“يا ديرتي”.. عندما ترد أسمهان تهمة الخيانة بالغناء

خاص-الوثائقية

الأميرة آمال الأطرش، أو “أسمهان”، واحدة من أشهر المطربات العربيات، حياتها ومماتها يكتنفهما الكثير من الغموض، وتدور القصص والأساطير عن تفاصيل وفاتها ويتناولها الناس حتى يومنا هذا. فمن قائلٍ إنها ماتت في حادث غرق، إلى قائل إنها ماتت مقتولة، لكنّ العرّافة قالت لها يوما: خُلِقتِ فوق الماء وستموتين تحت الماء.

 

ولعل القصيدة التي كتبها “زيد الأطرش” وغنتها أسمهان في أحد أفلامها “غرام وانتقام” عام 1944، تعتبر واحدة من أهم الأغاني التي قدمتها للجمهور العربي. لذا فقد أفردت لها قناة الجزيرة الوثائقية حلقة بعنوان “يا ديرتي”، ضمن سلسلة “حكاية أغنية”.

الشعر ديوان العرب.. صفحات التاريخ إذ تُكتب شعرا

قدمت أسمهان مطلع الأغنية موالا، تغنّت فيه بالبيت الذي صدّر به الأمير “زيد الأطرش” قصيدته، وقال فيه:

يا ديرتي ما لك علينا لوم.. لا تعتبي لومك على من خان

وكان لهذا البيت قصة تُروى، وفيها أن بيت شِعرٍ مجهول المؤلف كان قد وصل إلى أسماع سلطان باشا الأطرش وصحبه في منفاهم بمنطقة وادي السرحان، يقول فيه شاعره:

يا ديرتي ما لك علينا لوم.. لا تعتبي لومك على سلطان

 

والمقصود هنا سلطان باشا الأطرش مفجر الثورة السورية الكبرى (1925-1927). وبعد أن تمكنت فرنسا من إخماد الثورة خيَّرت المقاومين بين الاستسلام والنفي فاختاروا النفي.

وقد لقي مواطنو “جبل الدروز” بعد نفي أصحابهم حالة من بطش فرنسا بالأهالي وإحراق محاصيلهم الزراعية وهدم بيوتهم، فعانوا من التشرد والجوع ما عانوا، فصب مرضى النفوس منهم جام غضبهم وعتبهم على سلطان باشا، ليقول قائلهم ذاك البيت مُعَرِّضا بسلطان.

فلما سمع الأمير زيد الأطرش ذلك البيت المشبوه رد عليه بقصيدة كان مطلعها:

حيّاك يا علمٍ لِفانا اليوم.. من صُربةٍ بديرة الريان

أبطال وبظهر السبايا دوم.. فوق دُمّر كأنهم عُقبان

لا بد ما تغدي ليالي الشوم.. وتعتزّ تربة يقودها سلطان

يا ديرتي ما لك علينا لوم.. لا تعتبي لومك على من خان

الأغنية السياسية.. رد تهم الخيانة بالشعر والغناء

يقال إن أسمهان استخدمت تلك القصيدة لتوصل رسالة من الحلفاء إلى المقاومين في سوريا وجبل الدروز بأن لا يعترضوا قوات الحلفاء، وذلك في مقابل وعد من حكومة “فيشي” بإعطائهم الاستقلال. وبعد أن تنكر الحلفاء للسوريين بعد انتصارهم في الحرب العالمية الثانية، توجهت إلى أسمهان أصابع الاتهام بالخيانة.

وجدت أسمهان نفسها في وضع مُشابه لحال سلطان الأطرش، فاستخدمت القصيدة لتصحيح وجهة نظر الناس عنها وإضفاء صفة الوطنية عليها، وذلك لما للشعر من مكانة في توجيه الرأي آنذاك في جبل العرب، فغنت:

حِنّا روينا سيوفنا من القوم.. مثل العدو ما نرخصك بأثمان

الأميرة آمال الأطرش (أسمهان) وأمها وأخواها فؤاد وفريد الأطرش

 

وقد استخدمت أسمهان الموال، وهو عمل موسيقي حرّ للبوح بأحاسيسها وعواطفها المتدفقة وتوصيل رسالتها لمن يعنيه الأمر.

وكان الموال من مقام “الهزام”، وهو يستخدم لإيصال رسائل الفرح والسعادة، ولكن أسمهان بحساسيتها العائلية وذوقها الموسيقي المرهف استطاعت توظيف هذا المقام لتوصيل رسائل الأسى والحزن.

أسمهان.. أميرة خُلِقت فوق الماء وماتت تحته

اسمهان هي الأميرة آمال الأطرش، سليلة عائلة الأطرش المعروفة في جبل العرب، ولدت على متن سفينة متوجهة من تركيا إلى بيروت، وانتقلت مع والدتها وشقيقيها للعيش في مصر، وهناك سطعت شمسها الفنية، وتزوجت من الأمير حسن ياشا الأطرش، وانتقلت معه للعيش في سوريا.

وقد كانت تلك نقلة نوعية في حياتها، حيث فارقت بيئة اللهو والموسيقى إلى بيئة الأمراء المحافِظة، فلم يرق لها ذلك، واختارت الطلاق من أجل العودة إلى حياتها الفنية في مصر، فلا يجوز بحال أن تجمع بين كونها أميرة ومغنية في آن واحد.

أسمهان أو الأميرة آمال الأطرش إلى جانب زوجها الأمير حسن باشا الأطرش

 

لم تطفئ الأغنية جذوة النار المشتعلة في صدر أسمهان بعد تهمة الخيانة التي ألصقت بها، فاتصلت بصديقتها واتفقتا على الخروج في رحلة إلى “راس البرّ” على الساحل الشمالي في مصر، وفي الطريق انقلبت سيارتها في “ترعة” على نهر النيل، وماتت غريقة.

كانت حياة أسمهان مليئة بالغموض والأسرار، وما زال نفس الغموض يلف طريقة موتها بعد انقضاء أكثر من 70 عاما على حادث غرقها. لكنّ الذي يتفق عليه معظم النقاد والباحثين، ويتبعهم الناس على مستوى الوطن العربي، هو أن أسمهان كانت أيقونة من أيقونات الموسيقى العربية وجمال الصوت الفاتن.