“عالم من ألوان”.. طقوس التنافس والجذب والاختباء في مملكة الحيوان

خاص-الوثائقية

قد تظهر الأرض من الفضاء باللونين الأخضر والأزرق بشكل أساسي، ولكن نظرة فاحصة تكشف الوفرة الحقيقية للألوان، من الحيتان الحدباء العملاقة إلى العناكب الصغيرة، إنه كوكب عجيب يضج بالألوان والكائنات الحية بجميع أصنافها وأشكالها التي لا نهاية لها، إنه عالم متباين ومتعدد، لكنه يسير ضمن نظام مذهل ومتجانس.

 

هذا الفيلم الذي بثته الجزيرة الوثائقية تحت عنوان “عالم من ألوان” يأخذ المُشاهد في رحلة حول العالم لاكتشاف مجموعة من المخلوقات الملونة التي تجعل عالمنا مكانا متنوعا بشكل مذهل.

طائر الجنة.. ذيل متوهج بالنور في قلب الظلام

إنه عالم ديناميكي الحركة لا يهدأ ولا يسكن، حتى في ظلال عباءة الليل القاتمة تظهر الحيوانات القادرة على التنقل في ظلمته معتمدة على مجسات سمعية أو قدرات بصرية استثنائية.

في هذه اللحظات يبدو عالمنا خاليا من الألوان، لكن الطبيعة لا ترضى إلا أن تظهر نفسها، فتنشط بعض الحيوانات قبيل الفجر كطائر الجنة المعروف باسم “ستاندر وينغ”، وتمتاز الذكور من هذا الفصيل بذيلها الأبيض الطويل المتوهج بالحياة بحيث يمكن رؤيته في الليل.

خلال فترة التزاوج تقوم الذكور بأداء طقوس راقصة في محاولة منها لجذب انتباه الإناث، وما إن تشرق الشمس حتى تشتعل الأرض بالألوان، ويظهر ريش ذلك الطائر المذهل الملون.

 

غابات العالم موائل شاسعة وخضراء مذهلة، وهي تشكل ثلث اليابسة، وتظهر الأرض كوكبا أخضر. وتلعب هذه الغابات دورا مهما في حماية المناخ، فهي الرئة التي يتنفس من خلالها عالمنا، إذ تنفث الأوكسيجين وتزود الكائنات به.

ولا يتوقف سحر الغابات عند هذا الحد، بل إنها تخلق مناخها الخاص وتنتج المطر الذي يبقيها على قيد الحياة، وهي الحاضنة لألوف الأصناف من الحيوانات، وكل مكان فيها ينبض الحياة.

الطائر الطنان.. مشاحنات التزاوج بين أجمل ذكور الغابة

تجلب أشعة الشمس الضوء والدفء، وهما عاملان أساسيان للكائنات البهلوانية كالطيور الطنانة التي تقضي الليل في وضعية توفير الطاقة، لكن طلوع الشمس يمنح قلوبها الصغيرة نبض الحياة.

 

ورغم صغر حجم الطائر الطنان فإنه يعد من أجمل طيور الغابة، فهو يمتاز بلونه القزحي المذهل ولياقته العالية، فهو يرفرف 40 مرة في الثانية، مما يمكنه من الحركة بسرعة في جميع الاتجاهات. وهذه الطيور هي الوحيدة التي تستطيع الطيران إلى الجانب أو الخلف أو الحوم بينما تمتص الرحيق من الأزهار، لكن ضريبة هذا هي الحاجة إلى الكثير من الغذاء.

ففي فترة التزاوج ينهمك الذكور بالمشاحنات فيما بينهم، بينما تقوم الأنثى ببناء عش رقيق محكم من خيوط العناكب، لتمنح بيوضها صغار المستقبل قدرا كبيرا من الحماية.

نحل الأوركيد.. نثر العطور على الأشجار لجذب الإناث

يتشابه نحل الأوركيد مع الطائر الطنان بلونه القزحي الذي يتلألأ تحت أشعة الشمس، ويعمل بلا كلل، وتقوم الذكور بجمع الزيوت العطرية من زهرة الأوركيد بأرجلها الأمامية، ثم تقوم بتخزينها في تجاويف بأرجلها الخلفية.

 

يمزج كل نوع من نحل الأوركيد عطره الخاص باستخدام أزهار معينة، وتمتزج هذه الزيوت مكوِّنة عطرا خاصا يستخدمه الذكر في فترة التزاوج، وعليه أن يضع هذا العطر في منطقة معينة على الشجر ليجلب برائحته الأنثى التي تتزاوج لمرة واحدة طوال حياتها.

تستفيد زهرة الأوركيد من جهود النحل، إذ يساعدها في نشر حبوب اللقاح، وكلما زار النحل زهورا أكثر أصبح العطر أكثر تعقيدا وزادت الأزهار في العام التالي.

قرود الميمون.. صراع بين الذكور بلغة الألوان الجميلة

يعج كوكبنا بحشرات ملونة وزواحف متلألئة وطيور بألوان كثيرة متنوعة تثري العالم وتضيف له مشهدا جميلا رائعا، بينما تمتاز الثدييات بألوانها الباهتة كالبني والأسود والأبيض والأحمر، معتمدة بذلك على صبغة الميلانين التي تلون الشعر والجلد، وثمة نوعان أساسيان منها، أحدهما للظلال السوداء والبنية، والآخر للون الأصفر المحمر، وتساعد تلك الألوان في حماية الحيوانات.

 

ونادرا ما تظهر درجات الأزرق أو الأخضر أو البنفسجي في عالم الثدييات، لكن لكل قاعدة استثناء، فقرد الميمون يمتاز بتعدد ألوانه، وتقطع فصيلة القرود تلك مسافات طويلة كل يوم، وتسير الذكور في الخلف لكنها تضطر أحيانا للسير في المقدمة، خصوصا عند بروز مشكلة ما.

ترقب الكاميرا دخول منافس للقرد الذي يقود المجموعة، فتتطاير الإشارات البصرية والسمعية بين القردين في ساحة النزال، بينما يحاول كل منهما إثبات تفوقه كذكر، فتتركز ألوان وجهيهما الزاهية، ويحلان نزاعهما بدون عنف ويتراجع الخاسر، فالأدرينالين المتدفق في عروقهما يعزز الألوان في وجه المنتصر وفي مؤخرته، وبذلك يبقى الذكر الوحيد الذي يتزاوج مع جميع الإناث في المجموعة.

يوم التزاوج.. حفلة الألوان الصفراء في عالم الضفادع

يشكل المطر بداية حدث طبيعي جميل، وعندما تكون الظروف مناسبة في ليلة مثالية وكمية المطر كافية، تشق الضفادع طريقها إلى برك الغابة، ويخترق نقيقها هدوء الفجر، ومن بين الأشجار تنضم الذكور ذات الألوان الصفراء الزاهية إلى الإناث ذات البشرة السمراء، فقد حل يوم التزاوج، والبرك عميقة بما يكفي ليكبر فيها نسل الضفادع.

 

لا يعرف العلماء سبب تحول ذكور الضفادع إلى اللون الأصفر في فترة التزاوج، فلعله يكون لتمييز الذكور أو لجذب الإناث، ولكن أيا كانت الأسباب فإن التزاوج سيقع حتما، مما يضمن قدوم جيل جديد من هذه الضفادع.

وعلى عكس الضفادع، تحافظ الحرابي على ألوانها طيلة الوقت، فحتى في أسوأ صورها تبقى الزواحف آسرة، حيث تمكن بعض الخلايا الخاصة الحرابي من التنكر أو الظهور ولفت الانتباه إلى نفسها والتواصل فيما بينها.

تضع الحرباء الأنثى في العادة بيوضا، ولكن نتيجة لبرد الطقس في هذه الحالة فإنها تلد ولادة حية وتضع صغارها في مكان دافئ، وبعد لحظات قليلة من الولادة يبدأ الصغير بشق طريقه في الحياة معتمدا على نفسه، حيث يمتص ضوء الشمس ويستكشف العالم حوله.

ألعاب الاختباء.. ألوان الجمال في أعماق المحيط

لا تقتصر ألوان الحياة المذهلة في هذا الكون على اليابسة فقط، ففي محيطات هذا العالم يعتبر الأخطبوط سيد التخفي، إذ يرسل دماغه إشارة، وخلال بضع أجزاء من الثانية تعيد العضلات حجم الخلايا الصبغية على الجلد فتغير مظهره. وتماما مثل الحرابي، يستخدم الأخطبوط ألوانه للتمويه والتواصل مع أبناء جنسه.

أما الشعب المرجانية، فتعتبر موطنا لكثير من الأسماك الملونة والمخلوقات التي تفضل الاندماج في محيطها، حيث تشكل تلك الأفواج من الكائنات الجميلة حجابا طبيعيا لبعض أنواع الأسماك التي تحتاج إلى الاختباء.

 

وبما أن ضوء الشمس يتكون من طيف واسع من الألوان، فعندما يتغلغل بعمق في المحيط يقوم الماء بتصفية أطوال موجية معينة تفقد الظلال الصفراء والحمراء قوتها فتبدو الأسماك من هذه الألوان باهتة وغير بارزة، بينما ترسم الشعب المرجانية بحرا من الألوان تحت سطح المحيط.

تجعل المحيطات الأرض كوكبا أزرق اللون، لكن هل الماء أزرق حقا؟ يرجع اللون الأزرق المخضر (الفيروزي) الذي تمتاز به المحيطات إلى انعكاسات معينة من أشعة الشمس تجعل المحيطات تظهر بهذا اللون، فهو يشتت أشعة الشمس كما يفعل الهواء في السماء فيجعل لونها أزرقا.

الحيتان الحدباء.. رحلة الشتاء والصيف عبر المحيط الدافئ

تقوم أشعة الشمس بتسخين مياه المحيطات، مما يشجع الحيتان الحدباء للقيام برحلة من القطب الشمالي إلى المناطق الاستوائية، ففي كل صيف تسافر هذه الحيتان آلاف الكيلومترات باتجاه القطبين لكي تأكل في تلك المناطق ذات الوفرة بالكريليات المغذية، وبعد أن تشبع هذه الحيتان تعود للمناطق الاستوائية للتزاوج وتربية صغارها، ويلزمها أن تحتفظ بالغذاء جيدا في أجسادها حتى تحافظ على حياتها.

 

وأما الصغار فتحتاج تلك إلى ٤٥ لترا من الحليب يوميا خلال الأشهر الستة الأولى، إذ يبلغ وزنها طنا وطولها عدة أمتار، وهو ما يشكل تحديا للأمهات، ورغم أن هذه الحيتان غير ملونة، فإن أنماط جلدها يسمح للباحثين بالتعرف على أفرادها وتتبعها، فبطنها فاتح اللون وظهرها داكن.

في المقابل، تملك الدلافين الدوارة –التي لا يعلم أحد لماذا تقفز وتدور في الهواء- أيضا بطنا فاتح اللون وظهرا داكنا، وعندما تسبح عن السطح لا يرى إلا جزأها العلوي، مما يؤمن لها حماية من أسماك القرش.

السرطان الكماني.. مخلب يرعب العدو ويفتن الإناث

على حافات المسطحات المائية تحدث عمليات المد والجزر التي تسمح للحيوانات الصغيرة كالسرطانات الكمانية بالظهور، وتستخدم الذكور مخلبا واحدا فقط، بينما تستطيع الإناث استخدام مخلبيها معا.

هذا المخلب الكبير الذي يتمتع به الذكر يظهر كقفاز يستخدمه كأداة لإخافة منافسيه، ويعد حجم المخلب بين السرطانات أكثر أهمية من الكائن نفسه.

 

وتعيش هذه السرطانات بالقرب من غابات المنغاروف، وعند انحسار المد تظهر الحيوانات آكلة السرطانات كقرود المكاك الرشيقة ذات الذيول الطويلة، كما تعتمد الخنازير الملتحية في نظامها الغذائي على بعض من هذه السرطانات.

تنتشر في هذه البيئة أيضا أسماك نطاط الطين البرمائية، وتمتلك هذه الأسماك الخياشيم، لكن عليها التقاط أنفاسها على اليابسة، وتحاول الذكور جلب الإناث من خلال البقع الزرقاء الزاهية المنتشرة على الجلد وببعض الإيماءات والحركات الاستعراضية.

أما ذكور السرطانات الكمانية فتقوم باستعراض مخلبها والقيام بالرقص والتنافس فيما بينها لجذب انتباه الأنثى فترة التزاوج.

ألوان الفراشات.. أطوار من الزخارف الساحرة

يمكن أن يكون نقص الألوان في الطبيعة مبهرا مثل كثرتها، ففراشة الجناح الزجاجي ذات المظهر الأخاذ تبهرنا بجناحيها الشفافين، إذ تقوم تلك الأجنحة بامتصاص الضوء، ثم تنثره فتصبح غير مرئية تقريبا، وهي وسيلة لحماية نفسها من المفترسات.

وقد تبدو الفراشات التقليدية أقل غرابة من نظيراتها ذات الجناح الزجاجي، لكنها تأتي في مجموعة مذهلة من الألوان والأنماط.

 

ويرفرف أكثر من 160 ألف نوع من الفراشات الملونة في جميع أنحاء العالم، بتدرجات في غاية الجمال ولكل منها سماتها المميزة، حيث تبدأ دورة الفراشة بالبيض الذي يصبح شرنقة ليست أقل سحرا من الفراشات المكتملة، فبعضها أخضر أو مموه، والآخر كثيف الشعر أو مخطط أو لامع أو غريب بكل بساطة.

ومثل كل اليرقات تخضع الفراشة الملكية لتحول كامل، فهي لا تشبه شكلها في طور اليرقة، لكنهما تشتركان بالألوان، فألوانهما تُبعد الحيوانات المفترسة، كما أنها تستهلك سموما قد تؤذي أي حيوان يحاول أكلها. وتسافر تلك الفراشات بأسراب كبيرة بين السماء والأرض، وتحميها ألوانها من المفترسين.

طيور الفلامنغو.. نظام غذائي يكسو الريش بألوان مبهرة

كوكبنا سيمفونية من الألوان، من أشكال الحياة التي تسكنه إلى المناظر الطبيعية التي تشكله، من المعادن التي تشكل سلاسل جبلية بأكملها، وصولا إلى البكتيريا والطحالب المجهرية التي تصبغ المسطحات المائية بظلال استثنائية.

 

فنحن نعيش في عالم من الألوان الأخاذة، حتى أن الغلاف الجوي يضيء أحيانا بألوان مذهلة، إذ يتشكل قوس قزح نتيجة انعكاس ضوء الشمس داخل قطرات الماء بعيد المطر ومن ثم انكساره وتشتته، أما اصطدام الرياح الشمسية بالمجال المغناطيسي فتنتج عنه الأضواء القطبية الساحرة (الشفق القطبي).

وعندما يصطدم ضوء الشمس بسطح الماء فإنه يرتد بانعكاسات قوية، وفي ظل هذا الضوء تظهر طيور الفلامنغو الزاهية عديمة اللون، لكن في أحيان أخرى يظهر ريشها الأكثر تميزا بالألوان في مملكة الحيوان. ولا تولد طيور الفلامينغو بهذا اللون، ولكن ذلك يعود إلى نظامها الغذائي الذي يعتمد على أكل السرطانات والقشريات، حيث يقوم الريش بامتصاص الأصباغ من تلك القشريات.

 

وتطعم طيور الفلامينغو صغارها من حليب الحوصلة الموجود في مسالكها العضوية صبغة البيتاكاروتين الموجودة في نظام الأبوين الغذائي، فتصبغ الحليب باللون الأحمر، ومع نموها تكتسب اللون الزهري تدريجيا، ثم تكبر مناقيرها لتصبح مثل والديها.

وقد يبدو لون طائر الفلامينغو الوردي نادرا لكنه ليس أندر لون في العالم الطبيعي، فها هو طائر الأخبل يختال بقدميه الزرقاوين الزاهيتين اللتين تعتبران رمزا جنسيا قاطعا، إذ تتميز هذه الطيور بأنها أحادية الزواج حيث تبقى الأنثى مع شريكها، فلا حاجة له لتكرار طقوس مغازلتها كل عام.

وينتج اللون الأزرق في القدمين بسبب النظام الغذائي وترتيب الكولاجين، ويدل هذا اللون على تمتع الذكر بصحة جيدة، ويقوم الذكر البالغ حديثا بمغازلة الإناث حتى يحصل على شريكة حياة دائمة، وتقدم الذكور موادا لبناء الأعشاش كهدايا للإناث.

بناء العش والرقص.. وسائل إغواء الإناث في موسم التزاوج

في الغابات الشاسعة قد تخيف الألوان الزاهية الأعداء أو قد تجذب العشاق، ويقع في الفئة الثانية طائر التعريشة الساتاني المزين بريشه القزحي الملون بالأزرق والبنفسجي والأسود، حيث تقوم الذكور ببناء العش بأخشاب رقيقة، وتقوم الأنثى بالموافقة عليه وفقا لقدرته على البناء الذي قد يتعرض للتخريب من قبل منافس آخر، أما إعادة البناء فهي دليل آخر على مدى قدرة الذكر على حماية العش والأنثى.

ويقوم الذكر كذلك بتزين العش بالريش والأصداف وحتى القمامة البلاستيكية، وبعد ذلك يقوم بأداء طقوس الرقص أمام الأنثى لمحاولة جذبها.

 

أما العناكب، فبعضها متناه في الصغر ولا تظهر ملامحها الملونة إلا عن مسافة قصيرة جدا. وتبذل ذكور عناكب الطاووس التي لا يزيد طولها عن بضع مليمترات جهدا كبيرا في اجتذاب الإناث، اذ يقوم الذكر بالرقص ورفع بطنه المتلألئ من ثم يبدأ بتحريك جسده، فلا يُعجب ذلك الأنثى فيضاعف المجهود بشكل أكبر، حتى تتم عملية التزاوج التي تعتبر صعبة جدا عند العناكب، لكن الأنثى بعد ذلك تقوم بقتله والتهامه.

أخيرا، هل كوكب الأرض أخضر بسبب كثرة المساحات الخضراء فيه؟ أم هو أزرق بس امتداد المسطحات المائية؟

الحقيقة أنه مليء بالألوان زاخر بالعجائب والأسرار، إنه حقا عالم ساحر ينبض بالحياة وكل شيء يدل على قدرة الله تعالى.