“عصر السايبورغ”.. هل تُغير التكنولوجيا خَلق الله؟

عندما يظن البشر أنهم أصبحوا أقرب ما يكونون إلى التكنولوجيا، فإن “السايبورغ” يكونون قد دمجوها في أجسادهم، وهم يعلنون: “نحن لسنا مجانين ولا شذاذ آفاق، نحن بشر عاديون، ولكننا نطمح إلى عالم أكثر ذكاء”. و”السايبورغ” هم الأشخاص الذين دمجوا مع أجسادهم التكنولوجيا برقاقات أو أجهزة تساعدهم أو تزيد من قدراتهم وتحدّيهم لأنفسهم وللآخرين.

يقول أحدهم: عندما أتحدث بمفردات التكنولوجيا وبضمير المتكلم، أشعر بأنني نتاج هذه التكنولوجيا. وتقول أخرى: نعم، إذا عرض عليّ أحدهم يدا صناعية أكثر دقة وقوة من يدي هذه، فلن أتردد في تركيبها. لكن الله سبحانه وتعالى يقول “لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ”، فهل يتنافى العلم مع كمال الخلق، أم يكون تكاملا وتحت مفهوم “هَذَا خَلْقُ اللهِ”؟

وقد بثت قناة الجزيرة الوثائقية فيلما بعنوان “عصر السايبورغ”، عرضت فيه أهم الآراء المؤيدة لفكرة زرع التكنولوجيا الذكية داخل أجساد البشر وتلك الآراء المتحفظة تجاهها، وتتبعت فيه الإطار القانوني والتشريعي لهذا التحدي في بلدان أوروبية مثل السويد وألمانيا وبريطانيا، كما وقفت على ردود الفعل الأخلاقية والإيمانية تجاه هذه الظاهرة الجديدة.

عندما تسمع صوت الألوان

يصف “نيل هاربيسون” نفسه بأنه أول إنسان آلي، أو أول “سايبورغ” معترف به رسميا في العالم، وهو ملحن موسيقي عانى منذ بداية حياته من عمى الألوان، فهو يرى جميع الألوان بدرجات اللون الرمادي فقط، وبعد أن تم تركيب شريحة ذكية في دماغه، صار يسمع الموجات الصوتية الصادرة عن الألوان، وذات الترددات المختلفة حسب اللون ودرجته، وصار يحولها إلى ألحان، بمعنى أنه يستطيع أن يرسم لحنا موسيقيا معينا، بواسطة الألوان على الورق، وبالطبع لا أحد يستطيع سماع هذا اللحن غيره.

 

زراعة محفز للحبل الشوكي يرسل شحنات خفيفة للحركة فيقف المشلول على رجلية ويبدأ بالحركة

بواسطة هذه التكنولوجيا أصبح “نيل” يسمع جميع الألوان، وليس هذا فحسب بل ويسمع أشعة الشمس، وموجات الراديو المنتشرة في كل مكان، وفوق هذا فهو يحس بأجهزة الإنذار والكشف عن السرقات، ويلتقط إشارات التحكم عن بعد. ولكنْ هل هذا كله مرغوب فيه؟ وإذا علمت أن الهوائي المستشعر المُركّب في رأس “نيل” لا يمكن إطفاؤه، فكيف هي حياة نيل وهو نائم؟ بل هل يستطيع النوم أصلا؟

كان التحدي الأكبر أمام “نيل” هو إقناع السلطات البريطانية بوضع هذه الخاصية في جواز سفره، ويقول “أواجه مشاكل مع الناس الآخرين الذين لا يتقبلون فكرة دمج التكنولوجيا في أجساد البشر، أحاول أن أقنعهم أننا لسنا كائنات مختلفة عنهم، ولسنا ضد الطبيعة أو الإيمان، نحن ببساطة نحاول أن نرتقي بأجسادنا لتكون أكثر ذكاء وقوة، هل تتذكرون كيف كان الوشم على الجسد في السابق؟ كان أمرا معيبا، وها هو اليوم أصبح أمرا اعتياديا، وسوف أذكركم في المستقبل عندما لن يستغني أي واحد منكم عن زراعة رقاقة في جسده”.

توليد الطاقة والإنترنت.. غذاء الهاتف من الجسد

ليس “نيل” وحده في هذا العالم، بل إن هنالك تجمّعا في برلين للأشخاص الذين يضيفون التكنولوجيا إلى أجسادهم، وهو تجمع مقبول اجتماعيا هناك، فهذا “أوليفر فاك يورغنزن” الذي يعاني من التهاب المفاصل، ولديه ركبتان صناعيتان وورك صناعي، وقد يكون بحاجة إلى ورك آخر في القريب العاجل. لكنه غير قانع بمستوى أداء هذه الآلات في جسمه، ويريد تحسينها لتصبح أكثر ذكاء، يريد أن تكون متصلة بالإنترنت، وأن تكون موجهة باللاسلكي أو التحكم عن بعد. وهو يعترف أن هذه الآلات لا يمكن أن تعوّض عن الأجزاء الطبيعية، ومع ذلك فإنه يحب أن يستفيد من التكنولوجيا إلى أبعد حد.

ما يزال “أوليفر” ينتظر الورك الصناعية التي طلبها من أحد المصانع، ولكنه يأمل أن يوافقوا على إضافة بعض التحسينات التكنولوجية عليها؛ فهو يريد مثلا الاستفادة من حركة المفصل في توليد طاقة لشحن هاتفه المتنقل، أو الحصول على نظام “واي فاي” متنقل من خلال مفصله الاصطناعي.

ولهذا السبب نراه اليوم في عيادة دكتور العظام “بيتر هانزل”، من أجل مناقشة إضافة هذه التحسينات. والدكتور هانزل من المؤمنين بإضافة التكنولوجيا إلى الجسم، ولكن لديه محاذير جادة من تأثير الإشعاعات الخارجية على هذه الأجهزة، والخوف من تأثيرها المباشر على أنظمة الجسم الحساسة، ومع ذلك فقد حصل “أوليفر” أخيرا على دعم معنوي هام من طبيب مختص، يمكنه بمساعدته إعادة فتح النقاش مع الشركات المصنعة من أجل إضافة التحسينات.

خارج إطار القانون.. بداية نهاية الجنس البشري

يعاني مجتمع “السايبورغ” هذا من المعوقات الأخلاقية والاجتماعية والقانونية، فما زالت بلدانهم لا تشرع استخدام التكنولوجيا المزروعة في الجسد لغايات كمالية، ولذلك تجد الذين يقومون بزراعة هذه الشرائح الذكية والمستشعرات ليسوا من الأطباء الذين أقسموا القسَم القانوني، وإنما هم أطباء وجراحون وفنيون في عيادات خاصة خارج إطار القانون، وتكون تكلفة زرع رقاقة أو مغناطيس في حدود 150 يورو، وتجد هذه التكلفة متشابهة تقريباً في أكثر من بلد أوروبي.

“برتولت ماير” عالم نفس اجتماعي يستخدم يدا صناعية بدل يده اليسرى

“برتولت ماير” عالم نفس اجتماعي، وهو في ذات الوقت يستخدم يدا صناعية بدل يده اليسرى المشوهة خَلقيا. يتحدث إلينا بينما يدير يده الصناعية دورة كاملة 360 درجة: على الرغم من هذه الحركة التي لا أستطيع عملها بيدي اليمنى إلا أنه لا شيء يعدل اليد الطبيعية، مهما كانت التكنولوجيا متقدمة، ولكن هذا المتاح أفضل بكثير من لا شيء.

ويستغرب الدكتور “برتولت” من هؤلاء الذين يأتون لاستشارته في استبدال أعضائهم السليمة بأخرى صناعية، يظنون أنها ستكون أكثر كفاءة، ويقول: أدعوهم إلى المزيد من تقدير النّعم الطبيعية التي يتمتعون بها. هل هذه نهاية الضعف والمحدودية البشرية؟ أم هي بداية النهاية للجنس البشري نفسه؟ وإذا قال لك أحدهم إنني إنسان آلي أحتوي على التكنولوجيا الذكية وأستطيع أن أفعل ما لا تفعله أنت، فهذا لا يلغي الحدود التي بيننا، بل إنه يزيدها ويعمقها.

ويضيف الدكتور “برتولت”: أحيانا يزرعون التكنولوجيا في أجسادهم لإضافة قيمة معنوية لشخصياتهم، أنا مثلا؛ بسبب إعاقتي فليست ثقتي بمعنوياتي هي أفضل ما يمكن، وأتفهم شعور الأشخاص بأن مزيدا من التكنولوجيا في أجسادهم يزيد من شعورهم بالرضا عن أنفسهم.

رقائق تحت الجلد.. التحرر من بوتقة الجسد

“باتريك باومن” يحلم بالتحرر من قيود جسده، ولذلك تراه بين الحين والآخر يزرع شرائح ميكروية ومغانط متناهية في الصغر داخل جسده، لديه حتى الآن 5 مغانط و6 رقائق في جسده، وعندما تسأله لماذا كل هذا؟ يجيب: لا أحب أن أحمل مفاتيح البيت في جيبي، ولا أريد أن أتذكر أين نسيت مفاتيح السيارة، وأريد أن أفتح جهاز الكمبيوتر الخاص بي بتقريب يدي فقط، ولا أحب أن أتذكر مزيدا من كلمات المرور. فقط أريد أن أعيش حياة أسهل، الأمر ليس اعتداء على الأخلاقيات، بل هو استمرار للتطور، مثلما صنعنا النظارات في السابق وسماعات الأذن.

هل تصبح زراعة الرقائق الإلكترونية تحت الجلد هوَسا لدى الشباب في المستقبل

ما زال “باتريك” ينتظر رقاقة أخرى من الولايات المتحدة، وستمكنه من تشفير البيانات، وهو يطمح إلى أن يقوم بتطوير الرقاقات بنفسه، ولذلك فقد أسس مجمع “هاك سبيس” التكنولوجي لبرمجة الرقاقات الذكية، ويرتاده كثير من زملائه ذوي الاهتمامات المشتركة، إنهم يبذلون جهودا مضنية ويتكلفون مبالغ كبيرة في سبيل تطوير بعض البرمجيات. يقول “باتريك”: ولكن لا بأس إذا أمكن أن أفتح سيارتي بمجرد تقريب معصم يدي.

في السويد لا توجد مشاكل تشريعية في زراعة التكنولوجيا داخل الجسم، وينظم المهتمون بهذا الشأن معارضهم في الأماكن العامة، حيث يتم زراعة الرقائق الذكية لمن يرغب، ويتزعم “هانس سيوبلاد” مجموعة يطلقون على أنفسهم “القراصنة البيولوجيون”، وتتمثل أهدافهم في تجاوز حدود بيولوجيا الجسد، والثورة على نظام الخَلْق البشري.

شرائح ذكية وأعضاء صناعية.. مقاومة الفناء

بعض الأشخاص يزرعون الرقائق لا لهدف معين، فقط للفضول وحب التجربة، إنهم لا يعرفون لماذا سيستخدمونها بالتحديد، ولكن على حد قول “سيوبلاد”: المهم هو أن يفهم الناس المجالات الواسعة لاستخدام التكنولوجيا، وأن لا يحصروا أنفسهم في حدود جلودهم الضيقة، ثم هم أيضا مطالبون بفهم التكنولوجيا المضادة، وكيفية مواجهتها، ففي عالم الشرائح الذكية قد يصبح المرء شفافا إلى حد أن الآخرين سيخترقونه تماما.

في عالم الشرائح الذكية قد يصبح المرء شفافا إلى حد أن الآخرين سيخترقونه تماما

وبعضهم كذلك يقع فريسة بائعي التكنولوجيا، فما الفائدة من وضع شريحة تخبرك عن جميع النشاطات البيولوجية في جسدك؟ درجة الحرارة وضغط الدم وكمية السكر في الدم وغيرها من المعلومات الكثيرة التي لن تحتاجها في حياتك اليومية. ثم ما هي الفائدة التي يجنيها أحدهم من وضع شريحة تضيف لحواسه (حاسة الشمال)؟ وهي تكنولوجيا تخبر الجسم باتجاه الشمال في أي تحرك من تحركاته، ومن يقنع “إيرينا دوبوا” أن هذه الحاسة لا تضيف إلى ذكائها الطبيعي شيئا، ولكنه الهوس الفضولي فقط، في اقتناء آخر صرخات الموضة غير التقليدية، والثورة على القيم المجتمعية. وإلا فما هي الإضافة التي جنتها “إيرينا” من كل هذه المعادن والحلقات والوشوم التي تغطي كامل وجهها وجسدها؟

“القراصنة البيولوجيون”، مجموعة تهدف إلى تجاوز حدود بيولوجيا الجسد والثورة على نظام الخَلْق البشري

ومثل “إيرينا” كثير ممن يطمعون بالخلود، إنها تود لو تغير قلبها بآخر لا يتوقف أبدا، بل وكل أجزاء جسدها التي ستموت يوما ما، إنها قمة التمرد على قوانين الله في هذا الكون، وانتهاكٌ لكرامة الإنسان، وهي في الوقت ذاته قمة السطحية في التفكير، وسوء فهمٍ لغائية الوجود.

نسبية آينشتاين.. وما قدروا الله حق قدره

لم يفلح “أوليفر” بعدُ في إقناع الشركة الصانعة لوركه من أجل إضافة بعض التحسينات، فاتجه إلى مجلس “بايرا” ليقنعهم بوجهة نظره ويحاول الحصول على دعمهم السياسي في ذلك، و”بايرا” هذا هو مجلس للتعليم السياسي، وله نفوذ قوي في عالم السياسيين والأكاديميين وخبراء القانون. وبالفعل، فقد حصل أوليفر على الدعم الذي كان يتوقعه، وقد أخبره المجلس بأن هذه ستكون قضيتهم الكبيرة في المستقبل.

أما “باتريك باومن” فقد وصلته الرقاقة الذكية من الولايات المتحدة، وها هو في طريقه الآن إلى عيادة “هيكا كيكينوب” التي لم تُقسم قَسم أبقراط للطب، من أجل زرعها تحت جلده. سوف تستغرق العملية 45 دقيقة، ليكون “باتريك” بعدها قد خضع لـ12 زراعة في جسده.

هل يمكن لرقاقات السايبورغ أن تتحكم يوما بسرعة مرور الزمان؟

وبالعودة إلى “نيل هاربيسون” فهو يخطط لزراعة طوق ذكي تحت جلدة رأسه وحول جمجمته بالكامل، هذا الطوق سيخبره بالتوقيت على مدى 24 ساعة، بمجرد لمس منطقة في رأسه، هذا على المدى القريب. يقول “نيل”: أما على المدى البعيد وبمجرد تأقلم دماغي مع هذا المجس الجديد، فسيكون للوقت مفهوم مختلف بالنسبة لي، سوف أتحكم بمرور الوقت، عندما أريد أجعله يمر بطيئا، وإذا لم يعجبني فسوف أجعله يمر سريعا، أريد أن أحول نسبية “أينشتاين” إلى حاسة في الجسم.

تُرى لو كان “أينشتاين” حيا فهل سيوافقه على هذا التفكير الجامح؟

يبقى الجدل مفتوحا بين ما هو معرفيّ نتوصل به إلى أسرار الخلق وعظمة الخالق، وبين ما هو جحود وتحدٍّ لله ومضاهاة له في خلقه. (وَمَا قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ).


إعلان