“الأصْليين”.. زورق سينمائي يبحر بين دعاية السلطة وتوعية المواطن

خاص-الوثائقية
“كل الكائنات الحية التي تُستأنس مثل الدجاج يمكن وصفها بالدواجن، حتى البشر”..
كانت هذه افتتاحية فيلم “الأصليين” الذي كتبه الروائي أحمد مراد، وأخرجه وحيد حامد، وهو فيلم صنّفه مؤلّفه بأنه من الخيال العلمي، بينما يرى كثير من النقاد أنه واقعي مئة بالمئة.
ففي صيف 2017 عرضت دور السينما فيلم “الأصليين”، ولم يحقق يومها إيرادات مالية كبيرة، ولكنه في المقابل تصدّر الجوائز السينمائية المحلية في 2018 وفي عدة مهرجانات، الأمر الذي دعا قناة الجزيرة الفضائية لإفراد حلقة خاصة له من برنامج “خارج النص”، وتستضيف مجموعة من المثقفين والنقاد السينمائيين لإلقاء مزيد من الضوء على هذا الفيلم المثير للجدل.
حماة الوطن.. وظيفة مغرية لمصرفي مطرود
قَدّم صنّاع فيلم “الأصليين” فكرة لم تُطرق بهذا العمق من قبل في السينما العربية، وتدور حول عمليات التجسس والمراقبة التي تخضع لها الشعوب، مُعَرِّضا بكيانات سياسية وشركات عملاقة تستخدم التكنولوجيا للدخول إلى مساحات شخصية لم تكن تنتهك من قبل، وهو الأمر الذي أثار جدلا كبيرا في أوساط النقاد والمهتمين بصناعة السينما.
وتتحدث قصة الفيلم عن موظف بنك يطرد من عمله، ثم تتعرض له منظمة غامضة تطلق على نفسها اسم “الأصْليين”، ويقدِّمون أنفسهم على أنهم حماة الوطن، ويغرونه بوظيفة قوامها مراقبة أناس معينين، فيكتشف أن جميع من حوله مراقبون وخاضعون للسيطرة بطريقة ما من جهة معينة، فيتمرد وينفصل عن هذا المحيط، في نهاية مفتوحة للفيلم.
رسائل سياسية في ظلال الفانتازيا.. نخبوية الفيلم
يرى الكاتب والناقد أسامة الشاذلي أن الفيلم من الخيال العلمي الذي يحوي كثيرا من الفانتازيا، بينما علّقت الناقدة السينمائية ماجدة خير الله أن الفيلم سياسي بامتياز، ويتحدث عن الدولة التي تحكم قبضتها على المواطن من خلال التجسس على جميع تفاصيل حياته، وبكل الوسائل لإعادة صياغته وتشكيله.

لكن ذهب الناقد السينمائي أحمد السماحي إلى أن الفيلم سياسي ومليء بالأفكار والدعوة إلى تشغيل العقل بمزيد من الثقافة، وأن المواطن مدجن طالما أنه لا يتسلح بالمعرفة. أما الناقد أحمد سعد الدين فقال: غالبا ما تصنف الأفلام على ثلاثة أنواع: الأول نخبوي، والثاني للطبقة الوسطى، والثالث شعبي، وهذا الفيلم نخبوي بامتياز، يستدعي تفكير المشاهد، وفيه الكثير من الغموض والإثارة.
نص على مقاييس الجميع.. ذكاء الكاتب والرقيب
على عكس المتوقع لم تدخل الأجهزة الرقابية في صدام مع الفيلم، مع أنها كانت حساسة تجاه أي عمل يحتوي على نقد سياسي وإنْ بطريقة مستترة. فقد عرض الفيلم بنسخته الكاملة دون أن يتعرض له مقص الرقيب، مما أثار كثيرا من التساؤلات والتكهنات. ولكن يحسب للكاتب أنه كان يعرف المحددات والأطر التي ينبغى عليه مراعاتها عند كتابة نصوصه.
وحول هذه النقطة يقول الناقد السينمائي محمد حجازي: لم يكن كتّاب النص هم الأذكياء فقط، بل إن السلطة والرقابة كانوا أذكياء أيضا عندما وظفوا هذا النص لخدمة أهدافهم في جعل الجمهور يشعر دائما أنه تحت رقابة أجهزة الدولة المختلفة.
ويحتوي الفيلم على كثير من الأسئلة التي هي من أهم أدوات السينما، بينما تترك الإجابة غالبا لجمهور المشاهدين.
“رشدي”.. شخصية غامضة تمثل مفتاح المنظمة
يقدم تنظيم “الأصليين” السري نفسه على أنهم حماة الوطن، ويعتبرون أنفسهم فوق البشر بحكم وظائفهم الحساسة ومراكزهم المرموقة، يقول الصحفي عمر الشال: إذا أردنا إسقاط “الأصليين” على المجتمع المصري فسيكونون ممثلين بعدة جهات أو أجهزة، على رأسها الأمن الوطني والمخابرات وبعض الشركات الحساسة التي تزود هذه الأجهزة بتكنولوجيات التجسس والمراقبة.

تمثل شخصية “رشدي” الغامضة مفتاح منظمة “الأصليين”، وهو يظهر طوال فترة الفيلم بهيئات مختلفة، فتراه أحيانا بزيّ الموظف الحكومي البسيط، ويكون تارة رجل الدين الصوفي العميق، أو تلك الشخصية المتنفذة في جهاز سيادي. كل هذه الشخصيات مؤتلفة في شخصية غامضة واحدة؛ “رشدي أباظه”.
“محدِّش مش متراقِب”.. عبارة تلخص أفكار الكاتب
يرى بعض النقاد أن الفيلم ليست له علاقة بالدولة، بل يتعدى الحدود الضيقة ليطال الحديث الرأسمالية العالمية، ففي زمن سيطرة شركات التكنولوجيا العملاقة، أصبح المستخدم سلعة تباع وتشترى، وصارت معلوماته الشخصية وخصوصياته الداخلية مُلكا لهذه الكيانات العملاقة، تبيعها لشركات التسويق التي تغرقه بسيول جارفة من الإعلانات والدعايات لكل ما يجذب اهتمامه.
فتح فيلم “الأصليين” نقاشا متشعبا حول أحقية أجهزة الدولة بالتجسس على مواطنيها، وما يلزم من هذه المراقبة لحماية الأمن المجتمعي وما هو انتهاك للخصوصية، وما إذا كان القصد منها ملاحقة النشطاء وأصحاب الرأي فقط. وبالمجمل فقد كانت العبارة المفتاحية التي دارت عليها أحداث الفيلم هي “محدّش مش مِتراقب”، وهي تلخص كل ما يريد الكاتب أن يقوله.

وقد تباينت آراء النقاد بين مؤيد لفكرة المراقبة بالمطلق، وبين معارض بالكليّة وبين من يرى أن المراقبة تكون فقط على المشتبه بقيامهم بأنشطة إجرامية تعرض حياة الآخرين للخطر. ولكنّ المجمَع عليه أن الفيلم -والدولة من ورائه- أراد أن يوصل رسالة مفادها أن الجميع مراقَبون، وأن هذه الحقيقة باتت حالة عامة يجب على المجتمع أن يقبل بها ويتعايش معها.
“سمير”.. نهاية مفتوحة لبطل الفيلم الهارب من المدينة
حمل الفيلم مجموعة من الأفكار السياسية والدينية، فقام بتوظيف التراث الشعبي والمقدّس الديني، للسيطرة على شرائح المجتمع من قبل أفراد وهيئات متنفذة في السلطة، وذلك باستغلال نقاط الضعف المختلفة لدى الأفراد، والدخول إلى كينونتهم، باستخدام تلك الأدوات الدينية والموروثات المجتمعية كأدوات ضغط وإقناع وتغيير للأفكار.
اختار صنّاع فيلم “الأصليين” نهاية مفتوحة، تاركين الباب مشرعا للمشاهدين والنقاد ليتخيلوا مستقبل العلاقة بين الموظف “سمير” ومندوب الأصليين “رشدي”، وطرحوا مجموعة من الأسئلة التي قد لا تكون لها إجابات. لكن حتى في هذه الجزئية لم يُسلّم جميع النقاد بأن النهاية كانت مفتوحة، فقد اختار “سمير” أن يلقي بهاتفه المحمول ويترك المدينة ليعيش خارج سيطرة “الأصليين”.
لقد اختار “سمير” مرحلة الأمان النفسي المؤقتة، أراد أن يعيش في سلام خارج منظومة السيطرة، ولكنه في المقابل ضحّى بكل الأجهزة والأدوات التي سوف تبقيه على تواصل مع مجتمعه الإنساني المحيط، وهذه بحد ذاتها جدلية مثيرة لهذا الكائن الذي خلقه الله اجتماعيا بالطبع.
محاولة الفكاك من العصا والجزرة.. رسالة إلى المواطن
جاء فيلم “الأصليين” بين متّهِم لصنّاعه بالتواطؤ مع السلطة الحاكمة، والانقياد لإرادتها في محاصرة مجتمع المواطنين، والإيحاء لهم بأنهم مراقبون على الدوام ولا فكاك لهم من براثن السلطة المطبقة عليهم، وبين مرحِّب بهذا العمل الجريء الذي يكشف للمواطن أحابيل السلطة وشِباك شركات التكنولوجيا، لإبقائه متيقظا وتحذيره من الوقوع في شِراكها.

في النهاية، يريد الفيلم أن يقول إنه يجب على المواطن أن لا يكون أسير ما يطرح عليه من خارجه، بل إن عليه أن يُعمِل عقله وفكره في كل ما يعرض عليه، عليه أن يحسن الاختيار بين ما يجب عليه فعله وما يلزمه تجنبه، وأن لا يخضع للتأثير الخارجي الذي يستخدم ضده أسلحة الترغيب والترهيب، أو سياسة العصا والجزرة.
ليس شرطا أن يسلك طريق التطرف والعدوان والتمرد العنيف، ولكنْ بالوعي واللباقة وحسن التصرف يمكن للمواطن البسيط أن يتقي شر السلطة، وأن ينأى بنفسه عن الإضرار بغيره من إخوانه المواطنين بحجة أنه من حماة الوطن “الأصليين”.