“مقياس كارداشيف”.. معايير استغلال الطاقة التي ترسم سلم الحضارات الكونية

يمان الشريف

شهد القرن العشرون نهضة جذرية في الحضارة البشرية تمثّلت في تطورات واكتشافات عدّة بأعداد غير مسبوقة في مدة زمنية محدودة على أصعدة شتى جاءت على أعقاب التقدم العلمي في القرن التاسع عشر. ففي مضمار الفيزياء ظهرت نظريتا النسبية، وتأسيس علم ميكانيكا الكم، كما ساهمت قوانين فيزيائية أخرى في اختراع القنبلة النووية الأولى، وعززت النماذج المستحدثة للذرة في تطوّر علم الكيمياء، ونمت آليات مبتكرة في صناعة مواد جديدة مثل النايلون والبلاستيك. وعلى صعيد علوم الأحياء ازدهرت عملية إنتاج الطعام على نطاق واسع، واكتشف لقاح شلل الأطفال ممثلا أبرز الإنجازات الطبية في تلك الحقبة.

 

وظهرت الكهرباء وأخذت المصابيح الكهربائية تنير المدن والطرقات، كما ظهرت المراكب والحافلات، وكذلك الطائرات التي ربطت بين الأمصار والدول، حتى بات العالم كوكبا أصغر من ذي قبل. وقد كان لاختراع التلفاز علامة فارقة كذلك، كما هو الحال بالنسبة للحاسوب في عملية نقل البيانات وحفظها.

والقائمة تطول وتكاد لا تنتهي إذا ما تطرقنا إلى جميع الإنجازات البشرية خلال تلك الحقبة المميزة من التاريخ، وفي خِضَم هذا التقدم الملفت، كان تساؤل يجول في مقرات المراكز الأكاديمية عن النقطة التي وصلتها البشرية في سُلّم التحضر والتطور، وما تلك الآلية التي يُستند عليها في تحديد رتبتنا الحضارية.

كان عالم الفلك السوفياتي “نيكولاي كارداشيف” منهمكا في الإجابة على هذا التساؤل بشكل غير مباشر في أثناء عمله مع فريق روسي ضمن مشروع فلكي ضخم يُدعى “برنامج البحث عن ذكاء خارج الأرض”، ويضمّ عدة فرق علمية على مستوى العالم للبحث عن بقايا آثار تكنولوجيا لحضارات بائدة أو ربّما ما زالت على قيد الحياة في الكون.

لقد رأى “كارداشيف” أنّ تصنيف الحضارات من شأنه أن يفتح بابا علينا في اكتشاف الحضارات الأخرى في الكون، فأقدم على وضع جدوله المعروف بـ”مقياس كارداشيف” الذي يصنف الحضارة الذكية وفق معيار خاص.

استهلاك الطاقة.. معايير التقدم الحضاري في حقل التكنولوجيا

إن المعيارية في تصنيف الحضارات يبدو شائكا إذا ما تناولنا الأمر بمجمله، فالبشرية حتى هذه اللحظة ما زالت تعاني من كوارث طبيعية كالأوبئة، وأخرى بشرية مثل الحروب المتراكمة، وهذا من شأنه أن يقلل حظوظها في التطور الحضاري، ولكن يرافق ذلك جنبا إلى جنب تقدم مبهر في العلوم والتكنولوجيا، إلا أننا لا ندري حجم الإنجاز الذي حُقق، في نظير ما لم يحقق بعد، وهذه مشكلة أخرى يعجز المرء تداركها.

 

ولتجنب هذه المعضلة، اختار “كارداشيف” معيار الطاقة المستهلكة في تحديد هوية أي حضارة، لأنه رأى بأنّ حجم استغلال الطاقة المتوفرة يتوافق طرديا مع متطلبات الحضارة (تكنولوجيا)، وهذا يُعد مؤشرا كافيا في تحديد التقدم التقني للحضارة.

وقد جاء تقسيم “مقياس كارداشيف” في بادئ الأمر على ثلاثة مستويات في ورقة علمية قُدمت في مؤتمر “بيوراكان” بأرمينيا عام 1964، وأضيف للمقياس ثلاثة مستويات أخرى لاحقا، وهي على النحو الآتي:

المستوى الصفري.. مصادر الطاقة الخام في الحضارة البدائية

تستخرج هذه الحضارة الطاقة من مصادر خام من مواد عضوية مثل الخشب والفحم والنفط، مع استفادة جزئية من أشعة الشمس. وأي صواريخ فضائية تستخدمها مثل هذه الحضارة، سوف تعتمد بالضرورة على محركات ذات تفاعل كيميائي محدود الكفاءة.

ونظرا إلى أنّ السفر بطيء للغاية في هذه الحضارة، فإن التنقل هنا في الغالب يكون محصورا ضمن نطاق ذات الكوكب الذي تقيم عليه الحضارة.

المستوى الأول.. حضارة تستغل كل قطرة من الطاقة

تعد الحضارة الكوكبية أعلى منزلة من التي قبلها على نحو طفيف في السلم الحضاري، والفرق يكمن بالقدرة على استغلال جميع مصادر الطاقة المتاحة على الكوكب، وبحكم أنّ الطاقة الشمسية هي أكثر مصادر الطاقة وفرةً في الطبيعة، فسيكون بمقدور الحضارة استهلاك كلّ ضوءٍ يسقط على سطح الكوكب قادما من النجم القريب منها.

ترسل الشمس بطاقة هائلة كل ثانية، فهل يمكن استغلالها لخير البشرية وحضارتها؟

 

وتقدّر الطاقة الشمسية القصوى التي يمكن استغلالها على كوكب الأرض بما يعادل 100 ألف تيراواط، وهذا الكم الهائل يعادل طاقة ناتجة عن مئات من القنابل الذرية المتفجرة في الثانية الواحدة.

المستوى الثاني.. حضارة تلتهم الطاقة حول المحيط النجمي

تمثل الحضارة النجمية مستوى أعلى وأشمل لمفهوم استغلال الطاقة الشمسية، فبدلا من أن يكون مقصورا على سطح الأرض لتلقي أشعة الشمس، يجري استغلال الطاقة الشمسية جميعها على نطاق مكاني أوسع حول النجم نفسه، وهي طاقة تقدّر بمليار إكساوات (واحد الإكساوات يعادل ترليون تيراوات).

“غلاف دايسون”هو هيكل افتراضي كروي، يطوّق الشمس فيستغل كلّ شعاع ضوئي وحراري منبعث منها

 

ومن هنا تبدأ الأمور بأخذ منحنى مبهم وأكثر تعقيدا، فما من آلية حقيقية بعد تخوّل الإنسان للوصول إلى عملية حصد الطاقة هذه. إلا أنّ ورقة بحثية صدرت في ستينيات القرن الماضي بواسطة عالم الفيزياء النظرية البريطاني “فريمان دايسون”، طرح بها هيكلا افتراضيا مقعّرا كرويا وضخما للغاية، يطوّق النجم فيستغل كلّ شعاع ضوئي وحراري منبعث، ويُطلق عليه “غلاف دايسون”.1

ونظرا لإمكانيات البشر الحالية، لا يبدو أمر بناء مجسم كهذا ممكنا هندسيا في الوقت الحالي، ولا توجد أيّ إشارات على المدى البعيد، لكن قد يكون ممكنا بالنسبة لحضارات ذكية أخرى في الكون سبقتنا بملايين السنوات، وهو ما عكفت عليه أقمار الرصد في البحث عنه في غياهب الكون.

ويشير “داوسن” إلى أن بناء قشرة صلبة بهذه الضخامة مستحيل ميكانيكيا، وربّما يستبدل ذلك بأنماط هيكلية أخرى مثل سرب من الأبنية المستقلة التي تشكّل كرة ضخمة، أو قرص دائري كبير وفي مركزه النجم.

المستوى الثالث.. حضارة تسخر الطاقة في أرجاء المَجرّة

في هذا المستوى الثالث ستتمكن الحضارة المجرية من تسخير الطاقة الناتجة من المجرّة التي تقبع بها على نحو كامل وشامل، وهو ما يعادل 10 مليارات ضعف كمية الطاقة الناتجة من المستوى الثاني، ولكي نصل إلى هذا المستوى فإنّ علينا النمو بنفس المعدل الذي نحن عليه اليوم لفترة زمنية تتراوح بين 100 ألف إلى مليون سنة.

حضارة قادرة على استغلال جميع مصادر الطاقة داخل المجرة هي حضارة من المستوى الثالث بمقياس كارداشيف

 

هذه الحضارة قادرة على استغلال جميع مصادر الطاقة داخل المجرة من نجوم وثقوب سوداء وانفجارات لمستعر أعظم وانبعاثات من الكوازارات، ونحو ذلك من مصادر الطاقة الهائلة جدا، وما من أيّ إشارة عملية ولا حتى نظرية في إمكانية تحقيق ذلك حتى هذه اللحظة.

ولأنّ “كارادشيف” خمّن بأنّ هذه أقصى نقطة قد تصلها حضارة ما، فقد توقف عند هذا الحد ولم يكمل، إلا أنّ من تبعوه أضافوا مستويين إضافيين على ما ذكر.

المستوى الرابع.. حضارة تحيط بالكون وتتلاعب بالزمكان

يزداد الأمر جنونا في المستوى الرابع، فبدلا من أن تكون مجرة واحدة، سيكون الكون برمته داخل حيز الطاقة المستغلّة بكل ما يحتويه من مجرات طولا وعرضا، أي أكثر من مليار تريليون شمس ونجم. ستمتلك هذه الحضارة قدرة على التنقل اللحظي من مكان إلى آخر عبر التلاعب بنسيج الزمكان، أو ربّما إحداث تباطؤ للإنتروبيا (استعمال الطاقة والشغل من أجل تقليل العشوائية في الكون) أو عكس سيرها، مثل ما حدث في فيلم الخيال العلمي “تينيت” (Tenet).

 

لعلّ هذا المستوى الحضاري بعيد المنال عن قدرة البشر، وهو ما يرجحه الناقدون والعلماء، فضلا عن الفترة الزمنية الطويلة للغاية التي ستقتضي وصول حضارة إلى هذه القدرات الفائقة التي تُعد أقرب إلى الإعجاز.

المستوى الخامس.. أم الحضارات ذات الأكوان المتعددة

في ختام التقدم والتطور، وفي أكثر المستويات تحديا وخرقا للطبيعة، وعلى قمّة التسلسل الحضاري في معيار “كارداشيف”، ستصل الحضارة إلى قدرة التحكم بالطاقة واستغلالها على مستوى عدة أكوان، هذا إن صدقت نظرية الأكوان المتعددة. فكل ما هو في المستوى الرابع سينطبق على المستوى الخامس، لكن على نطاق أوسع بكثير لا يجد له حدّا.2

حضارة العصر.. كفاح الإنسان القابع في مستوى الصفر

على الرغم من أن الغاية وراء “مقياس كارداشيف” هو الكشف والتنقيب عن الحضارات الفضائية في الكون، فإن من الممكن إسقاط هذا المقياس على الحضارة البشرية نفسها. وقد صاغ عالم الفلك الأمريكي “كارل ساغان” معادلة لقياس مستوى الحضارات لا سيما الحضارة البشرية، وبتعويض مباشر نجد أنّ متوسط استهلاك البشر وفق استطلاعات لعام 2018 يعادل 18.4 تيراواط.

استغلال الطاقة في الأكوان المختلفة هو أعلى مستويات الحضارة في مقياس كارداشيف

 

بينما أشار عالم الفيزياء النظرية “نيتشو كاكو” إلى أننا بهذه النتائج ما زلنا قابعين في المستوى الصفري، ولو رفعنا مستوى استهلاك الطاقة إلى 3% من كل عام فإننا سنصل إلى المستوى الأول خلال 100-200 عام، وسنصل إلى المستوى الثاني في غضون بضعة آلاف من السنين.

ولا ينبغي أن ننسى أنّ الارتقاء إلى المستوى الثاني لن يكون بالأمر الهيّن مطلقا، فاستغلال طاقة النجم استغلالا كاملا يُعد تحديا حقيقيا أمام دهاء العقل البشري على الرغم من وجود حلول نظرية. هذا باعتبار أنّ معدل الازدهار التقني والعلمي في نموٍ ثابت ومستمر، ولو أنّ حربا نووية حدثت على سبيل المثال، أو نيزكا سقط على الأرض، فربما يودي بالحضارة البشرية ويهوي بها في السلم الحضاري، ويعيدها إلى ما قبل العصر الحجري.3

ويرى بعض العلماء أنّ من الإجحاف التعامل مع الحضارة البشرية على هذا النحو، فما توصلنا إليه من تقدم كفيل بأن يضعنا في تقييم أعلى من ما افترضه عالم الفيزياء “نيتشو كاكو”.

“جون بارو”.. معايير بديلة لقياس مستويات الحضارة

يشير الفلكي البريطاني “جون بارو” إلى أن الحضارة البشرية وجدت نفسها أكثر كفاءة في تسخير طاقاتها في النطاقات الصغيرة (الدقيقة) بدلا من النطاقات الكبيرة، لذا اقترح مقياسا مشابها ومعاكسا لـ”مقياس كارداشيف”، يتجه بشكل تنازلي بالسالب:

هل ثمة حضارات متقدمة علينا بأشواط، أم أننا الوحيدون في الكون؟

 

المستوى الأول السالب: قدرة الحضارة على التعامل مع الأشياء وفق أحجامها الطبيعية، كبناء الهياكل والتعدين والتلحيم وكسر المواد الصلبة وغيره.

المستوى الثاني السالب: قدرة الحضارة على التلاعب بالجينات وتغيير تطور الكائنات الحية، وزرع أو استبدال أجزاء من أجسادها، وقراءة وهندسة شيفراتها الجينية ونحوه.

المستوى الثالث السالب: قدرة الحضارة على التلاعب بالجزيئات والروابط الجزيئية لصناعة مواد وتراكيب جديدة.

المستوى الرابع السالب: قدرة الحضارة على معالجة الذرات الفردية، لابتكار تقنيات النانو على النطاق الذري، وصنع أشكال معقدة من الحياة الاصطناعية.

المستوى الخامس السالب: قدرة الحضارة على معالجة النواة وهندسة الأنوية التي تتكون منها.

المستوى السادس السالب: قدرة الحضارة على معالجة معظم الجسيمات الأولية للمادة مثل الكواركات واللبتونات، لتشكيل هياكل ذات تعقيد منظم ضمن مجموعة الجسيمات الأولوية.

المستوى أوميغا سالب: قدرة الحضارة على التلاعب بالهيكل الأساسي للنسيج الكوني (الزمكان).4

ووفقا لهذا التصنيف فإن الحضارة البشرية تقع في مكان ما بين المستوى الثالث والرابع السالب، بعد أن قطعت شوطا طويلا في علوم الكيمياء والبيولوجيا، وكذلك في علم النانو والهندسة الوراثية. ودون إغفال الخبرة والتجربة واسعة النطاق في مجال الفيزياء النووية وحقولها الفرعية ضمن المستوى الخامس السالب.

وكذلك في المستوى السادس السالب ثمّة تطبيقات تجريبية في مجال فيزياء الجسيمات بواسطة استخدام مصادمات الجسيمات مثل “مصادم الهادرونات الكبير” التابع للمنظمة الأوروبية للأبحاث النووية “سيرن”.

يرتهن ترتيب الحضارة البشرية وفق مقياس “كارداشيف” أو المقياس البديل بمقدار التقدم المعرفي والتطور

 

على أي حال، فإنّ ترتيب الحضارة البشرية بالنسبة للفيزيائيين وعلماء الفلك وفق مقياس “كارداشيف” أو المقياس البديل يبدو مرهونا بمقدار التقدم المعرفي والتطور، تزامنا مع كمية الطاقة المستهلكة، في حين قد يختلف مختصون كثيرون في مجالات أخرى في تحديد نمط التطور الحضاري للبشرية، مثل عموم السلام على الكوكب وتوقف الحروب، أو إنهاء المجاعات والتصدي للأوبئة، وغيرها من العوامل التي يُنظر إليها بأنها أولى بأن تكون المعيارية الحقيقية في تحديد التقدم الحضاري للإنسان الحديث.

 

المصادر:

[1] مان، آدام (2019). ما هي كرة دايسون؟. تم الاستغلال من: https://www.space.com/dyson-sphere.html

[2] كريتون، جولين (2016). شرح موجز لمقياس كارداشيف: إلى أي مدى يمكن للإنسانية أن تتقدم حقًا؟. تم الاسترداد من: https://futurism.com/the-kardashev-scale-of-civilization-types

[3] رافي، براسون (2021). مقياس كارداشيف. تم الاسترداد من: https://medium.com/the-treatise/the-kardashev-scale-6e38b5846744

[4] محررو الموقع (التاريخ غير معروف). ماذا لو كانت الإنسانية تعيش في مقياس كارداشيف العكسي. تم الاسترداد من: https://factsonfire.in/what-if-humanity-lives-in-a-reverse-kardashev-scale/


إعلان