“النفايات الإلكترونية”.. أمواج من القمامة الصناعية تخنق الأرض

تحول الحديث عن فرز النفايات وإعادة تدويرها إلى شعار يومي تطلقه معظم حكومات العالم بهدف التخلص من النفايات المتراكمة ناهيك عن الاستفادة من المواد القديمة وتحويلها لمواد أولية تستخدم في صناعات جديدة.
وفي وقت التركيز على النفايات البلاستيكية ظهرت نفايات من نوع آخر وهي النفايات الإلكترونية أو الناتجة عن التطور التكنولوجي المتسارع، ولكن هناك القليل من التقنيات حول العالم قادرة على التعامل مع هذا النوع من النفايات وإعادة تدويرها بالشكل المناسب.
ولكن هل يمكننا الاستمرار في الاعتماد على إعادة التدوير للتعامل مع نفاياتنا التي تزداد ساعة بعد ساعة؟
ففي فيلم “حياة خضراء – النفايات الإلكترونية” الذي عرض على “الجزيرة الوثائقية”، يحاول المسافر البيئي والمؤثر “ألكس يو” التنقل بين أكثر من دولة للإجابة عن هذا السؤال الذي يشغل بال العالم كله.
نفايات البلاستيك.. ثورة الأمس ومعضلة الغد
يرمي العالم 8 مليارات و300 مليون طن من البلاستيك، المادة التي شكل اختراعها ثورة في عالم الصناعة ودخلت تقريبا في كل نواحي الحياة أو السلع التي نستخدمها، وباتت جزءا أصيلا في كل ما يدور حولنا، بداية من أواني المطبخ وصولا إلى الإلكترونيات والهواتف الخلوية والطائرات.
والسبب أن البلاستيك تكلفته مناسبة وقابل للتكيف وشديد التحمل ويستخدم مرة واحدة، ولكن هذه الأسباب التي دفعت الصناعيين لاستخدامه بكثرة ستكون المشكلة التي ستصعب التعامل معه بعد استخدامه خاصة أنه يجري التخلص من معظمه بطريقة غير مسؤولة. فالمخلفات البلاستيكية هي من بين أكثر الأمور التي تدمر الحياة في المياه والمحيطات ومعظم هذه النفايات مصدرها آسيا.
ويكشف “ألكس يو” أن معظم الدول التي تطلب من شعوبها فرز النفايات لا تعيد تدويرها، بل تشحنها إلى الصين التي تقوم بهذه المهمة وتحولها لمواد خام أولية، ثم تستخدمها في صناعاتها التي تزدهر بشكل مطرد.
سنغافورة.. آثار حظر الصين استيراد النفايات
منذ عام 1988 استوردت الصين نصف كميات النفايات البلاستيكية والورقية والإلكترونية في العالم، ولكن كان هناك ثمن لاستيراد الصين للنفايات ولهذا بعد 25 عاما، أعلنت أنها لن تستقبل أي نفايات إلكترونية أو ورقية أو بلاستيكية غير مفروزة وذات نسبة تلوث لا تزيد عن النصف بالمئة.
ستكون البداية من سنغافورة التي صدّرت في عام 2016 ما قدره 42 ألف طن من النفايات للصين وماليزيا وفيتنام وإندونيسيا أي 75% من مجموع النفايات البلاستيكية التي تراكمت في ذلك العام بالبلاد.

ويكشف “توماس وونغ” صاحب منشأة فرز نفايات في سنغافورة عن أنه “لا يوجد في العالم نفايات بلاستيكية لا يزيد التلوث فيها عن النصف في المئة، وهذا يعني أن الصين لن تستقبل مجددا أي نوع من النفايات البلاستيكية”.
“وونغ” الذي كان يبيع النفايات التي يفرزها للصين بات عمله شبه متوقف، غير أن المواطنين السنغافوريين لم يستشعروا خطورة وعواقب حظر الصين استقبال النفايات البلاستيكية لأن السلطات تحرق أغلبها.
كوريا الجنوبية.. إعادة التدوير خطوة بخطوة
من سنغافورة إلى كوريا الجنوبية التي تحتل المركز الرابع عالميا في عمليات إعادة التدوير، وتجري هناك إعادة تدوير 50 إلى 60% من النفايات، وهذا من أعلى المعدلات عالميا، ولكن كيف وصلت هذه البلاد إلى هذا المعدل العالي؟
منذ 1995 جعلت كوريا الجنوبية فرز النفايات وإعادة تدويرها أمرا إلزاميا، لأن مساحة الأرض لديها لا تكفي لحرق النفايات.

ولكي ينقل “ألكيس يو” الصورة كاملة للمشاهد، رافق عمال النظافة في كافة المراحل بداية من جمع النفايات وفرزها وصولا إلى إعادة تدويرها، وفي كل مرحلة كانت التجربة مختلفة، إذ ينتج كل فرد في كوريا الجنوبية كيلوغراما واحدا من القمامة يوميا، ولكن الأهم أن البلاستيك يُفصل عن باقي النفايات وهذا ما يسهل العملية كثيرا على جامعي القمامة.
وعندما زار “ألكس يو” منشأة فرز تقليدية صدم بكميات النفايات البلاستيكية، إذ تتعامل هذه المنشأة لوحدها مع 8 إلى 9 أطنان يوميا من الزجاجات البلاستكية من بين 480 مليار زجاجة بلاستيكية تباع في العالم سنويا.
انعدام الدعم الحكومي.. كارثة بيئية موشكة
في 2017 صنفت الصين على أنها أكثر دولة في العالم تعيد تدوير النفايات عالميا، ولكن بعد توقفها عن استقبال النفايات، أجبرت الدول على إيجاد تقنيات للتعامل مع هذه النفايات وإعادة تدويرها، وتعد عملية مكلفة جدا وخاصة أن عمليات التدوير ليست واحدة مع كافة النفايات البلاستيكية، فهناك مواد تحتاج لطرق معالجة خاصة وباهظة الكلفة.
وعن هذا الموضوع يقول “جونغ نامغ يو” صاحب إحدى منشآت إعادة تدوير النفايات البلاستيكية في كوريا الجنوبية إن “أسعار المنتجات المعاد تدويرها انخفض بشكل كبير وتوقف التصدير ولا توجد أسواق لبيعها بهذه الطريقة، وهذا ما سيؤدي لتراكم المواد التي تصدر في داخل البلاد، ونحن نتجه لإنهاء خدمات عدد من العمال وتخفيض رواتب آخرين، ولولا الدعم الحكومي ما كنا لنستمر”.

وحذر “جونغ نامغ” من انهيار صناعة إعادة التدوير في كوريا الجنوبية وكشف أن “60% من مواقع إعادة التدوير أغلقت أبوابها، وسيزداد الوضع سوءا، وقد تخسر الشركات الخاصة هذه الصناعة بالكامل لأن الاستمرار شبه مستحيل من دون الدعم الحكومي، فالتوقف عن إعادة التدوير وحرق النفايات يعني تداعيات كارثية على البيئة”.
ثورة إعادة فرز النفايات.. دق ناقوس الخطر في ماليزيا
دق حظر الصين استيراد النفايات البلاستيكية ناقوس الخطر في معظم دول العالم، وهذا الخطر دفعها للتفكير مليا بالاعتماد فقط على إعادة التدوير للتخلص من البلاستيك، بل إن عليها تخفيض استخدامه وفي مرحلة تالية التوقف عن هذا، ولكن جولة على الأسواق قد تحبط المبادر لذلك وتكشف أن الحياة من دون البلاستيك شبه مستحيلة.
تلقفت ماليزيا هذا الناقوس وبدأت في تطوير منشآتها لإعادة فرز وتدوير النفايات بعدما كانت تشحن أغلب نفاياتها البلاستيكية إلى الصين.

يقول “كيان سيا” -مدير إحدى منشآت إعادة التدوير في ماليزيا- إن شركته تقدم نموذجا مختلفا عن عملية إعادة التدوير العادية وقال إن “العملية التقليدية مفككة ويغيب عنها التنسيق فيما يخص المواد والخصائص، ولهذا قمنا بدمج كل هذه العمليات في آلية واحدة منسقة، بداية من الجمع والفرز وإعادة التدوير لضمان النجاح والاستمرارية”.
بقايا الإلكترونيات.. بحر من النفايات يغرق العالم
هناك نوع آخر من النفايات تنتشر بيننا، وهي “النفايات الإلكترونية”، ففي كل 25 دقيقة يتخلص الناس والشركات في سنغافورة من نحو 3 آلاف كيلوغرام من الأغراض الكهربائية والإلكترونية، وهذا يعني أن هذه الدولة تعد من بين أعلى الدول في آسيا توليدا للنفايات الإلكترونية.
وينتهي مصير أغلب هذه النفايات في المحارق ولكن عددا من دول “القارة الصفراء” لا يملك محارق، لذلك فإن كثير من هذه النفايات ترمى بشكل عشوائي وتلوث التربة والهواء والماء.
ولكن ما لا يعرفه كثيرون أن الإلكترونيات مصنوعة من أندر المعادن في كوكبنا، وإذا لم يُعَد تدوير النفايات التي تولدها فقد نصل إلى فترة تنفد فيها هذه المواد الخام التي تصنع منها هذه الأجهزة الإلكترونية.

والأمر كذلك بالنسبة للمواد النادرة، يُطرح سؤال عن سبب التقاعس في تدوير النفايات الإلكترونية؟
ولكي نحصل على الجواب، نعود إلى سول عاصمة كوريا الجنوبية المهوسة بالإلكترونيات التي أعلنت حكومتها عن إلزامية إعادة تدوير النفايات الإلكترونية.
ويقول الدكتور “بونغ جيو تشو” المدير التنفيذي لمركز “البحوث والتنمية لإعادة تدوير المواد الثمينة” إن “طريقة التدوير تختلف باختلاف النفايات الإلكترونية، فتقنية إعادة تدوير الثلاجات والغسالات ومكيفات الهواء تسير بشكل جيد بنسبة 70%، أما معدل إعادة تدوير شاشات التلفاز فتتفاوت بحسب تطور التلفاز، ولهذا نحتاج إلى تكنولوجيا إعادة التدوير لمواكبة التطور الهائل والمتسارع لتكنولوجيا شاشات التلفاز”.
تفكيك الشاشات.. دعم حكومي لاستخراج المعادن الثمينة
قدمت الحكومة الكورية لـ”يونغ جيو” 190 مليون دولار خلال 10 سنوات ليبحث في طريقة استخراج المعادن الثمينة والمواد الخام من النفايات الإلكترونية، والمفارقة الغريبة أنه في بلاد متقدمة تكنولوجية بصورة مرعبة لا تزال معظم الأبحاث في مراحل التطوير الابتدائية.
ويؤكد الدكتور “هونغ إن كيم” كبير الباحثين بالمعهد الكوري لعلوم الجيولوجيا والموارد المصنعة، أن التلفاز يحتوي على مواد نادرة وثمينة.

ففي 2010 بنى “هونغ إن” مصنعا تجريبيا لإعادة تدوير شاشات التلفاز، ويعمل المصنع على تفكيك الشاشات إلى أجزاء صغيرة، وهو عمل شاق ومضنٍ، فمثلا في كل شاشة يوجد نحو 200 من البراغي يجب التعامل معها لتفكيك الشاشات واستخراج المواد المطلوبة منه.
ويشكو العالم الجيولوجي من “عدم وجود مصانع تجارية قادرة على إعادة تدوير هذه الشاشات حول العالم”.
ويخوض “هونغ إن” سباقا مع الزمن، فالشركات المصنعة لشاشات التلفاز تصدر كل فترة تقنية جديدة منها وعلى “هونغ إن” مواكبتها وتطوير تقنية لتفكيكها وإعادة تدويرها.
بطاريات الهواتف.. كنز دفين بين أيدينا
ومن الواضح أن الطريق أمام تقنية إعادة تدوير النفايات الإلكترونية طويل وشاق، ففي كوريا الجنوبية يغير السكان هواتفهم الخلوية كل عام ونصف العام.
وهذا يعني إعادة تدوير ملايين بطاريات الليثيوم المصنوعة من أحد أندر وأهم وأغلى المعادن في العالم، وتحتوي البطارية على معادن الكوبالت والمنغنيز والنيكل والنحاس.
ورغم قيمة البطاريات وندرة المعادن التي تصنع منها، فإن قلة من الدول الآسيوية وضعت قوانين تخص جمع وإعادة تدوير النفايات الإلكترونية، وتقدر الأمم المتحدة أن 20% فقط من النفايات الإلكترونية في العالم تجمع، أما الباقي فيتاجر بها بشكل غير قانوني ويجري التخلص منها بطريقة غير سليمة.
ففي سنغافورة مثلا تعد إعادة تدوير النفايات الإلكترونية غير إلزامية وجمعها أمر طوعي، ولهذا، فهناك 6% فقط من سكان سنغافورة يتخلصون من نفاياتهم الإلكترونية بطريقة مناسبة والباقي يُحرق.

وينطوي رفع معدل جمع النفايات الإلكترونية من أجل إعادة تدويرها على مشكلة، فهناك على سبيل المثال 4 مصانع في العالم فقط تعيد تدوير بطاريات الهواتف الخلوية. أحد هذه المصانع موجود في كوريا الجنوبية، وهو يجمع البطاريات من 8 دول في العالم، وقد أنفق أكثر من 750 مليون دولار لتطوير تقنية إعادة تدوير البطاريات واستخراج المواد الثمينة منها.
وعن أهمية إعادة التدوير، يقول “بيون سوك هيون” رئيس الباحثين في مؤسسة “سونغ إيل للتكنولوجيا المتطورة”: توجد في البطاريات معادن خام من الكوبالت والنيكل والليثيوم، وللعلم أنه في الكونغو يجري تسخير الأطفال لاستخراج معدن الكوبالت باهظ الثمن.
وتمر إعادة تدوير البطاريات بعدة مراحل تبدأ بسحقها ثم تحويل المعادن فيها لمسحوق أسود، ومن بعدها فصل المعادن عن بعضها وإعادة استخدام هذه المعادن في إنتاج بطاريات أخرى.
فالعلم المستخدم في عملية استخراج المعادن مذهل ولكن بحلول 2025 لن يلبي الكوبالت المستخرج من إعادة تدوير البطاريات سوى 20% من الطلب ولهذا فإن مؤسسة “سونغ إيل للتكنولوجيا المتطورة” تعمل على بناء مصنع جديد يعالج 540 ألف بطارية يوميا.
ولكن مع بيع 4 ملايين هاتف ذكي يوميا، فإن على شركات إعادة التدوير مضاعفة العمل لتلبية هذا الطلب المتسارع على معدن الكوبالت.
بعد زيارات ورحلات ومقابلات، وصل “ألكس يو” إلى نتيجة مفادها أن صناعة إعادة التدوير تعاني من أجل أن تواكب الاستهلاك المتزايد، ورغم ضرورة إعادة التدوير فإنه لا يمكن الاعتماد على هذه الصناعة بشكل كامل، ولهذا علينا إدراك مقدار ما نستهلك.