نجد أن نضال الجماهير هو القوة الوحيدة التي لا يستطيع أن يهددها أي شيء، وهي القوة التي تتزايد هيبتها وجاذبيتها باستمرار. إنه بالفعل عصر الجماهير”.

 

تلك كانت واحدة من محطات الفيلسوف الفرنسي “غوستاف لوبون في كتابه “سيكولوجية الجماهير”، أحد أهم الكتب التي أنتجها عقل ما بعد الثورة الفرنسية، وهو الكتاب الذي لا يزال يشرئب بعنقه بارزا كلما تحركت حشود بشرية من أدنى الأرض إلى أقصاها، حيث أفردت له قناة الجزيرة حلقة من برنامج “خارج النص” ناقشت فيه أطروحات الكتاب.

عن قوة الجماهير.. كتاب يتَّقد شبابا بعمر 130 عاما

شهد القرن الـ19 في فرنسا ذروة التغيرات في المشهد السياسي والاجتماعي عقب الثورة الفرنسية، وأصبحت القوة الجماهيرية المتحكم الأول في الأحداث التاريخية، مما دفع المفكر الفرنسي “غوستاف لوبون” إلى التنبه لظاهرة الجماهير، ووضع خلاصة دراسته لها في كتابه “سيكولوجية الجماهير”، وهو الكتاب الذي برز من جديد مع ثورات الربيع العربي.

“غوستاف لوبون” مفكر فرنسي ترك إرثا كبيرا في الفكر النفس الاجتماعي من خلال كتابه “سيكولوجية الجماهير”

 

قال عنه نقاد: هو كتاب موجَّه، ومن الخطورة بمكان تعاطيه دون فهم وتحليل، لكنه يبقى صالحا لسد الكثير من الثغرات التي لم يجد لها كثيرون إجابة فيما يتعلق بدراسة سلوك المجاميع، والتنبؤ بخطواتها القادمة.

سبب ثورات الجماهير.. كيف يتحكم بها الحاكم؟

يُعتبر غوستاف لوبون أحد أبرز المفكرين في القرن الـ19، وقد وضع حجر الأساس لـ”علم نفس الجماهير”. وكان ولد عام 1841 من طبقة برجوازية، وشهد بزوغ الاشتراكية في فرنسا، وظهور القوة الشعبية المعادية للنظام الأرستقراطي الإقطاعي الذي كان سائدا. وقد حاول لوبون في كتابه دراسة ظاهرة صعود الجماهير على المسرح السياسي الأوروبي بطرق علمية، مرتكزا على تجارب الثورة الفرنسية.

انتقل من بلده “نورماندي” إلى باريس، ودرس الطب وتأثر كثيرا بما حصل في باريس أيام الحرب بين الفرنسيين والبروسيين، وهي الظروف التي جعلت لوبون يقف ضد النظريات الاشتراكية، بل وضد الديمقراطية التي تجلب عدم الاستقرار لفرنسا.

يعزو غوستاف لوبون البناء والحضارة إلى الطبقة الأرستقراطية والهدم والتدمير إلى الجماهير

 

يقول لوبون: اليوم، نلاحظ أن مطالب الجماهير أصبحت واضحة أكثر فأكثر، وتميل إلى تدمير المجتمع الحالي، وقلب عاليه سافله لكي تعود به إلى تلك الشيوعية البدائية، التي كانت تمثل الحالة الطبيعية لكل الجماعات البشرية قبل فجر الحضارة.

وهو ما دعاه إلى قراءة الحركة الجماهيرية بأسلوب نفسي، واستخلاص قوانين حاكمة يستطيع من خلالها القادة التعامل مع الجماهير في حالة الثورات، وبتفكيره البورجوازي أراد أن يفهم سبب ثورة الجماهير، من أجل التحكم بها والسيطرة عليها، وقيادتها إلى الاتجاه الذي تريده الطبقة الحاكمة.

“روح الجماهير”.. نظرية في الحراك اللاواعي

تتلخص أفكار الكتاب الذي صدر عام 1895 في ثلاثة أجزاء، يتحدث الجزء الأول عن نظرية “روح الجماهير”، ويقصد بها الوحدة الذهنية التي تتشكل لدى اجتماع عدد من الأفراد في ظرف معين، حيث اعتبرهم كتلة ينصهر أفرادها بروح واحدة تخفض من مستوى الملَكات العقلية لديهم.

يقول لوبون “الظاهرة التي تدهشنا أكثر في الجمهور النفسي هي التالية: مهما كانت نوعية الأفراد الذين يشكلونه، ومهما كان نمط حياتهم متشابها أو مختلفا، وكذلك اهتماماتهم ومزاجهم أو ذكاؤهم، فإن مجرد تحولهم إلى جمهور يزودهم بنوع من الروح الجماعية، إذن إليكم الآن مجموعة من الخصائص الأساسية للفرد المنخرط في الجمهور: تلاشي الشخصية الواعية، وهيمنة الشخصية اللاواعية، وتوجه الجميع ضمن نفس الخط بواسطة التحريض والعدوى للعواطف والأفكار، والميل لتحويل الأفكار المحرَّض عليها إلى فعل وممارسة مباشرة”.

*العدوى العقلية* هي إحدى الخصائص المشتركة للجماهير كما يصفها “غوستاف لوبون”

 

تحدث لوبون عن خصائص مشتركة للجماهير، منها “العدوى العقلية”، وهذا ما رأيناه واضحا في ثورات الربيع العربي، وكيفية انتقالها بين الأقطار العربية المختلفة كالعدوى.

ومن الأفكار التي تعرضت لنقد شديد فكرة أن الفرد يفقد فرديته داخل المجموعة، فقد أثبتت أبحاث علمية على مدى 30 عاما أن الفرد يحتفظ بهويته الشخصية داخل المجموعة، ولكنه تتأجج فيه مشاعر الهوية الاجتماعية وتطغى على هويته الشخصية، وكان هذا واضحا في الحراك الجزائري على سبيل المثال، فقد كان للمبادرات الفردية أكبر الأثر في تغيير الكثير من مسارات الحراك ومسيراته.

“العرق التاريخي”.. نظرية بحث القطيع عن العبودية

في الجزء الثاني من الكتاب ناقش لوبون فكرة “العِرق” الذي يتشكل عبر التاريخ، وهو من أقوى الخصائص التي تتحكم في اللاوعي الجمعي لدى الجماهير. وقد أثارت هذه النظرية جدلا كبيرا حينها، فالعصر الذي جاء منه لوبون انتشرت فيه النظريات العنصرية.

لقد طوّر لوبون في كتابه “عرقا تاريخيا” يجمع بين البيولوجيا والثقافة، فالجماهير اللاتينية مثل فرنسا وإيطاليا وإسبانيا تكون عادةً أكثر عاطفية من الجماهير الأنغلوسكسونية التي تمثلها إنجلترا في ذلك الوقت، بينما يعتبر العرق الشرقي أكثر عاطفية من اللاتيني. أما اليوم فتنزع المجتمعات نحو الفردية، ولم يعد العرق التاريخي مسيطرا على أكثر المجتمعات، وهذا يقوّض نظرية لوبون.

يقول لوبون “الجماهير كالقطيع لا تستطيع الاستغناء عن سيد، والشيء الذي يهيمن على روح الجمهور ليس الحاجة إلى الحرية وإنما إلى العبودية، ذلك أن ظمأها للطاعة يجعلها تخضع غريزيا لمن تعلم بأنه زعيمها”.

يرى لوبون هنا أن روح الجماهير غريزيا لا تميل إلى الحرية، ولكن يهمين عليها الحاجة إلى العبودية، وهي نظرية استفزت بعض الباحثين. لكنها مقولة فيها شيء من الصحة، فالعبودية ليس شرطا أن تكون لإنسان، بل ربما لفكرة يسعى لتحقيقها فتستعبده. بينما يستبعد هذه الفكرة تماما نقاد آخرون، ويرون أنه حين يدخل فرد في أي حراك جماهيري، يسعى إلى عمل الكثير من الحسابات والموازنات لحساب الربح والخسارة على شخصه بذاته، وبناء عليه يمكنه الاستمرار في الحراك أو تركه.

الجماهير تخضع لسيطرة المحرّض الذي يستخدم أسلوب تجييش العواطف

 

يقول لوبون “في الواقع إن أسياد العالم ومؤسسي الأديان أو الإمبراطوريات ورسل كل العقائد ورجال الدول العظام، وعلى مستوى أقل زعماء الفئات البشرية الصغيرة.. كانوا كلهم علماء نفس على غير وعي منهم، فكانوا يعرفون روح الجماهير بشكل فطري، وفي الغالب بشكل دقيق وموثوق جدا، وبما أنهم يعرفونها جيدا ويعرفون كيف يتعاملون معها فقد أصبحوا أسيادها”.

ويضيف “لا تبحث الحشود عن الحقائق إنما عن الأوهام”.

يرى لوبون أن الحشود تخضع لسيطرة المحرّض الذي يستخدم أسلوب تجييش العواطف لإقناعها كما يفعل المنوم المغناطيسي بروح الفرد، فالقائد الكاريزماتي يصهر روح الجماهير في بوتقة واحدة، ويعمل بينها لحمة ليجعها تتحرك بمجموعها في الاتجاه الذي يريد، ويستخدم ثلاث آليات لضمان انقياد هذه الحشود خلفه: التأكيد والتكرار والعدوى.

جماهير غير عاقلة.. تبرير العنف لبلوغ الهدف

في فصل “الجماهير غير عاقلة” يعتبر لوبون أن الجماهير معرضة للتأثير العميق إلى الحد الذي يمكن أن تصبح مجرمة باسم التضحية، وهو ما ناقشه لوبون في الجزء الأخير من كتابه عبر استحضاره العديد من الشواهد التاريخية، وهي الأطروحة التي أثارت جدلا آنذاك، حيث كانت مضادة للأفكار الاشتراكية السائدة.

وفي يومنا هذا فإن الجماهير تحركها الأفكار، وبالتالي فهي عاقلة ومدركة لما تريد، ومن يتهمها باللاعقلانية فكأنما يخرجها من دائرة الإنسانية. كما أن بيئات اليوم لم تعد منتجة للزعيم الدكتاتور كما زعم لوبون في كتابه، فالكثير من الحركات الاجتماعية كان هدفها الرئيسي القضاء على الدكتاتوريات المتسلطة.

استعان كل من هتلر وموسوليني بنظريات كتاب “سيكولوجية الجماهير” لتجييش الجماهير والتحكم بها

 

ويضرب لوبون مثالا على الانقياد الأعمى للجماهير خلف زعيمها، فيذكر مجزرة سبتمبر/أيلول 1789 التي رافقت أحداث الثورة الفرنسية، فقد ذهبت مجموعة من أنصار الثورة لقتل مجموعة من البرجوازيين، وعادوا بمحافظهم وأموالهم وسلّموها للقائد، في إشارة إلى التضحية من أجل الفكرة التي آمنت بها المجموعة، وليس من أجل النهب والسلب.

وفي هذه الأيام ليست الجماهير عرضة للذوبان كما يصفها لوبون، ولا يمكن أن تنحدر بمجموعها إلى الجريمة والعنف، بل إن الجماهير تصوِّب بعضها بعضا ويقوِّم أفرادُها الباقين. نعم قد يكون هنالك بعض الانفلات الجزئي، ولكن سرعان ما تعود الأمور إلى نصابها.

بناء الحضارات.. بين الأرستقراطية وحكم الشعب

خلص لوبون في كتابه إلى أن كل كوارث الماضي القريب التي منيت بها فرنسا وكل هزائمها والصعوبات التي تواجهها، تعود إلى هجوم الجماهير على مسرح التاريخ وعدم التمكن من مواجهته. يقول: “كانت الحضارات قد بنيت ووجهت حتى الآن من قبل طبقة أرستقراطية صغيرة مثقفة ولم تُبن أبدا من قبل الجماهير، فهذه الأخيرة لا تستخدم قوتها إلا في الهدم والتدمير”. وهو ما عرّض نظريته للانتقاد.

وبما أن الكتاب يجب أن يخضع للنقد والدراسة ويوضع في سياق الأحداث التي سادت إبان الثورة الفرنسية وأثناء القرن الـ19، فإن الثورة الفرنسية التي لم تعجب لوبون كانت مصدر إلهام للكثير من الشعوب كي تحذو حذوها، وتؤسس لحكومات يشكلها الشعب بفئاته المختلفة، ولا أن تبقى حكرا على أرباب المال والنفوذ.

خطيئة لوبون.. في خدمة الدكتاتور ضد الشعب

جذبت نظريات لوبون مطلع القرن الـ20 نخبة من قادة الحرب العالمية الأولى والثانية، فقد استعان “هتلر” و”موسوليني” بنظريات الكتاب لتجييش الجماهير والتحكم بها، ومن هنا اعتبر البعض الكتابَ خطيئة لوبون، ويذهبون إلى أن لوبون كان مقربا من القادة والحكام، وجاء كتابه بناء على طلب هؤلاء الحكام من أجل احتواء الجماهير والتحكم بها.

الجماهير في رأي غوستاف لوبون ظمئة تبحث عمن يستعبدها

 

ورغم مرور أكثر من قرن على صدور الكتاب فإنه أعيد تداول نظرياته من قبل الباحثين والمفكرين بالتزامن مع انطلاق ثورات الربيع العربي، مما فتح جدلا واسعا بشأن صلاحية نظريات الكتاب في وقتنا الحالي في ظل بروز مجتمعات قائمة على الفردانية. لكن أهميته التاريخية تكمن في أنه الأول الذي تناول سيكولوجية الجماهير، وتحدث عن الروح الجمعية، غير أن الكثير من أفكاره يناقضها العلم الحديث.

يقول لوبون “هذه هي دورة الحياة الخاصة بشعب ما؛ الانتقال من حالة البربرية إلى حالة الحضارة عن طريق ملاحقة حلم ما، ثم الدخول في مرحلة الانحطاط والموت، ما لم يفقد هذا الحلم الذي تبنته الجماهير قوته”.


إعلان