علم الضوء.. غروب الشمس على كواكب المجموعة الشمسية
غرفة معتمة تتدلى بداخلها ستائر سميكة على نوافذها، تحجب جميع أشعة الشمس من المرور، لكن شعاعا واحدا استطاع التسلل برشاقة عالية من ثقب صغير ليسير باستقامة يتخلله بعض الغبار المتطاير في أرجاء الغرفة، متجها نحو منشور زجاجي، فينكسر الشعاع بعد أن يمرّ خلال المجسم الشفاف، فتكون المفاجأة المحيرة أن يتحول ذلك الشعاع -الضوء- من لونٍ واحد -اللون الأبيض- إلى عدة ألوان مصطفة بترتيب مثير، يطلق عليها ألوان الطيف السبعة.
لقد كان في تلك العتمة العالم الشاب إسحاق نيوتن منهمكا في عزلته، ويقوم بتجربته البسيطة بدراسة الضوء وتحليله، ربما لم يكن أول شخص يرى ألوان الطيف، لكن بكل تأكيد كان أول من ادعى أن أشعة الضوء البيضاء القادمة من الشمس ما هي إلا مزيج من ألوان الطيف السبعة، وذلك حينما عاد ليضع منشورا زجاجيا آخر على نحو مقلوب أمام تلك الأشعة الملونة، ليجد أن الأشعة تتحد وتمتزج لتشكل لونا أبيض كما كانت (1).
ربط الضوء بآلية عمل البصر.. نظريات الإغريق الفلسفية
كانت المحاولات الأولى لفهم ماهية الضوء تتمثل في محاولة ربط الضوء بآلية عمل البصر، وقد نتج عن ذلك بعض المفاهيم المغلوطة كما كان علبه الحال في العصور الإغريقية على أيدي فلاسفة عدة مثل الفيلسوف اليوناني “أمبادوقليس” (Empedocles) من القرن الخامس قبل الميلاد، وهو الذي وضع نظرية العناصر الأربعة التي يتألف منها الكون، وهي النار والهواء والتراب والماء. وقد أشار أمبادوقليس إلى أن العين قد خلقت من نار في محاولة لتفسير كيفية الرؤية، وأن لهبا يخرج من العين اتجاه الأجسام مما يمكنها على الإبصار.2
وتبعه في ذات المعتقد لاحقا الرياضي إقليدس في كتابه “العناصر” (Elements)، وكذلك الفيلسوف اليوناني بطليموس في كتابه “النظائر” (Optics)، فقد وضعا نظرية الانبعاثات التي تقول: “تصدر العين أشعة تنبعث بخط مستقيم فتسقط على الأجسام، مما يكسبها القدرة على تمييز الألوان والأحجام والمسافات”.
وقد بقي هذا المعتقد راسخا لقرون طويلة، إلى أن لمع بريق العصر الذهبي للحضارة الإسلامية في عهد الخلافة العباسية في القرن الثامن الميلادي، وتمثل في تأسيس بيت الحكمة في العاصمة بغداد على يد هارون الرشيد، وقد كان بيت الحكمة آنذاك مصبّا للمعرفة وملتقى لشتى العلوم الطبيعية والفلسفة القديمة. وساهمت هذه الحركة العلمية في ظهور نخبة من العلماء المسلمين الذين قاموا بتغيير العالم إلى الأبد.
“البصر ليس يدرك شيئا من المبصَرات”.. ثورة ابن الهيثم
من رحم العصر الذهبي انبثق نجم عالم البصريات الموسوعي الحسن بن الهيثم صاحب الكتاب الشهير “المناظر” الذي أسهب فيه بالشرح عن خواص البصر والأضواء، وصحح فيه العلل التي وقع بها الأقدمون، إذ يقول: فإنا نجد أن البصر ليس يدرك شيئا من المبصَرات إلا إذا كان في المبصَر ضوء ما، إما من ذاته أو مشرق عليه من غيره.3
ويشير ابن الهيثم هنا إلى أن العين ليست إلا أداة تستقبل الأشعة القادمة من مصدر ما، بعد أن تسقط على الأجسام، فالشعاع الضوئي (المرئي) يلعب دور حامل البريد، إذ يقوم بنقل المعلومات من مكان إلى آخر. ولعل هذا هو أقرب وأصدق تفسير للضوء وضع منذ ذلك الحين، لكن ما زال هناك شِق مفقود في الإجابة.
وقد كان على البشر انتظار ألف عام أخرى لكي يصدح العالم :آينشتاين” عام ١٩٠٥ بنظريته التي يقول فيها إن الضوء ليس شيئا لحظيا، وإنما له سرعة محددة، وأن سرعة الضوء هي السرعة القصوى في الكون. وبهذا الاستنتاج يكتمل النصف الآخر من الإجابة فيكون الضوء حاملا لمعلومات مكانية وكذلك زمانية.
سرعة الضوء.. اكتشاف قادم من أقمار المشتري
تبلغ سرعة الضوء في الفراغ 300 ألف كيلومتر في الثانية، مما يعني أن بإمكانه أن يدور حول الكرة الأرضية سبع مرات ونصف في ثانية واحدة فقط (لأن محيط الأرض يبلغ 40 ألف كيلومتر).
وقد جاءت أولى الاستنتاجات الناجحة على أن سرعة الضوء متناهية (محددة) على يد عالم الفلك “أوول رومر” (Ole Roemer) في القرن السابع عشر بعد أن راقب أقمار المشتري، فلاحظ أن خسوف الأقمار يحدث في وقت أبكر مما هو متوقع عندما تكون الأرض قريبة من المشتري، وعلى العكس حينما تكون الأرض بعيدة عن المشتري فيحدث في وقت متأخر عما هو متوقع.
وقد قاد ذلك “رومر” إلى الاعتقاد بأن سبب ذلك يكمن في اختلاف الوقت الذي يستغرقه الضوء في انتقاله بين المكانين، مما يعني أن للضوء سرعة ثابتة، وبقياس المسافة التقريبية بين الأرض والشمس، وحساب فرق الزمن في وصول الضوء من أقمار المشتري، استطاع “رومر” الحصول على قيمة أولية لسرعة الضوء هي 214 ألف كيلومتر لكل ثانية، وكانت أول قيمة كبيرة تفوق خيال الإنسان.4
ماهية الضوء.. جدليات فلسفية منذ آلاف السنين
لم تكن سرعة الضوء بطبيعة الحال هي الشغل الشاغل بالنسبة للعلماء المهتمين طيلة الفترة الزمنية التي مضت بقدر ما كانت محاولاتهم في كشف النقاب عن ماهيته، ولظواهر طبيعية مختلفة كانوا قد انقسموا إلى فريقين، فمنهم من قال إن الضوء عبارة عن جسيمات وآخرون قالوا إنه عبارة عن موجات متنقلة.
لقد اعتقد علماء الفلسفة الطبيعية الإغريق بالمذهب الذرّي (Atomism) الذي يشير إلى أن المادة في الكون تتكون من وحدات في غاية الصغر، بما في ذلك الضوء، وأطلقوا على تلك الأجسام اسم “الذرات” (Atoms)، وتبع ذلك بقرون طويلة ظهور الفلسفة الآلية (Mechanical philosophy) في القرن السابع عشر في أوروبا تمهيدا للثورة الصناعية، وهو مصطلح يشير إلى أن هذا الكون يعمل كآلة، لذا فكل شيء قابل للوصف حركيا داخل إطار رياضي محكم.
وكان من رواد هذا المذهب عدة فلاسفة أمثال “توماس هوبس” و”رينيه ديكارت”، وقد تبعهم العالم “إسحاق نيوتن” الذي ظهر في بداية حديثنا وهو في غرفته المظلمة يقوم بتجربته بمحاولة تفتيت شعاع الضوء وتجزئته ثم جمعه ومزجه مجددا.
جسيمات الضوء.. معركة “نيوتن” و”هويغنز”
افترض “نيوتن” بأن الضوء يتكون من أجسام صغيرة جدا، أطلق عليها اسم “الجسيمات” (Corpuscles) بدلا من الذرات، ومنحها بعض الفوتونات ذات الخصائص الفيزيائية كأن تمتلك حجما ولونا وشكلا لكن دون كتلة، وأيضا خصائص ميكانيكية تخوّلها للتفاعل مع المحيط. وقد جزم “نيوتن” بأن الطبيعة الهندسية لعملتي انكسار الضوء وانعكاسه لا يمكن تفسيرها إلا إذا كان الضوء عبارة عن جسيمات، أو كما هي تسميتها الحديثة.5
وفي ذات الحقبة -عام 1678 تحديدا- ظهر عالم الفلسفة الطبيعية “كريستيان هويغنز” (Christiaan Huygens) كأبرز المعارضين لادعاءات “نيوتن” حول ماهية الضوء، إذ قال إن صفة الجسيمات قد تفسر معادلات الانكسار والانعكاس رياضيا، لكن ما لا يمكن تفسيره هو الحيود والتداخل والاستقطاب في الضوء (ظواهر فيزيائية متعلقة بالموجات الضوئية)، ويمكن تفسير تلك العمليات فقط في حال اعتبار أن الضوء عبارة عن موجات.
تجربة “الشق المزدوج”.. ميلاد نظرية ازدواجية الطبيعة
يمكن توضيح ادعاء “هويغنز” بتجربة بسيطة تعرف بتجربة “الشق المزدوج” (Double-slit experiment)، إذ ينعرج الضوء عبر شقين رفيعين في حاجز يمنع مرور الضوء، وبفعل الانعراج يتحول الشقان إلى مصدرين للضوء، وبسبب تداخل الأشعة الصادرة من الشقين يرتسم على الحاجز من الطرف المقابل أنماط تجمع بين أهداب مضاءة وظلال معتمة، وهي شبيهة بظاهرتي التداخل البنّاء والهدام في الأمواج عندما ينحصر الماء ويمر عبر فتحات ضيقة. لذا كان لدى “هويغنز” ومناصريه دليل قوي على أن الضوء يحمل الصفة الموجية.
وقد ترك ذلك الشقاق في النظريتين ذهولا كبيرا في الأوساط العلمية، فكلتا النظريتين جرى التحقق منهما مخبريا، وكلا النظريتين مدعومتان بمنظومتين رياضيتين محكمتين، لكن كل منظومة تغنّي على حدة. وهذا ما دفع العلماء لاحقا لتبني فكرة الطبيعة المزدوجة للضوء، فهو موجة وجسيم في آن واحد.6
لكن من أين يأتي الضوء، وما أصل نشوئه في الكون في المقام الأول؟
طاقة الإلكترون الفائضة.. انبعاثات الفوتون التي تضيء الكون
يعود أصل وجود الضوء في الكون إلى وجود الإلكترونات سالبة الشحنة التي تدور حول نوى الذرات بمدارات متفاوتة، وبسبب حركة الإلكترون الدائمة، فإنه ينتقل من مدار إلى آخر بحسب الطاقة التي يمتلكها.
فعندما يكتسب الإلكترون طاقة أكبر بسبب الحرارة على سبيل المثال، يتجه نحو الابتعاد عن النواة والانتقال إلى مدارات أعلى، ولأن الإلكترون في ذات الحين يبحث عن الاستقرار دوما، فإنه يبحث عن العودة إلى مداره الطبيعي، لكن لكي يعود يجب عليه التخلص من الطاقة الفائضة التي اكتسبها.
وتلك الطاقة التي يتخلص منها الإلكترون تنطلق بشكل انبعاثات ضوئية على هيئة حزمات لجسيمات في غاية الصغر، وتعرف بالفوتونات. وبناءً على كمية الطاقة المنبعثة تختلف طاقة كل فوتون عن الآخر، ويختلف طول وتردد موجته كذلك، وبالتالي يحدث الاختلاف في الألوان المشعة، فذرات الصوديوم على سبيل المثال تطلق فوتونات ذات طول موجي قصير، وبالتالي تشع ضوءا أصفر.7
ويعد الفوتون هو المسؤول عن وجود الأشعة الكهرومغناطيسية باختلاف أطوالها الموجية، فمنها الأشعة المرئية أو ببساطة الضوء، وهي الأشعة التي بإمكان عين الإنسان إدراكها، ومنها الأشعة غير المرئية باختلاف أطوالها الموجية مثل الأشعة تحت الحمراء وفوق البنفسجية وغيرها مما لا يمكن أن إدراكه بالعين.
ظاهرة التشتت.. سحر الغروب على كوكب الأرض
يتكون شعاع الضوء القادم من الشمس من لون أبيض، ويضم جميع ألوان الطيف التي يتراوح طولها الموجي في نطاق 400-700 نانوميتر (جزء من مليار جزء من المتر)، ابتداء من اللون الأحمر ذي الطول الموجي الأطول، وانتهاء عند اللون الأزرق/البنفسجي ذي الطول الموجي الأقصر.
ولأن الضوء لا يحتاج إلى وسط مادي للانتقال، فإن بمقدوره أن ينتقل في الفراغ بأقصى سرعة ممكنة قاطعا مسافات شاسعة في الكون، وعندما يصل إلى الأرض، يصطدم بالغلاف الجوي الذي يحتوي على ملايين من الغازات المتطايرة التي تقوم بامتصاص طاقة الفوتون، ثم تشتيت الضوء باتجاهات متفرقة.
ويمكن شرح ظاهرة الانتشار أو التشتت (Scattering) للضوء بأن اللون ذي الموجة الأقصر -البنفسجي والأزرق- يهيمن وينتشر أكثر من الألوان الباقية عند حدوث اصطدام بين الضوء والذرات، لذلك تبدو السماء زرقاء أغلب اليوم.
وعندما تكون الشمس عند الأفق، فإن مسار أشعة الشمس بالنسبة للناظر يكون أطول، مما يعني أن الأشعة ستصطدم بمزيد من ذرات الهواء إلى أن يتشتت وينتشر جميع اللون الأزرق، فلا يصلنا بعدها سوى اللون صاحب الموجة الأطول -الأحمر والبرتقالي- عند الغروب أو الشروق.
وتعتمد ظاهرة الانتشار على نوع الذرات الموجودة في الغلاف الجوي، ولأن غاز النيتروجين هو المهيمن في غلافنا الجوي، فإننا نرى السماء بالحلة الزرقاء بدلا من الخضراء، كما أن أعيننا أكثر حساسية للون الأزرق من اللون البنفسجي.8
أجرام المجموعة الشمسية.. غروب متقلب الألوان
بما أنّ أوقات الغروب والشروق على سطح كوكب الأرض تحمل صورا دراماتيكية مليئة بالإثارة والتشويق، فقد أثار ذلك خيال الهواة والفنانين للقيام بمحاكاة للحظة الغروب في عوالم أخرى بعيدا عن عالم الأرض، وبلا شك فإن الإثارة لم تتوقف على سطح كوكبنا فقط.
فكوكب عطارد يمتلك غلافا جويا رقيقا للغاية -لا يكاد يلتقط- مكونا من الذرات المتطايرة بفعل الرياح الشمسية، كما أن الشمس بحكم قربها منه تظهر أكبر بثلاثة أضعاف مما تبدو عليه من الأرض.
أما كوكب الزهرة فهو عكس ما يبدو عليه من الأرض، إذ إن الزهرة منعوت بكوكب الحب بسبب سطوعه الدائم كما يبدو من كوكب الأرض، لكن ما من أي دلالة له بالحب في حقيقته، فللزهرة غلاف جوي سميك للغاية يحبس الحرارة بداخله، فيصعب تمييز موقع الشمس أثناء فترة الصباح.
أما حين النظر من على سطح كوكب المريخ مثلا، فعلى عكس ما يبدو عليه الغروب من الأرض من احمرار، فإن الغروب في المريخ يكون أزرق لمن يشاهده من هناك، في حين أن السماء في النهار تكون بلون الصدأ الموجود في الغبار.
وتبقى سماء الأرض الأكثر تشويقا وطمأنينة بين الأجرام، فالغلاف الجوي للأرض يحمي الكوكب من الأشعة الضارة التي تنتقل مع الأشعة المرئية، كما أننا نحظى دوما بمشاهد متقلبة لعباءة السماء، من ظلام دامس في الليل تزينه أنجم بلألأتها، ثم تتعاقب الألوان على السماء بين أحمر وبرتقالي وأصفر وأزرق، ولا بأس بقليل من اللون الزهري حينما تختلج القلوب وتستثار العيون.
المصادر:
[1] مارنزاني، باربارا (2018). كيف غير إسحاق نيوتن عالمنا. تم الاسترداد من: www.biography.com
[2] كينجسلاي، سكارلت (2020). إمبيدوكليس. تم الاسترداد من: www.plato.stanford.edu
[3] الحسن بن الهيثم (1021). المناظر. ص66
[4] نيكس، إيليزابيث (2014). من حدد سرعة الضوء؟. تم الاسترداد من: www.history.com
[5] كلوس، هيلين (2018). كيف توصلنا إلى معرفة الكون: الضوء والمادة. تم الاسترداد من: www.thestargarden.co.uk
[6] ألين، رهيت (2013). هل الضوء موجة أم جسيم؟. تم الاسترداد من: www.wired.com
[7] أوريل، مارك (2017). كيف ينشأ الفوتون؟. تم الاسترداد من: www.sciencing.com
[8] (2017). ما الذي يحدد لون السماء عند شروق الشمس وغروبها؟. جامعة ويسكونسن. تم الاسترداد من: www.sciencedaily.com