“راحلة”.. درّة الأغنية الفصيحة في المغرب

خاص- الوثائقية

تعد أغنية “راحلة” من أشهر الأغاني المغربية التي جمعت بين الشعر الحزين والإيقاع الشجي والصوت الخالد، فكانت ملتقى العاشق والحالم والتواق إلى أغنية متكاملة تحكي قصة رحيل جارة يعشقها الشاعر ويكتب الشعر لأجلها.

ولعله من الجميل هنا أن أفتتح ببعض أبيات هذه القصيدة الرائعة “راحلة” للشاعر المغربي عبد الرفيع الجواهري المفعمة بالوجد والحنين والشجن.

 

وأنت قريبة.. روحي

قريبة.. أحنّ إليك

وأظمأ للعطر.. للشمس في شفتيك

وحين تغيبين يغرق قلبي في دمعاتي

ويرحل صبحي.. تضيع حياتي

الجواهري وعامر والخياط..ثالوث الأغنية المغربية الفصيحة

في هذا الفيلم الوثائقي تحكي لنا الجزيرة الوثائقية قصة القصيدة، من خلال حلقة من سلسلة “حكاية أغنية”.

بدأت القصيدة الفصيحة المغنّاة في المغرب العربي مع فجر الاستقلال، وكانت قبل ذلك مجرد تقليد ومحاكاة لغناء المشرق بنجومه المعروفين أمثال عبد الوهاب وحليم وفريد الأطرش.

غير أن ثالوث الأغنية الفصيحة المغربية وهم الشاعر عبد الرفيع الجواهري والملحن الفذ عبد السلام عامر والمطرب عبد الهادي الخياط، كانوا تبنوا مشروع القصيدة المغناة التي بدأ ظهورها عام 1967 حين اختار الملحن الكفيف صاحب الحسّ الموسيقي العالي عبد السلام عامر قصيدة “راحلة” ليلحنها، وليلتقي هذا الثالوث الرائع في إخراج هذه التحفة الشجية إلى الوجود.

محمد الحياني يغني “راحلة” في أكثر حفلاته

 

بعد أن أنهى الخياط التدرب على الأغنية فاجأ الجميع الملحن المشاكس صاحب القرارات الصارمة والإشكاليات الكثيرة مع الإعلام والصحفيين برفضه للخياط لتأدية الأغنية، وذلك لأسباب خاصة يُقال إنها راجعة لتدخل الخياط كثيرا في اللحن. ويتشبّث عبد السلام برأيه ويصرّ عليه رغم تدخل الجواهري الحثيث، ثم ليؤدي الأغنية المطرب إسماعيل أحمد بمصاحبة جوقة موسيقية غير جوقة الإذاعة الرسمية أداءً لا يقنع الملحن أيضا.

الحيّاني.. انتقاء عسير رغم حداثة عهده

في هذا الوقت كان الشاعر الجواهري منتجا، وله برنامج في الإذاعة الوطنية، وكان مرّ على مسامعه أصوات مغربية كثيرة مثل محمد الإدريسي ومحمد الحيّاني وغيرهما، فرشّح محمد الحياني لـتأدية الأغنية كصوت يتنبأ له بمستقبل واعد زاهر، لكن الملحن المشاكس اعترض عليه أيضا في بداية الأمر متعللا بأنه صوت في بداية طريقه ولا يصلح لأغنية بهذه القوة والخصوصية.

هذا ما دعا الجواهري ليتشبّث برأيه هذه المرّة هو الآخر، ويهدد بسحب الأغنية من عبد السلام الملحن الذي رضخ أخيرا لرغبة الجواهري.

وهذا ما كان فعلا، فقد أدى محمد الحياني الأغنية أداء حاز استحسان الملحن ولجنة الألحان برئاسة أحمد البيضاوي آنذاك وإعجاب الصحافة والإعلام، ولتكون هذه الأغنية البداية المميزة التي يشق بها محمد الحيّاني طريقه على المستوى المغربي والعربي عامة.

 

ومما ساعد الحيّاني في نجاحه بهذه الأغنية اعتبارها أغنيته الشخصية، إذ كانت كلمات القصيدة تتجاوب مع مواجده وأحزانه وتاريخ طفولته ومعاناته في الفقد، حيث كان يتيما حتى أصبح رمزا لمدرسة أخرى جديدة في الأداء والغناء.

يحادثني الصمت

في مقلتيك

ونظرتك الحلوة الذابلة

بأنك عن حيّنا راحلة

فهل يرحل الطيب من ورده

وهل يهرب الغصن من ظله

أحقا كما ترحل شمس هذا المساء

تُرى ترحلين

وفي لهفاتي ولحني الحزين

يموت انشراحي تنوح جراحي

وفي الحي الحي في كل الدرب

سأرشف دمعي

سأعصر قلبي

وأنت بعيدة

لمن يا إلهة فني

لمن سأغني؟؟

بعد نجاح “راحلة”.. البحث عن “راحلة” أخرى

امتزجت روح الحيّاني بالأغنية لدرجة أنه طلب من عبد الرفيع الجواهري -الذي راهن علي الحيّاني بقوة وكسب الرهان- قصيدة أخرى على غرار “راحلة”، فما كان من الجواهري إلا أن أجاب بالقول:

إذا استطعت أن تُرجعني إلى عنفوان شبابي سأكتب لك “راحلة” أخرى.. لا يمكن الآن أن أكتب نصا يوازي راحلة.

كان الحيّاني يقول: “كلما غنيت راحلة وكأني أغنيها لأول مرّة “، ولعل هذا أحد أهم الأسباب التي خلّدت الأغنية وضمنت استمرارها عبر الأجيال.

محمد الحياني يرافق عبد الحليم حافظ في المغرب ويسمعه بعض أغانيه

 

رحلت “راحلة” بالحيّاني بعيدا إلى مصاف نجوم الغناء الشرقي عبد الوهاب وفريد الأطرش وعبد الحليم، حتى لقد كان عاهل المغرب الحسن الثاني يكلفه بالغناء أمام عبد الحليم كلما زار المغرب، حيث كان عبد الحليم يعتبر صوت الحيّاني بأنه يعادل صوته.

غاب الحيّاني لكنه ظل حاضرا في “راحلة” التي ظل حتى آخر رمق يعتبرها راحلته.


إعلان