هواة في الفضاء.. حلم مهندسَين بالسفر في صاروخهما الخاص

الإنسان كائن يصعب فهمه، فهو أشد تعقيدا من كل الأشياء والحيوات المحيطة به، ودواخله غامضة حتى أشد غموضاً من الفضاء السرمدي. هذه واحدة من الأفكار التي اقترح بحثها الوثائقي الدانماركي “هواة في الفضاء” (Amateurs in Space) من خلال ملاصقته لتجربة مهندسَيْن انكبا على تحقيق حلمهما في صنع وإطلاق مركبة إلى الفضاء الخارجي تحمل على متنها إنسانا، لتنضم الدانمارك إلى “نادي الفضاء” المقتصر على أكبر وأقوى دول العالم؛ روسيا والصين.
أرادا بمشروعهما الشخصي التطوعي تحقيق أحلام الطفولة، وكان لهما تحقيقها فعلاً لولا إعاقة “الأنانية” البشرية ووقوفها في طريق نجاحهما، وتحقيق منجز أقل ما يمكن وصفه بـ”الجنوني” “المتجاوز” لحدود المنطق والعقل، فصناعة الفضاء لا يقدر عليها سوى من يملك قوة المال والنفوذ السياسي، ومن هنا جاءت غرائبية المشروع ونباهة أول الواصلين لتوثيقه سينمائياً قبل رؤيته النور.
المهندسان “كريستيان فون بينغستون” و”بيتر مادسن” سيكونان موضوعياً بوصفهما أصحاب المشروع مركز اهتمام المخرج “ماكس كيستنر”. وحتى لا يظلان على الشاشة طيلة زمن وثائقيه كان لزاماً عليه إضافة قصص جانبية إلى نصه المثير، ولم تكن فكرة الذهاب إلى التجارب الأهم في تاريخ إطلاق المركبات الفضائية والأمريكية منها بالتحديد، سوى تحصيل حاصل فرضه المنطق السينمائي، وفرض معه أسلوب عمل اعتمد على “المونتاج الموازي” الموفر لفرص مقارنة بين ما يحاول الهواة تحقيقه وما يجري على الأرض بالفعل داخل مؤسسات “مخيفة” في ضخامتها وقوتها كـ”ناسا” الأمريكية التي تأثرا بأولى تجاربها في طفولتيهما وظلت عالقة في ذهنيهما صور إطلاق الصواريخ العملاقة من منصاتها إلى الفضاء الخارجي المنقولة وقتها على شاشات التلفاز في كل مكان من العالم.
في هذه الحالة نحن أمام بناء فيلمي مركب من بورتريهات ومراجعات لتاريخ علمي ومقاربات فلسفية نفسية، حاولت كشف بعض تعقيدات جوّانيات الكائن البشري بأسلوب نادر، يفضي إلى معرفة طريقة تفكير شعوب الجزء الشمالي من أوروبا وطرق إدارتهم للصراعات الشخصية والمنفعية. وما تبطين الأفكار والمواقف الفلسفية وحتى السياسية إلا حصيلة متوافقة مع طبيعة الشخصيات وأسلوب عيشها.
اختراق الفضاء بكلفة شراء سيارة صغيرة
يُلمح بيتر في أول ظهوره على الشاشة وبسرعة إلى موقفه الرافض للواقع السياسي الاقتصادي المفروض على البشرية، ودور البنوك العالمية في تحويل الإنسان إلى “برغي” في آلتها العملاقة، وبدلاً من ذلك يدعو إلى التحرر من استبدادها بعيش الحياة كما هي، واستغلال قصرها لتحقيق كل ما يُمتع الناس ويسعدهم، ومنها تحقيق أحلام كل واحد منهم بطريقته الخاصة، فهو مثلاً يريد بناء مركبة فضائية يقودها بنفسه بعد أن بنى بنفسه من قبل غواصة بحرية، وحاول مراراً صنع طائرة بمحرك سيارة ولم يفلح. هاوٍ لا يعرف السكون، مهووس بالعمل ليل نهار على تحقيق أحلامه ولا يهمه كثيراً فشلها.
أما زميله الجديد “كريستيان” فهو مثله تقريباً بفارق أنه عمل في شركات طيران عالمية بوصفه مهندساً مختصاً، ثم عاد إلى بلاده للعمل على فكرة طالما راودته، وبها أراد التنبيه إلى إهمال حكومات بلاده للكفاءات الموجودة فيها أو إلى “منعها” -مثل دول كثيرة- من الوصول إلى “نادي الكبار”. المفتتح يشي بتحد شخصي يحمل في طياته موقفاً سياسياً وفكرياً نقدياً لن يغوص فيه الوثائقي كثيراً، وبدلاً منه سيهتم بتسجيل تفاصيل العمل على “الصاروخ” الذي أُريد له أن يخترق الغلاف الخارجي للكرة الأرضية كما تفعل الصواريخ الأمريكية العملاقة والتي تكلف مليارات الدولارات.

ملازمة “هواة في الفضاء” لبطليه استمرت ست سنوات، رافق خلالها استعداداتهما الأولية للشروع في تحقيق الفكرة وتوزيع العمل بينهما دون مشاكل تذكر أول الأمر، حتى عام 2015 تولى كريستيان التخطيط والإشراف على عمليات الشراء والاتصالات، وتولى بيتر الجانب العملي من توفير أماكن العمل والمواد الخام وجلها مستخدم أو مشترى من محلات بيع مواد بناء المنازل. كلفة المشروع بكامله تقارب كلفة شراء سيارة شخصية صغيرة، لهذا قررا منذ البداية العمل بعيداً عن الحكومة الدانماركية، فانضما إلى جمعية لهواة الفضاء واعتمدا مادياً على دعم الناس والشركات الصغيرة.
المشكلة الرئيسية التي ستظهر خلال تصاعد مراحل العمل فيه ومرورها بحالات إخفاق ونجاح متباينة، تكمن في تباين شخصيتهما واختلاف نظرتهما إلى مفهوم العمل التطوعي وتعريف الهواية، فبينما يكرس بيتر كل وقته للمشروع، يعتقد أن تخصيص زميله جزءاً من وقته لعائلته وأطفاله تعارضاً لا يتوافق مع “الهواية” ويدنو سلوكه من “الاحترافية”، وفيها يفصل دعاتها بين حياتهم الشخصية والعملية، فيما هو يريد الدمج بينهما بل تكريس كل وقته لهوايته.
بين ناسا والدانماركيَين.. الاحتراف والهواية
المقارنة بين الهواية والاحتراف من جانب آخر عمقت المستوى الدرامي للفيلم، حين توجهت نحو خلق تضاد بين صورتين من خلالهما يتضح حجم وأهمية الفكرة التي يشتغلان عليها. في كل تفصيل من تفاصيل العمل كانت تجري مقاربات بين ما يملكه الدانماركيان وبين ما يتوفر عند مؤسسة ناسا الأمريكية البالغ عدد العاملين فيها على مشروع “أبولو 8” لوحده آلاف الموظفين والخبراء في مختلف الاختصاصات العلمية.
تضفي مشاهد إبراز درجة تركيز مشغلي الصواريخ في ناسا وحجم الدعاية المحيطة بها، وغالباً ما يحضر الرئيس الأمريكي لحظة بدء إطلاق العد العكسي لانطلاقها والتي تولد شعوراً بالعظمة، في مقابل ما يتوفر عند كريستيان وبيتر من أجهزة ومعدات لا يتجاوز مجموعها ما عند مصلح سيارات عادي، وعن شحّها وتعرضها لأعطال وكثيراً ما تنشب خلافات بينهما تعزز “طرافتها” أحياناً الإحساس بالشفقة والتعاطف معهما ومع مغامرتهما.
في مراحل لاحقة سيتعزز جانب لطالما شغل بال المشتغلين في حقل الوثائقي، ونعني به مصداقية نقل الذوات البشرية على الشاشة دون وسائط مساعدة إلا في حدود ما يخدم عملية النقل. خلال ساعة ونصف تقريباً سيعمل صانع الوثائقي على نقل الشخصيتين بكل ما تمتلكان من تناقض وتوافق على الشاشة بحيادية ودون تدخل يفسدها، ولأن جانبا منه هو “بورتريه” الهوية كان على مخرجه توفير مناخ سلس تتمكن وسطه الشخصيتان المتوافقتان من جانب والمتناقضتان في جانب آخر التحرك على سجيتهما.

كان إظهار الجانبين مقرونا بالمشروع نفسه وبالمراحل التي يمر بها بحيث يظل الوثائقي محايداً لا ينحاز لأحد منهما، بل يترك الأمر يجري كما هو، فيما سيعتني صانعه بتسجيل حواراتهما وتقريب طريقة معالجتهما لخلافاتهما عبر نقله بشكل رائع رسائلهما النصية الإلكترونية المتبادلة بينهما على الشاشة لتكثيف زمن الفيلم وتوصيل مشاعرهما الكامنة وغضبهما أحياناً إلى المشاهد بالكلمات المكتوبة. فالاقتصاد في التعبير الشفهي الدانماركي والإسكندنافي عموماً يجد في الكتابة الإلكترونية تعويضاً وتجنباً للمواجهة، فيما يتيح الجانب التقني العملي فرصا جيدة للتعبير عن رغبتهما في التفوق.
الأنا.. ونهاية الحلم
في كل مرحلة من مراحل بناء الصاروخ كانت تظهر أمامنا تكوينات نفسية وفلسفية وصراعات بشرية جوهرها “الأنا” بكل تجلياتها وتعقيداتها، ربما كانت أشد بروزاً عند الهاوِي المتحمس بيتر لصراحته واندفاعه. وفي المقابل ستظهر جوّانيات تتعلق بالرغبة في تحقيق الذات عند كريستيان، ستنقل الوثائقي حين يهم برصدها إلى مستويات تعبيرية مذهلة. ففكرة السيطرة على الفضاء الخارجي لا تنفصل في جوهرها عن رغبة الإنسان في السيطرة على العالم الذي يعيش فيه والهيمنة على الطبيعة المنافسة له، وذلك بالخروج منها إلى فضاءات أخرى بها يستطيع التحكم، ورغبة المهندسَين في صناعة الصاروخ فيها شيء من هذا، على أهمية ما يحملان من أفكار جميلة ونظرات منفتحة على العلم والمعرفة ورغبتهما في عدم حصرها بالدول والشركات الرأسمالية الكبرى. مشكلتهما كما ستتجلى بشكل نهائي تكمن في “أنانيتهما” ورغبة البروز الدائمة والتحكم بالآخر عندهما.
المدهش في نص الوثائقي المتنافس على جوائز مهرجان “إدفا” للأفلام الوثائقية (2017) والحاصل على عديد الجوائز العالمية؛ توازنه بين عالمين فردي شخصي وآخر عملي تقني، يتمثل في إتمام صناعة صاروخ قادر على الانتقال من الأرض إلى فضاءات لا متناهية قلة هم الواصلون إليها.
كل مشهد من تكوين “فكرة” الصاروخ العجيب صُوّر بكاميرا حساسة مفتوحة عدستها في الغالب بأقصى درجاتها، حصيلة ما صَوّرت دُمجت بموسيقى وضعها الموسيقار “باول لينارد مورغان” عكست بقوة المناخين؛ العام والخاص للأبطال والمساحات المتحركين وسطها. وهي متفاوتة بحدة، فالبحر ليس كما اليابسة، والعلو ليس كما الجلوس في كبسولة ضيقة. ومع كل التنويع المكاني والنفسي جاءت المشاهد قوية معبرة عن مضامينه وروح حكايته الناقلة لنجاح عملية إطلاق الصاروخ وفشل الاتفاق على إكمالها، بحيث صار الانفصال بين المشرفين عليها أمراً محتماً.
هل ما سيظهر من معلومات على الشاشة في نهاية الشريط يفيد بأن البطلين قد شرعا في فتح مشاريع تجارية خاصة بهما يلخص الفكرة الأساسية للفيلم؟ ربما نعم، لكن الأهم هو تسجيل كامل مسارها من الصفر تقريباً حتى وصولها إلى الذروة؛ الانفصال في بعده الفكري أنهى تحدياً كان بالإمكان أن يكون نجاحه رمزاً لمواجهة مشاريع دول عملاقة لها قوة الديمومة والاستمرار، تكرس بفضلها حقها وحدها في الهيمنة على الفضاء.