نضوب الأنهار.. أكبر موجة جفاف تجتاح العالم

يمان الشريف

في فيضانات هي الأسوأ في تاريخ البلاد كما وصفتها وزيرة التغيّر المناخي “شيري رحمان”، تعيش باكستان اليوم إحدى أسوأ الكوارث الطبيعية الناجمة عن التغير المناخي في العصر الحديث. فكما أشارت “رحمان”، فإنّ مقاطعتي السند وبلوشستان استقبلتا هذا العام أمطارا موسمية أكثر من المعتاد بنسبة تفوق 500%، وهو ما وضع البلاد في حالة طوارئ وتسببت الفيضانات بتضرر أكثر من 30 مليون نسمة.1

 

ومثل تلك الفيضانات هي نتيجة هطول الأمطار الموسمية، أو إقبال الرياح الموسمية إن صح التعبير التي تهبّ على شبه القارة الهندية في مثل هذه الأوقات من العام في فصل الصيف بين شهري أغسطس/آب وسبتمبر/أيلول على وجه التحديد، وتشتهر الرياح الموسمية بأمطارها الصيفية الغزيرة بفعل دورة منتظمة للهواء المتحرّك بين اليابسة والماء.

وحركة الرياح هنا تعتمد على اختلاف درجة الحرارة بين اليابسة والماء، ففي فصل الشتاء تكون المناطق اليابسة (وسط آسيا) مركزا للضغط الجوي المرتفع بسبب درجة الحرارة المنخفضة، على عكس درجة حرارة البحار المجاورة (المحيط الهادي والهندي) المرتفعة التي تعد ضغطا جويا منخفضا، وبالتالي تندفع تيارات هوائية باردة وجافة من اليابسة إلى البحار في فصل الشتاء.

أما في فصل الصيف فالعملية عكسية، إذ تكون اليابسة في موضع ضغط هوائي منخفض، وتكون المسطحات المائية المجاورة في موضع ضغط هوائي مرتفع، مما يدفع برياح صيفية (موسمية) رطبة تتسبب بهطول أمطار غزيرة على اليابسة. وكثافة الأمطار وشدتها تعتمدان بشكل رئيسي على نسبة رطوبة الهواء.

فيضانات باكستان.. هل للتغير المناخي علاقة؟

ولا يستبعد المسؤولون الباكستانيون أن يكون الارتفاع المفاجئ في الأمطار أحد نتائج التغير المناخي، بل يزعم وزير المالية “مفتاح إسماعيل” أن باكستان على الرغم من مساهمتها الضئيلة في إنتاج ثاني أكسيد الكربون والغازات الدفيئة، تعد إحدى أكثر الدول المتضررة من التغير المناخي الحاصل في العالم بسبب أعمال دول العالم المتقدم.2

ولم تكن يوما آثار التغير المناخي محدودة على هذا النطاق فحسب، بل ثمّة تبعات مرتبطة ببعضها البعض بحكم أننا نعيش ضمن نظام بيئي مغلق، وتعد الأنهار إحدى ضحايا آفات الإنسان الحديث وما حملته ثورته الصناعية خلال القرنين الماضيين.

فيضانات وأمطار موسمية غير مسبوقة في باكستان تهدم ألوف المنازل وتشرد ملايين البشر

 

ولأن الأنهار تعد شرايين الحياة بالنسبة لكوكب الأرض، فإنّ أزمة الأنهار اليوم تحظى باهتمام عالٍ، والأبعاد المترتبة على هذه الكارثة تفوق جميع التوقعات من حيث الزراعة والتنقل والتجارة وإنتاج الطاقة وحتى توفير المياه الصالحة للشرب بالنسبة لملايين البشر.

العراق.. انخفاض مناسيب دجلة والفرات

حديثا وفي منتصف هذا العام، وبحادثة ندر وقوعها على خلفية انخفاض مناسيب مياه نهر دجلة، برزت آثار مدينة منسية شمالي العراق في إقليم كردستان، ويرجح علماء الآثار أنّ المدينة المغمورة يرجع أصلها إلى الحضارة الميتانية، أي قبل 3400 عام.

آثار الجفاف الواضحة بسبب انحسار مياه نهر دجلة

 

ولم يكن انحسار مياه النهر طارئا آنيا بالنسبة للعراقيين، بل إن سنوات متراكمة كما وثقتها عدسات التصوير تظهر التغيرات الكبيرة التي طرأت، والأمر عائد بطبيعة الحال إلى الخطة المنتهجة من قبل الحكومة التركية منذ ستينيات القرن الماضي في ما يُعرف بمشروع جنوب شرق الأناضول، إذ تعمل تركيا على بناء 22 سدا تنتشر عند منابع النهرين.

وإضافة إلى ذلك، يعد التغير المناخي عاملا أساسيا في تأثيره وقيادته للبلاد نحو التصحر بنسبة بلغت 39% من الأراضي، فقد انخفض التدفق التراكمي لنهري دجلة والفرات إلى أكثر من النصف خلال عقدين من الزمان، وهما اللذان يمثلان نقطة انطلاق وازدهار الحضارات القديمة، وما زالا إلى اليوم يوفران 98% من المياه السطحية في العراق.3

القارة العجوز.. جفاف لم يسبق له مثيل

ولم يقتصر الأمر على دول المنطقة، بل إنّ القارة العجوز (أوروبا) تعاني من موجة جفاف شديدة تضرب معظم أوديتها وأنهارها.

ففي مشهد غير مألوف، يظهر نهر “اللوار” الذي يمرّ بالعاصمة باريس، ويظهر في مناطق مثل بلدة سومور غربي فرنسا حيث يعبر الناس النهر سيرا على الأقدام بعد أن أخذت اليابسة تبرز بفعل جفاف النهر.

نهر كولورادو.. نضوب يفرض دق الجرس

وثمّة العديد من النماذج الأخرى التي سردها تقرير أعدته قناة “سي إن إن” الأمريكية، يتناول أبرز الأنهار التي فقدت معالمها المائية حول العالم إثر موجات حر قاسية وانحباسٍ للأمطار لفترات طويلة، وأخرى اضمحلّ ماؤها حتى تحوّلت ممراتها إلى أرض قاحلة.

 

ومنها نهر “كولورادو” الواقع غرب الولايات المتحدة الأمريكية حيث أخذت ضفافه بالجفاف بسبب انخفاض كبير في منسوب المياه. وتُظهر صور التقطتها ناسا من الفضاء حجم الجفاف الحاصل هناك، حتى إنّه ليُهيأ للرائي بأنها إحدى صحاري المريخ التي ترك الماء تجاويف فيها في عصور غابرة.

وفي محاولة الحفاظ على حوض النهر، أمرت الحكومة الأمريكية كافة الولايات المعنية بوضع خطط عمل إضافية تُلزم بحماية ما تبقى من النهر.

وتكمن عواقب أزمة نهر كولورادو في تقلص مياه الشرب وتضرر الزارعة وعملية إنتاج الكهرباء، مما سيؤثر على نحو 40 مليون شخص في سبع ولايات، وكذلك في المكسيك.

الصين.. حالة تأهب لجفاف لا مثيل له

وفي الصين، يربط نهر “اليانغتسي” بين غربي وشرقي البلاد، إذ ينطلق النهر من جبال “تنغولا” الشاهقة ويقطع مسافة 6300 كم مارا على العديد من المدن والمحطات الأساسية قبل أن يصبّ في بحر الصين المتفرع من المحيط الهادئ، كما يتفرع منه العديد من الروافد ليشكّل الشريان الأكبر لاقتصاد الصين.

جفاف ملحوظ في نهر “يانغتز” في الصين يمنع حركة السفن والقوارب وحتى الصيد

 

ولا تكمن قيمة النهر في إمداد الأراضي الخصبة وتقويم الزراعة فحسب، بل إنه ممر هام وطريق تاريخي للمواصلات، حتى إنه يُطلق عليه اسم “المجرى المائي الذهبي”.

ولأول مرة منذ 9 سنوات تعلن الحكومة الصينية خلال الأشهر الماضية عن حالة تأهب لجفاف مرتقب بعد أن تعرضت البلاد لموجة حارة هي الأشد خلال العقود الستة الأخيرة.

وفي مقاطعة “سيتشوان” وحدها، حيث يعيش 84 مليون نسمة، تشكل الطاقة الكهرومائية نحو 80% من مجمل الكهرباء، ولنهر “يانغتسي” النصيب الأكبر في إنتاج هذه الطاقة. ووفقا لمصادر محلية فإنّ المقاطعة تشهد هبوطا حادا في معدل هطول الأمطار، وإن العديد من الخزانات جفت بشكل كامل.

أوروبا.. أنهار تفقد معالمها بعد النضوب

أما في أوروبا، فإن نهر “الراين” الذي ينبع من جبال الألب في سويسرا ويتدفق عبر ألمانيا ثمّ هولندا ويصب في بحر الشمال، يمثل قناة مهمة للشحن والتنقل في القارة الأوروبية، لكن ربّما ليس في هذه اللحظة. فالنهر فقد الكثير من معالمه في العديد من المناطق، كما أن اليابسة ظهرت في أجزاء منه مما يعني أنّ أي تنقل فيه لم يعد ممكنا.

ويحتوي نهر “الراين” على أعماق متباينة على امتداده، ففي غرب فرانكفورت في ألمانيا وصل منسوب المياه إلى 32 سم، وهو ما تعتبره شركات الشحن عموما غير مناسب للاستخدام، إذ إن الحد الأدنى هو 40 سم. فضلا عن أن أي منسوب مياه أقل من 75 سم يُوجب على سفن الشحن تفريغ حمولتها بنحو 30% وفقا لخبراء الاقتصاد في “دويتشه بنك”.4

كتابات تاريخية (أحجار الجوع) تتكشف بعد انخفاض منسوب الماء في نهر إلبي بجمهورية التشيك

 

وكذلك نهر “بادي” الذي يشطر شمال إيطاليا إلى نصفين، فقد كشف انخفاض منسوبه عن قنبلة كانت مركونة في جوفه تعود إلى حقبة الحرب العالمية الثانية. والعديد من الأمثلة الأخرى تشهد على التغير المقلق الذي آل إليه كوكب الأرض.5

أين الخلل.. ابحث عن التغير المناخي

ثمّة العديد من العوامل التي تصب في استئصال شرايين الحياة على كوكب الأرض، مثل ظاهرة التصحر، وسوء الاستخدام البشري لموارد المياه. ولكن على حد وصف الخبراء فإنّ التغير المناخي هو المساهم الأكبر في هذه التدهور المريع لحال الأنهار حول العالم.

ففي مقابلة أجراها تلفزيون “بلومبيرغ” الأمريكي مع “دانيال سواين” أحد علماء المناخ في جامعة كاليفورنيا، شرح سواين مدى تأثير الاحتباس الحراري في هذا الشأن، وقال: “للتغير المناخي دور أساسي في جفاف الأنهار بسبب موجات الحرارة الحاصلة مؤخرا والتي حطمت جميع الأرقام القياسية المسجلة”.

نهر “كولورادو” وعلامات الجفاف الواضحة على روافد النهر وفروعه

 

وبطبيعة الحال فإنّ ارتفاع درجات الحرارة يقلل من فرص هطول الثلوج على الجبال، مما يعني تقلّص نسبة المياه القادمة من الثلوج المذابة في فصل الصيف، والتي تنحدر إلى الأنهار فتغذيها. وهذا هو الحال في مجمل الأنهار حول العالم في جميع القارات، لذا يعد الثلج خزّانا أساسيا في الطبيعة يحتفظ بالماء على فترات طويلة.

ويشير سواين إلى أنّ ما تشهده جبال الألب الواقعة في منتصف القارة الأوروبية من فقدان للثلوج في هذا الصيف يُعد ظاهرة طبيعية مقلقة، حتى إنّ علماء المناخ المخضرمين يعيشون صدمة الآن نتيجة ذلك. ناهيك عن درجات الحرارة العالية التي تعني حرفيا أنّ ممرات الماء والمسطحات المائية تتعرض للتبخر، أو بلفظ آخر أنّ يمتص الغلاف الجوي للأرض المواد الرطبة من سطح الأرض باستمرار.6

 

وبشكل عام، فإنّ التغير المناخي يؤثر كذلك على شدة وتواتر هطول الأمطار، فالمحيطات الأكثر حرارة ينتج عنها بخار الماء بشكل أكبر. وعند هبوب الرياح الموسمية -على سبيل المثال- تتحرك السحب والهواء الرطب أعلى الأراضي فينتج عنه هطول أمطار بكثافة وغزارة أكبر. لكن، وبسبب عدم انتظام هطول المطر الساقط، ينتج العديد من المخاطر مثل الفيضانات وتلف المحاصيل الزراعية وغيرها من الأضرار، وهو الحاصل فعليا خلال السنتين الماضيتين في عدد غير قليل من البلدان.

 

المصادر:

[1] رويترز (2022). وزيرة التغير المناخي: الفيضانات أثرت على أكثر من 30 مليونا في باكستان. تم الاسترداد من: https://tribune.com.pk/story/2373444/floods-have-affected-over-30-million-in-pakistan-minister

[2] تان، سولين (2022). يقول وزير المالية إن باكستان تتحمل العبء الأكبر من أزمة المناخ على الرغم من “البصمة الكربونية المحدودة”. تم الاسترداد من: https://www.cnbc.com/2022/09/06/pakistan-finmin-on-floods-country-is-bearing-brunt-of-climate-change.html

[3] محررو الموقع (2022). تحقيق بصحيفة لوموند: غاضت بحيرة ساوة فهل يجف نهر الفرات قبل 2040؟. تم الاسترداد من: https://www.aljazeera.net/news/politics/2022/8/9/%D8%AA%D8%AD%D9%82%D9%8A%D9%82-%D8%A8%D8%B5%D8%AD%D9%8A%D9%81%D8%A9-%D9%84%D9%88%D9%85%D9%88%D9%86%D8%AF-%D8%BA%D8%A7%D8%B6%D8%AA-%D8%A8%D8%AD%D9%8A%D8%B1%D8%A9-%D8%B3%D8%A7%D9%88%D8%A9

[4] محررو الموقع (2022). الصين تصدر أول حالة تأهب للجفاف على مستوى البلاد منذ 9 سنوات. تم الاسترداد من: https://edition.cnn.com/2022/08/19/china/china-drought-alert-climate-intl/index.html

[5] محررو الموقع (2022). تجف أنهار العالم بسبب الطقس القاسي: شاهد 6 نماذج على ذلك من الفضاء. تم الاسترداد من: https://edition.cnn.com/2022/08/20/world/rivers-lakes-drying-up-drought-climate-cmd-intl/index.html

[6] سوليفان، براين (2022). الأنهار والقنوات والخزانات المائية في العالم تتحول إلى غبار. تم الاسترداد من: https://www.bloomberg.com/news/features/2022-08-26/why-are-rivers-drying-up-climate-change-turns-waterways-into-dust?leadSource=uverify%20wall


إعلان