“العد التنازلي حتى الصفر”.. هواجس القيامة النووية التي تهدد العالم
من مميزات الفيلم الوثائقي الجيد أن يكون موضوعه قد نال أولا ما يستحقه من بحوث وتحقيقات وإعداد للمادة من جميع زواياها، وثانيا أن يكون مركّزا لا يحيد عن موضوعه ولا يخرج عنه أبدا، وأن يستخدم كل ما يمكن من وثائق ومقابلات وصور من الأرشيف، لدعم أفكاره الأساسية وإبرازها والتركيز عليها، وأخيرا أن يكون جذابا للمشاهدين، كأنه يروي لهم قصة مثيرة تشد انتباههم، وتجعلهم أيضا يخرجون بعد المشاهدة، بفكرة جديدة لم تخطر على بالهم من قبل.
هذه المزايا نجدها متوفرة تماما في الفيلم الأمريكي الوثائقي الطويل “العد التنازلي حتى الصفر” (Countdown to Zero) للمخرجة البريطانية “لوسي ووكر” الذي عرض خارج المسابقة في مهرجان كان السينمائي الـ63.
“سيف ديموقليس النووي المعلق بخيوط رقيقة جدا”
موضوع الفيلم هو الخطر النووي الذي لا يزال قائما بعد انهيار الاتحاد السوفياتي ونهاية ما عُرف بالحرب الباردة بين الكتلتين الشرقية والغربية، ورغم ذلك يؤكد الفيلم أن الخطر المحدق انتقل من الصراع بين الاتحاد السوفياتي والولايات المتحدة، إلى ذلك الانفلات النووي الذي يمكن أن يؤدي إليه وقوع قنابل نووية في أيدي عصابات دولية، أو منظمات إرهابية، أو أنظمة ترفض الانصياع للرأي العام العالمي، وتتمادى في فكرة الردع المعنوي، بل يمكن أيضا أن تلجأ إلى الردع المادي النووي باستخدام تلك الأسلحة بالفعل، في حالة شعورها بالخطر.
مدخل الفيلم إلى الموضوع هو ما ورد في خطاب الرئيس الأمريكي السابق “جون كينيدي”، فقد حذر عام 1961 من الخطر النووي الذي يمكن أن يقضي على الإنسان، وذكر آنذاك قولته الشهيرة: إن كل رجل وامرأة وطفل يعيش تحت سيف ديموقليس النووي المعلق بخيوط رقيقة جدا، يمكن أن تُقطع في أي لحظة، نتيجة حادث، أو حسابات خاطئة، أو نوبة جنون.
يتساءل الفيلم في مدخله عن فكرة احتمال حصول قوى الإرهاب الدولي على مواد نووية، ويشير إلى ما يقول إنها محادثات جرت في السودان في وقت ما، بين أسامة بن لادن وبعض الخبراء الباكستانيين. ويذكرنا بمقولة لابن لادن، تتلخص في ردع الولايات المتحدة عن طريق قتل 4 ملايين أمريكي.
الفوضى النووية.. موت محقق يقع في أيدي المهربين
بعد ذلك مباشرة ننتقل إلى مقابلة نادرة أجرتها المخرجة، مع “أوليغ خنتساغوف” الروسي المسجون حاليا في جورجيا، وقد كان في سبيله إلى بيع 100 غرام من مادة اليورانيوم عالي التخصيب، مقابل مليون دولار إلى شخص يقول إنه مسلم، ويشك في أنه كان ينتمي إلى منظمة إرهابية قوية، هي غالبا تنظيم القاعدة، لكن قُبض عليه قبل تسليم البضاعة. وقد ثبت أن لديه 2-3 كيلوغرامات من اليورانيوم، كان يخزنها بمنزله في موسكو.
يتطرق الفيلم بعد ذلك إلى الأخطار النووية التي يمكن أن تنشأ نتيجة حوادث عرضية قد تؤدي إلى نتائج كارثية، فيروي انفجار إحدى قاذفات القنابل الأمريكية الثقيلة من طراز بي 52 في الجو عام 1960، ثم اختفاء طائرات كانت تحمل قنابل نووية، ولم يعثر عليها قط، وكذلك غرق إحدى طائرات “سكاي هوك” الأمريكية المحملة بقنبلة نووية في بحر اليابان، ولم تُستعد القنبلة التي كانت عليها أبدا.
انتشرت القنابل النووية وخرجت عن نطاق الدول الخمس الكبرى، وامتدت -كما يقول لنا الفيلم بالأرقام- إلى إسرائيل وكوريا الشمالية وباكستان والهند.

“لم يكن حينذاك سكران”.. صاروخ أمريكي كاد أن يشعل العالم
يروي الفيلم محاولة عدد من الضباط الفرنسيين المتمردين على حكومتهم عام 1961 الاستيلاء على القنابل النووية التي كانت مخزنة في الجزائر، لمنع وقوعها في أيدي الثوار بعد إعلان استقلال الجزائر.
ويروي الفيلم كيف كادت أن تقع كارثة نووية في يناير 1995 عندما أطلقت الولايات المتحدة صاروخا لأغراض علمية من ساحل النرويج، وأخطرت السلطات الأمريكية الروس مسبقا بالأمر، لكن التحذير ضل طريقه في سراديب البيروقراطية الروسية، ولم يصل للقيادة في الوقت المناسب.
كان هذا ما دفع كبار القادة العسكريين الروس إلى استنتاج أنه صاروخ نووي في طريقه إلى بلادهم، وطلبوا من الرئيس “يلتسين” اتخاذ قراره، وكانت أمامه 5 دقائق لاتخاذ القرار المصيري، وقد قرر في النهاية أن لا يستجيب، ولا يرد بإطلاق صواريخه النووية المضادة على الولايات المتحدة.
ويضيف التعليق الصوتي في الفيلم: “من حسن الحظ، أنه لم يكن حينذاك سكران”.
خفض الأسلحة.. حلم الاقتراب من الصفر النووي المنشود
وصل عدد القنابل النووية حاليا لدى روسيا وأمريكا إلى 23 ألف رأس نووي، بعد أن كان عددها 50 ألف رأس، نتيجة لجهود الخفض من الأسلحة النووية. ولدى كل دولة منهما 1500 قنبلة هيدروجينية أيضا، وهي تكفي لتدمير العالم عدة مرات.
لكن الفيلم، الذي يتخذ عنوانه من العد التنازلي وصولا إلى نقطة الإطلاق، يؤكد أن العالم لا يمكنه أن يقبل إلا بنسبة صفر من القنابل النووية. وهنا يصبح العنوان مجازيا أيضا عن ذلك “الصفر النووي” المنشود.
وتتفق آراء كل من يظهرون في الفيلم على ذلك، مثل الرئيس الأمريكي السابق “جيمي كارتر”، ورئيس الوزراء البريطاني السابق “توني بلير”، والرئيس السوفياتي الأخير “ميخائيل غورباتشوف”، ووزير الدفاع الأمريكي السابق “روبرت مكنمارا”، ووزير الخارجية الأمريكية السابق “جيمس بيكر”، والرئيس الباكستاني السابق “برويز مشرف”، و”فاليري بلام” عميلة المخابرات الأمريكية التي كشف الغطاء عنها وتحولت إلى مناهضة للسياسة الخارجية الأمريكية.
نزع السلاح النووي.. حل وحيد لإنقاذ عواصم العالم
تستخدم المخرجة في فيلمها كثيرا من الوثائق المأخوذة من الأرشيف مثل لقطات للتفجيرات النووية فوق هيروشيما وناغازاكي في اليابان وما أعقبها من دمار. وتمزج بينها وبين لقطات مصورة من الجو للعواصم والمدن الكبرى مثل واشنطن وموسكو وباريس وروما ونيويورك وهونغ كونغ، لكي تجسد الأخطار المدمرة التي يمكن أن تصيب هذه المدن، في حال تعرضها لهجوم نووي يأتي من جهة غير معلومة.
ويتوقف الفيلم أيضا أمام القدرة النووية الإسرائيلية، ويطالب بشجاعة بضرورة أن يفرض على إسرائيل التخلي عن أسلحتها النووية، ضمانا للأمن والسلام في الشرق الأوسط، في وقت تتعالى فيه التحذيرات من البرنامج النووي الإيراني.
يقول وزير الدفاع الأمريكي “مكنمارا” إن العالم اقترب كثيرا من الحرب النووية خلال أزمة الصواريخ الروسية التي نصبت في كوبا في أوائل الستينيات. وأما رئيس جنوب أفريقيا السابق في زمن التفرقة العنصرية “دبليو كلارك بوتا”، فيقول إنه أمر بوقف صنع مزيد من القنابل النووية، وإنه يرى الحل الوحيد في الخلاص من كل القنابل النووية في العالم.
هذا الرأي يشاطره فيه أشخاص عاديون من بلدان العالم المختلفة، تستطلع المخرجة آرائهم، فيجمعون على ضرورة الوصول إلى رقم الصفر.
أرشيف الفيلم.. وثائق بصرية تغذي جسد النص
مادة الفيلم البصرية غزيرة، والمخرجة تستخدم التعليق الصوتي الغني، والمعلومات المكتوبة على الشاشة، ولقطات الأرشيف (بالأبيض والأسود)، ولقطات من الجرائد السينمائية القديمة البريطانية من الخمسينيات التي تصور حالة الرعب النووي في زمن الحرب الباردة، ومقتطفات من الأفلام التي كانت تعرضها محطات التلفزيون الأمريكية في تلك الفترة، وتصور كيف يتدرب تلاميذ المدارس على التعامل مع خطر الغارات النووية.
كما تستخدم لقطات نادرة بالألوان لقاذفات القنابل الأمريكية العملاقة، وتقطع المقابلات مع الشخصيات المتعددة التي تظهر في الفيلم، بحيث تدعم المادة الوثائقية عبر أجزاء الفيلم المختلفة، وتحافظ على انسيابية السرد، وتدفق الإيقاع السريع، وتجسيد الفكرة من خلال أكثر الصور تأثيرا.
ومن الجدير بالذكر أن طاقم الإنتاج المسؤول عن إنتاج هذا الفيلم المؤثر، هو ذاته الذي ساهم في إنتاج الفيلم الشهير الذي يحذر من كارثة التغير المناخي في العالم، ويظهر فيه نائب الرئيس الأمريكي السابق “آل غور”، وهو فيلم “حقيقة غير مريحة” (An Inconvenient Truth) الذي حصل على جائزة الأوسكار لأفضل فيلم وثائقي عام 2006.