“ألعاب الفيديو”.. تاريخ الإمبراطورية التي اقتحمت كل بيوت العالم

 

رغم أن ميزانية صناعة ألعاب الفيديو تَعدّت منذ سنوات ميزانيات السينما والموسيقى في كثير من الدول الغربية، ومنها الولايات المتحدة الأمريكية، فإن اللافت هو ندرة الأعمال الوثائقية التي تناولت خفايا هذه الصناعة ونموها المضطرد ومزاحمتها لفنون أخرى.

حتى يكاد فيلم “ألعاب الفيديو.. الفيلم” (Video Games: The Movie) للمخرج “جيريمي سنيد” أن يكون من أوائل الأفلام الوثائقية التي تكشف تفاصيل هذا العالم، وتغلغله في الحياة اليومية لمئات الملايين من البشر حول العالم، وكيف تحولت الألعاب أحياناً إلى الرفيق الوحيد لكثير من الصبيان والفتيات في بدايات حياتهم، فقد وجدوا فيه الأنيس الذي ينقذهم من وحدتهم وانعزالهم.

كما يحاول الفيلم الوثائقي الطويل هذا نزع بعض الخرافات عن لاعبي ألعاب الفيديو اليوم، فلم يعودوا صبيانا ضجرين أو متوحدين فقط. بل هم الآن من كل الفئات والأعمار، وتحتل النساء مواقع مُتقدمة إلى جانب الرجال.

سنوات الحرب الباردة.. ضجر ينتج ألعاب الفيديو الأولى

اختار الفيلم أن يُقدم صورة واسعة عامة عن نشأة وتنوع ومستقبل ألعاب الفيديو، فيعود إلى التاريخ، إلى بداية انطلاق ألعاب الفيديو، لكن هذه ستكون من أصعب مهام الفيلم، فليس من الواضح تماما العام الذي يمكن أن يُطلق عليه: “عام ولادة ألعاب الفيديو”، خاصة مع تعدد الروايات وتضادها.

إذ يرجع بعض الخبراء ولادة اللعبة الإلكترونية الأولى إلى سنوات الحرب الباردة بين الولايات المتحدة والمعسكر الشيوعي في خمسينيات القرن الماضي، فقد كانت الألعاب إحدى النتاجات غير المقصودة من تلك الحرب، وقد وُلِدَت بسبب ضجر التقنيين وقتها.

في كل حال من الأحوال كان عقد الستينيات هو العقد الذي بدأ العالم يتعرف فيه على ألعاب الفيديو الشديدة البدائية وقتها، لكن رغم بساطتها فقد وجدت جمهورها ومعجبيها في وقت سريع جدا، لتبدأ بعدها سيرة مُذهلة شهدت نجاحات غير مسبوقة، مع قليل فقط من الإخفاقات، وفتحت الأبواب لمستقبل شديد الإثارة.

يمرّ الفيلم على أبرز المحطات التاريخية لصناعة ألعاب الفيديو في الخمسين عاما الماضية، وهي محطات اختُصرت في افتتاحية الفيلم المتميزة بتوليفها السريع وتركيبتها التي تقترب من الكولاج البصري، على خلفية موسيقية لأغنية فريق “الملكة” البريطاني الشهيرة “لا توقفني الآن” (Don’t Stop Me Now). وكانت التطورات التي شهدتها الصناعة مُذهلة، حتى للذين كانوا وراء القفزات تلك، ومنهم من تحدث للفيلم الوثائقي هذا.

 

عشاق الألعاب.. جمهور ذو حس عالٍ يصعب إرضاؤه

كان عالم ألعاب الفيديو ينمو بسرعة كبيرة ولا شيء قادر على إيقافه، رغم أن جمهورها لا يعبأ بالإعلام والأضواء بالعادة، فهذا الجمهور يشبه الحزب الذي كان ينمو وينضم إليه كل يوم آلاف الأتباع.

لم تشهد الصناعة إلا مطبا واحدا في بداية عقد الثمانينيات، عندما سارعت شركة كبيرة وطرحت لعبة “إي تي”، لتستفيد من شعبية الفيلم الأمريكي “الفضائيون” (E.T. The Extra-Terrestrial) للمخرج المعروف “ستيفن سبيلبيرغ”، وكان قد حقق قبل أشهر قليلة فقط نجاحات واسعة حول العالم.

عندها لَقّن جمهور الألعاب الشركة تلك درسا لن تنساه بإهماله للعبة الجديدة، وأثبت بأنه أشد وعيا مما تحسب تلك الشركات، بل إن هذا الجمهور -حسب أحد الخبراء الذين تحدّثوا للفيلم- هو من أكثر مستهلكي المواد الفنية صعوبة، وأحكامه قاسية، ولا يرضى بسهولة، وهي الصفات التي جعلت شركات صناعة الألعاب تصرف الملايين أحيانا في محاولاتها لإيجاد الجديد الذي يبهر هذا الجمهور.

من الأسئلة التي يحاول الفيلم أن يبحث فيها سؤال: “هل تعد ألعاب الفيديو فنا؟ لكن محاولات الإجابة على السؤال ستقود بالتالي إلى أسئلة مُتفرّعة عن تعريفات الفن وماهيته المتعددة والنسبيّة. وقد جزم جميع الذين تحدثوا للفيلم بأن الألعاب الالكترونية هي فن، بل يكاد أن يتصدّر الفنون الحيّة بتفاعله السريع مع الزمن، وتجدّده من الداخل، علاوة على التغييرات الشكليّة التي لا تتوقف.

على عكس المتداول فإن ألعاب الفيديو تلقى رواجا بين الكبار أيضا

عنف الألعاب.. فتيل نار يحرق المدارس الأمريكية

يحاول الفيلم أن يتعرض لواحدة من أبرز القضايا الجدليّة التي تُحاصر الألعاب منذ عقد تقريبا، ألا وهي مسؤوليتها عن العنف في المجتمعات الحديثة، فهناك من يربط بين عنف كثير من الألعاب، وبين ما يحدث في المدارس الأمريكية مثلاً.

لكن الذين تحدّثوا في الفيلم، وجميعهم من العاملين في الصناعة نفسها، برّؤوا الألعاب من أي أدوار فيما يحدث في الخارج. إحدى النساء أرجعت العنف في الولايات المتحدة الأمريكية إلى شيوع ثقافة امتلاك الأسلحة، وضربت مثلا بأن ألعاب الفيديو نفسها متوفرة في أمريكا وأوروبا على حد سواء، فلماذا لا نشهد العنف نفسه في مدن أوروبية مثلا؟

تميزت شهادات الذين تحدّثوا في الفيلم بنفَسها الواحد، ومن المؤكد أن الفيلم كان سينتفع بشهادات خبراء من خارج الصناعة عن موضوع العنف وعلاقته بالألعاب، خاصة من خبراء نفسيين كرسّوا سنوات من حياتهم لهذه القضايا، كما غابت الدراسات والأبحاث التي تُجرّم أو تُبرئ الصناعة من دورها في نشر العنف.

مستقبل اللعبة.. تحديات الابتكار وعوالم الخيال الواقعي

لعل أكثر أجزاء الفيلم إثارة وحيوية، هو ذلك الذي يتعلّق بمستقبل ألعاب الفيديو، فرغم أن الصناعة تدرّ المليارات من الدولارات سنويا، فإنها تواجه مشاكل وتحديات كبيرة وأسئلة على غرار: وماذا الآن؟ وكيف يُمكن أن تظلّ الصناعة فعالة ومطلوبة وقادرة دوما على الابتكار؟

لا يخفي كثير من الخبراء خوفهم من المستقبل، فالصناعة تبدو اليوم كأنها تدفع ثمن نجاحاتها السريعة، فتقديم الجديد أصبح صعبا للغاية، والمستهلك صار أكثر تطلبا.

يقدم الفيلم الكواليس الخلفية للصناعة عبر مشاهد مثيرة عن تصوير ألعاب جديدة، وهي تكلف اليوم أضعاف ما تكلفه أفلام أمريكية متوسطة الإنتاج. ورغم أن مستقبل الصناعة يبدو ضبابيا، فإن الشيء المؤكد هو عدم توقفها في القريب العاجل، بل إنها تتجه إلى تخوم جديدة.

إذ سيكون اللعب في المستقبل القريب أقرب إلى التجربة الحسية غير المسبوقة التي تأخذك إلى عوالم أخرى، خاصة مع قرب إطلاق مُعدات خاصة (نظارات وغيرها) تعين على بلوغ تلك الآفاق، لتضع اللاعب في قلب عوالم الخيال.

مخرج الفيلم جيريمي سنيد

تسطيح التناول.. عمل يبتعد عن السينما إلى التلفزيون

بدا الفيلم بالمجمل كأنه ينوء تحت عبء المهمة التي رغب بحملها، أي بعرض شامل لكل تاريخ صناعة ألعاب الفيديو، إضافة لاستشراف مستقبلها.

ولا شك أن غياب أفلام عن الموضوع دفع بالفيلم لهذه الوجهة، لكن العمل انتهى بشكل عام ليكون قريبا من التقرير التلفزيوني الذي يتوخى الشرح وعينه على الجمهور الواسع، وغاب عنه تقريبا النفَس السينمائي المُبتكر.

وحتى عندما رغب الفيلم بالتطرق لقضايا جدلية مثل علاقة العنف في الحياة الفعلية مع ما تُقدّمه بعض الألعاب الإلكترونية، فإنه بقي على السطح تقريبا، كما لم يشأ المخرج أن يتناول موضوع الإدمان على هذه الألعاب، وهي قضية أخرى تتلازم دائما مع الحديث عن شعبية الألعاب الالكترونية، لذلك يغدو تجبنها هفوة كبيرة للعمل الذي كان يخطط أن يكون العمل الوثائقي الأول الوافي عن عالم ألعاب الفيديو، لكنه عالم ما زال -رغم طوله وتفاصيله الكثيرة- مجهولا للكثيرين.


إعلان