السفر عبر الزمن.. صهوة الفيزياء الجامحة تحمل الإنسان إلى المستحيل
في الثاني والعشرين من نوفمبر/تشرين الثاني من عام 1963، ركب الرئيس الأمريكي “جون كينيدي” سيارته من طراز ليموزين مكشوفة السقف، ليجوب بها طرقات مدينة دالاس في ولاية تكساس الأمريكية ضمن حملته الدعائية قبيل الانتخابات الرئاسية، فقد بدا له أن ولاية تكساس تعد أحد أهم المحطات التي من شأنها رفع حظوته وفرصته في الفوز في ولاية رئاسية أخرى.
لقد كانت حملة مفتوحة أمام جماهير غفيرة اصطفت حول الموكب الذي سار بسرعة بطيئة ليتسنى للرئيس تحيّة الجماهير والتلويح بكلتا يديه بصحبة زوجته. وفي تمام الساعة الثانية عشر والنصف عند الظهيرة سُمِع صوت إطلاق نار مفاجئ بالقرب من الموكب مما أربك المشهد ودخل الجميع في لحظة هيجان.
وفي هذه الأثناء، شُوهِد الرئيس “كينيدي” واضعا يده على عنقه وكأنه يعاني من صعوبة في التنفس بينما كانت زوجته ممسكة بذراعه تحاول فهم انزعاجه المفاجئ قبل أن تذعر بوجود ثقب عبر عنقه أحدثته رصاصة اخترقت جسده، ويداه مضرجتان بالدماء.
وبعد لحظات قليلة انطلقت رصاصة أخرى لتستقر برأس الرئيس منهية حياته وتاركة زوجته بجانبه، لكنها ما لبثت أن هرعت هاربة من مسرح الجريمة وهي تزحف إلى مؤخرة السياراة تبحث عن مكان آمن. وبعد مرور نصف ساعة من الحادثة أعلن “مستشفى باركلاند التذكاري” رسميا وفاة الرئيس الأمريكي “كينيدي” عن عمر بلغ 46 عاما، وفي هذه الأثناء كانت حملة أمنية واسعة تطوّق المكان للبحث عن مرتكب الجريمة، وقد استطاعوا تحديد مكان إطلاق النار وفق بعض الشهود ليجدوا قناصا وطلقات قابعة في مستودع للكتب في إحدى المدارس.
ولم يمض وقت طويل قبل أن تتمكن قوات الأمن من القبض على المجرم الذي اتضح لاحقا أنه كان جنديا سابقا في المشاة البحرية، وأعرب عن جريمته التي ارتكبها بدوافع شخصية بحتة ولا يقف وراءه أي تنظيمات أو نحوه.
بلا شك إنه أحد أعظم الأحداث التي مرت على تاريخ الولايات المتحدة الأمريكية، وهو الرئيس الرابع الذي تعرض للاغتيال من بين 46 رئيسا منذ توحيد الولايات.
ثمّ يطلّ علينا الكاتب والروائي الشهير “ستيفن كينغ” متسائلا ماذا لو أننا عدنا بالزمن إلى الوراء وتفادينا وقوع هذه الحادثة، حينها كيف ستكون الخارطة السياسية للأرض. إن الإجابة على مثل هذه التساؤلات دفعت الكاتب إلى صناعة عمله الخيالي العلمي بحبكته الدرامية عن مدرس بريطاني يستخدم بوابة زمنية (Portal) مخبأة في مخزن قديم للسفر بها عبر الزمن نحو 50 عاما إلى الماضي لمنع حدوث عملية اغتيال الرئيس الأمريكي.
فيزياء الكم.. مواجهة العلم للمنطق الفلسفي
شكّلت فكرة السفر عبر الزمن صدعا حقيقيا لعلماء الفيزياء النظرية في إمكانية حدوثها، إذ إنها تتطرق إلى أبعد الآفاق العلمية والعملية، ويمثل الأمر أحد المنعطفات الفلسفية التي تطرق إليها فلاسفة العصر الحديث، ويذهب الجمهور إلى عدم ترجيح حدوث الأمر بسبب العقبات المنطقية وراءها، فعلى سبيل المثال لا يمكن لأحدهم أن يعود إلى الماضي في زمن لم يأتِ إليه أبوه بعد، لأنه بذلك جعل المعلول يسبق العلّة، وهو ما ينافيه المنطق.
لكن الأمر لم يكن ليتوقف عند محاولات النفي فلسفيا، إذ إن نظريات فيزيائية شقّت طريقها نحو النور في محاولة لمجابهة منطق الفلاسفة ولاسيما النظريات المتعلقة بالنسبية العامة أو بفيزياء الكم ().
لقد خُيّل للإنسان منذ القدم أن الزمن يسير مندفعا كالسيل المتدفق لا يقف ولا تتغير وجهته، فهو يمضي دوما إلى الأمام نحو الغد والمستقبل، وهو ما دعا أعظم المفكرين عبر التاريخ إلى التساؤل عن ماهية الزمن وجوهره وكيفية عمله. فهل يتحقق وجوده بإدراك الإنسان له، أم أنه منفصل بذاته؟ أم أنه مرتبط بالمكان؟
وهذا ما دفع إلى ظهور تيارين فلسفيين، أحدهما ادعى تجريد الزمان والمكان عن حدس الإنسان، فهما قائمان بذاتهما بغض النظر عن إدراك الإنسان لهما، وتيار آخر ادعى بأن الزمن مرتبط بما يدركه الإنسان.
أبدية الزمان.. نظرية الخط المستقيم منذ 14 مليار سنة
انقسم الفلاسفة إلى قسمين في تعريف كيفية تدفق الزمن، فالقسم الأول “الحاضرية” (Presentism) الذين قالوا إنّ الأشياء موجودة فقط في الوقت الحاضر أي لا علاقة لها بالماضي ولا مستقبل لها، وإنما كلّ شيء آني الحدوث، والقسم الآخر “الأبدية” (Eternalism) الذين أشاروا إلى أن الوجود غير محكوم بالحاضر فقط، بل هو موجود الآن، ومن قبل، وبعد حين.1
ولو أردنا أن نفترض شكلا هندسيا للوقت، فإنّ خير ما يناسب ماهية الوقت وفق تصوراتنا المحدودة هو الخط المستقيم الذي يبدأ مع بداية خلق الكون ونشأته وينتهي مع نهاية الكون. هذا فقط ينطبق على إطار الكون الذي نقبع فيه، متجاهلين أي نظريات مثل الأكوان المتعددة وغيره.
إنّ الكون الذي نحن فيه قد قطع بلا شك شوطا طويلا جدا في هذا الخط المستقيم، أي ما يقارب 14 مليار سنة، ووحده الخالق يعلم متى ينتهي الشوط الباقي من الزمن، ونحن موجودون في نقطة ما على هذا الخط. وكما تخبرنا الرياضيات وعلم المثلثات أن الخط عبارة عن نقاط لا نهاية لها مصطفة على نفس الاستقامة، وأننا كما يمكننا التحرك باتجاه معين، يمكننا فعل ذلك بالاتجاه المعاكس.
فهل تنطبق هذه القاعدة الهندسية على خط الزمن في الذهاب إلى المستقبل والعودة إلى الماضي؟ أو أننا ربما أخفقنا في منح الزمن صفة الخط المستقيم، فقد يكون خطا مائلا أو متفرعا إلى عدة خطوط أو أي شكل هندسي آخر.. هذا ما عكف عليه علماء الفيزياء النظرية طيلة العقود الماضية للوصول إلى إجابة مرضية.
“النسبية الخاصة”.. ساعة القطار السريع المتوقفة عن الدوران
لم يكن الفيزيائيون معنيين باستنتاجات الفلاسفة، فما شاهدوه من مخرجات معادلات حقل “أينشتاين” هو أدْعى للذهول وأقرب للخيال، كوجود أجرام سماوية ضخمة جدا تلتهم كلّ ما تصادفه، وهي الثقوب السوداء، أو كتشوه النسيج الكوني إثر وجود كتل ضخمة مثل النجوم، إلى غير ذلك من النظريات المثبتة وغير المثبتة بعد.
إنّ التطور العلمي الذي رافق طفرة علماء الفيزياء النظرية في القرن الماضي أعاد صياغة كثير من التعريفات العلمية التي ظلّت راسخة وصامدة لقرون طويلة، ومنها مفهوم الزمن والوقت، فقد كان سائدا منذ عهد العالم البريطاني “إسحاق نيوتن” أنّ الوقت ثابت ومستقر في كل مكان، وهذا ما رفضه العالم الألماني الشهير “ألبرت أينشتاين” في نظريته الشهيرة في النسبية الخاصة عام 1905.
وبتجربة بسيطة يمكننا فهم امتناع “أينشتاين” عن القول بثبوت الوقت، فعلى سبيل المثال لو تحرك قطار في إحدى المناطق الريفية وفيه ساعة نستطيع أن نراها ونحن واقفون خارج القطار ونراقب حركة عقارب الساعة بينما يبدأ القطار بالحركة، فإننا بلا شك لن نشاهد أي تغيير ملحوظ في سرعة دوران عقارب الساعة بسبب سرعته العادية.
ثمّ لو افترضنا أن القطار زادت سرعته بحيث أصبحنا نسابق عقرب الساعة، ولنقل عقرب الثواني، فإننا سنلاحظ بأنه أصبح يستغرق وقتا أطول لكي يتم ثانية واحدة. وبمضاعفة سرعة القطار إلى عُشر سرعة الضوء، فسنلاحظ الآن أن العقرب أصبح بطيئا للغاية وكأننا في سباق حقيقي معه الآن.
مجددا، بمضاعفة سرعة القطار إلى سرعة قريبة من سرعة الضوء، هنا ستكون الصدمة، حيث سيبدو عقرب الثواني في حالة جمود وكأن الساعة تعرضت للتلف، أو ربّما الأمر يشير إلى أمر آخر، هو أن الزمن قد توقف عند ركاب القطار، كما نشاهده نحن الواقفين خارجه، مع أنه بالنسبة لهم داخل القطار لا يلاحظون أي تغيير في حركة عقارب الساعة على الإطلاق. في حين ستكون عقارب الساعة تعمل بشكل طبيعي في أيدينا. أي أننا الآن أصبح لدينا ساعتان يحسبان الوقت بشكل مختلف في نفس اللحظة.. إنه الجنون بعينه.
ومن هنا ندرك بأن الوقت ليس ثابتا، بل هو نسبي يعتمد على الشخص “المراقب”، وهذا هو أساس نظرية “أينشتاين”، ولهذا السبب تُعرف بنظرية النسبية (Relativity).
لم ننته بعد من القطار، لطالما وصلنا الآن إلى سرعة قريبة من سرعة الضوء وأننا نشهد الآن توقف الزمن، فماذا لو تجاوزنا سرعة الضوء، هل سنعود بالزمن إلى الماضي؟
إنّ الأمر يبدو الآن أكثر إثارة، لكن “أينشتاين” وضع حدا لهذه الهلوسات العلمية، فالنموذج الرياضي يرفض بشكل قاطع حدوث ذلك، وسرعة الضوء هي الحد الكوني الأقصى الذي لا يمكن كسره مهما بلغ الأمر.
تشوه الزمكان واختلاف الجاذبية.. النسبية العامة
كما توضح نظرية النسبية الخاصة بأن الزمن ليس سوى “وهم” (Illusion) يتعامل معه المراقب وفق السرعة التي يسير بها، ويُطلق على ذلك تباطؤ الزمن (Time Dilation).
وتباطؤ الزمن يمكن حدوثه في حالتين، الأولى هي عند تغيّر السرعة بالنسبة للمراقب وهو ما ذكرناه آنفا، والحالة الأخرى عند اختلاف الجاذبية، إذ يحدث تشوهٌ للزمكان بسبب الكتل الضخمة، وبالتالي يتباطأ الوقت كلما كان التشوه أكبر، وهذا ما ذهب إليه العالم نفسه “أينشتاين” عام 1916 في نظريته النسبية العامة التي أقحم بها عامل الجاذبية ضمن معادلاته.
فعلى سبيل المثال، يشهد روّاد الفضاء الذي يمكثون في محطة الفضاء الدولية اختلافا طفيفا في مرور الوقت، إذ يمضي عندهم الوقت بشكل أسرع بالنسبة لأولئك الذين على سطح الأرض، ولكن ليس يلاحظ ذلك بسهولة.
ومن طرائف القصص ما يرويه رائد الفضاء “مارك كيلي” عن قصته مع توأمه رائد الفضاء “سكوت كيلي” بعد مكوثهما في الفضاء لفترات متباينة. يقول “مارك” الذي يكبر أخاه التوأم بـ 6 دقائق: إنّ فارق العمر بيننا اتسع إلى 6 دقائق وملي ثانية.2
وقد يبدو أنّ الاستشهاد بالنسبية العامة في الدلالة على تباطؤ الزمن ليس سوى محاولات ترقيعية لمعادلات رياضيات تثبت لنا صحتها، إلا الأمر قد تجاوز المعادلات وانتقل منذ زمن إلى الحياة العملية، وخير ما يمكن الاستشهاد به هنا هو نظام تحديد المواقع العالمي (GPS).
نظام تحديد المواقع.. سباق الساعات الذرية مع الزمن
لا يكاد يخلو جهاز ذكي اليوم من هذا النظام الملاحي الذي يمنح المستخدم الإحداثيات المطلوبة للتنقل بشكل آني مع نسبة دقة تصل إلى 5-10 أمتار من التموضع الصحيح، وفكرة هذا النظام الذي استحدثته الولايات المتحدة الأمريكية هو إرسال عدة أقمار صناعية يصل عددها إلى 30 قمرا ليشكلوا شبكة عالمية في مدار حول الأرض على ارتفاع 20 ألف كيلومتر، وبسرعة 14 ألف كيلومتر في الساعة.
تستطيع هذه الأقمار أن تغطي كل جزء من الكرة الأرضية وأن يوجد في سماء كل منطقة 4 أقمار صناعية على الأقل، ويحمل كل قمر ساعة ذرية متزامنة مع الساعات الأخرى، ويمكنها تحديد موقع الأجسام على الأرض في ظرف ثواني معدودة.
ولكي يعمل النظام بشكل صحيح، ينبغي على الساعات الذرية الموجودة على متن الأقمار الصناعية أن تسبق الأرض بمعدل 45 ميكروثانية في كل يوم، بالمقارنة مع تلك الساعات على سطح الأرض، باستخدام معادلات النسبية العامة.
وعلى الرغم من أن الفارق يبدو ضئيلا، فإن عدم تدارك هذه النسب يمكن أن ينتهي المطاف بالأقمار الصناعية أن تخطئ في الدقة خطأ يصل إلى 10 كيلومترات في اليوم، ويكبر هذا الخطأ مع مرور الوقت.3
فكما هو ظاهر، فإن تباطؤ الزمن واقع حقيقي، ويرى الفيزيائيون أن السفر نحو المستقبل أمر ممكن فيزيائيا إذا اعتبرنا تباطؤ الزمن نوعا من أنواع السفر عبر الوقت. لكن ماذا عن السفر نحو الماضي والرجوع إلى نقطة في التاريخ.
هنا يكمن التحدي الأكبر، فالأمر قابل للنقاش رياضيا، ولكن تطبيقه متعذر لما يحمله الأمر من معضلات حقيقية تعجز أعظم العقول عن إيجاد حلول لها بشكل كامل وصحيح.
مفارقة الجد.. معضلات تنخر فكرة السفر عبر الزمن
تعد مفارقة الجد (Grandfather Paradox) أكبر الجدالات التي تشكل عائقا أمام فكرة السفر إلى الماضي، إذ تقول إنه لو سافر شخص ما إلى الماضي حين كان جده ما زال غير متزوج وقتله، فإن الجد لن يستطيع إنجاب والد هذا الشخص، وبالتالي لن يكون هناك وجود لهذا الشخص، ولن يعود أي أحد إلى الماضي ليقتل الجد، وهكذا سيحيى الجد وسيتزوج وينجب الأب، ثمّ سيأتي الحفيد الذي سيسافر لاحقا إلى الماضي لقتل الجد، وتدور الحلقة بلا نهاية بهذا الشكل.4
وهناك مفارقة أخرى تتعلق بمعضلات السفر عبر الزمن هي مفارقة فيرمي (Fermi Paradox) التي يشرحها بإيجاز العالم البريطاني “ستيفن هوكينغ” في كتابه “الثقوب السوداء والكون الرضيع”، إذ يقول: أفضل دليل لدينا على أن السفر عبر الزمن غير ممكن ولن يكون ممكنا أبدا، هو أننا لم نتعرض إلى أيّ سياح من المستقبل حتى هذه اللحظة.5
ولدينا مفارقات أخرى تتناول حال الحاضر إذا تغير الماضي، فمثلا لو أنّ أحدا عاد إلى الماضي ليمنع زراعة شجرة مثمرة، فما مصير الثمار الآن؟ هل اقتلعت جذورها من الماضي مع عدم زوالها، أم سينتهي وجودها إلى العدم فجأة.
وثمت تساؤلات أخرى كذلك تطرح نفسها، فماذا سيحدث لو أنّ المرء عاد إلى طفولته بطريقة ما ليجد نفسه وهو صغير، فكيف سيستجيب الجسمان لبعضهما فيزيائيا إذا ما التقيا، علما بأنهما يعودان في الأصل إلى شخص واحد.
بوجود مثل هذه المفارقات، يبدو الأمر معقدا للغاية في تحقيقه، لكن ما زال هناك منفذ أخير لكي ينجح.
“منحنى مغلق زمنيا”.. حل نظري لمعادلات النسبية
في عام 1949 استطاع العالم “ويلام فان ستوكام” بمساعدة الرياضياتي القدير “كورت جودل” أن يوجد حلا نظريا لمعادلات أينشتاين في النسبية، وهو حلٌ يتمثل هندسيا بمنحنى مغلق زمنيا (Closed Timelike Curve).
إن الوصول لهذه النتيجة يبدو معقدا، لكننا سنحاول تبسيط الأمر بالطريقة الآتية، إن الزمن كما قلنا إنه “وهم” على حد تعبير العالم “أينشتاين” ليس مطلقا، بل متغير ونسبي بحسب موقع وسرعة المراقب. وبتعبير آخر، فإن النسيج الكوني يكوّنه الزمان والمكان متصلين ببعضهما معا، واختصارا نعبر عن هذه العلاقة بالمتصل “الزمكاني” (Spacetime)، دلالة على ارتباطهما الوثيق.
وفي ذات الحين، في أثناء تحليل ودراسة الكون، نستخدم أبعادا أربعة لغرض تحديد الإحداثيات، 3 أبعاد للمكان وبُعدا واحدا للزمن. وبالنسبة للمنحنى المغلق زمانيا، فإن المسار الذي تتخذه الإحداثيات في الزمكان ستعود في نهاية المطاف إلى نقطة البداية -إحداثيات نقطة البداية-، فتكون بذلك حلقة متصلة دائمة.
إنّ الأمر يبدو بعيدا كلّ البعد عن الحقيقة، لكنه في أقل تقدير يعد الحل الوحيد الممكن رياضيا للعودة إلى الزمن. ليس هذا فحسب، بل لأنّه سيختصر علينا جميع المعضلات والمفارقات التي تطرقنا إليه. إذ أنّ العودة بالزمن هنا لا تشترط اختلال حدث في الماضي يترتب عليه شيء في المستقبل، فالأحادث ذاتها واقعة. وبطبيعة الحال، فإن نشوء منحنى زمكاني كهذا يشترط وجود ثقب أسود يقوم بجذب “الإطار المرجعي” (Reference Frame)، بمعنى آخر، أن يكون هناك حقل جاذبي شديد للغاية يسمح بجذب الزمان والمكان -الزمكان- بمحاذاته، ليصنع منحنى مغلقا.6
“كيب ثورن”.. نفق السفر عبر الزمان
إن افتراض السفر عبر الزمن يلزم بطبيعة الحال افتراض وسيلة ما للتنقل في الخط الزمني، وهو ما سعى إليه الكاتب الانجليزي “هاجرت ويلز” في روايته الخيال العلمي “آلة الزمن” في عام 1895 ليكون بذلك أول من ابتكر هذا المصطلح.7
ومنذ ذلك الحين تعددت الآلات بأنماطها وأشكالها في روايات الخيال العلمي، فتارة تكون سيّارة أو مركبة فضائية، وتارة أخرى تكون غرفا مغلقة أو بوابات زمنية خيالية. وغالبا ما كان يختصر الكاتب عناء التفكير في شرح آلية عمل هذه الآلات، لا لتقاعسه وإنما لعجزه عن كتابة آلية فيزيائية قابلة للتطبيق. ويبقى جميع ذلك من وحي خيال الكتّاب، ولا يتناول أي من العلماء المرموقين عناء الحديث عن آلات زمنية خيالية غير مستندة على قواعد رياضية.
لكن الحال يختلف مع الفيزيائي “كيب ثورن” الغني عن التعريف، لابتكاره آلة زمنية خاصة جدا اقترحها على الملأ في عام 1988، فالأمر ليس مستحيلا، لكنه يتطلب جهودا علمية مضاعفة قد لا تتحقق إلا بعد قرون طويلة.
فعلى خط موازٍ لمعادلات النسبية، ظهر فرع جديد في الفيزياء النظرية، فيزياء الكم أو ميكانيكا الكم (Quantum Mechanics)، وهو العلم الذي يهتم بدراسة الخصائص الفيزيائية للكون على مستوى الجسيمات ما دون الذرية.
“المادة الغريبة”.. سر توسيع الأنفاق الدودية
لقد أشارت بعض الدراسات في هذا المجال أن ثقوبا دودية (Wormholes) قابلة للتحقق، لكنها على مستويات صغيرة جدا، وما نعرفه عن الثقوب الدودية أنها أنفاق كونية تصل بين مكان وآخر. ويشير العالم “ثورن” إلى أننا باستغلال هذه الثقوب الدودية، سنكون قادرين على السفر عبر الكون من مكان إلى آخر، ليس هذا فحسب، بل حتى التنقل بين الأزمنة، لأنّ المكان والزمان مرتبطان ببعضهما كما ذكرنا سابقا.
الأمر يبدو جنونيا، لكنه ممكن التحقيق، هذا إذا تأكدنا حتما من وجود هذه الأنفاق الدودية، فكلّ ما ينبغي فعله هو عملية توسيع وتكبير النفق الدودي ليكون قابلا للاستخدام. ويكمن تنفيذ هذه العملية في طريقة استخدام “المادة الغريبة” (Exotic Matter).8
هذه المادة تعمل تماما عكس عمل الكتل الطبيعية. فالكتل تتجاذب لبعضها بحكم قوة الجاذبية بينها، لكن المادة الغريبة تعمل على طرد المواد من حولها، بطريقة أشبه بخلق قوة تنافر، وقد تحمل هذه المادة صبغة خيالية خارقة للعادة، وقد استطاع العلماء إنتاج هذه المادة بكميات ضئيلة جدا، وتجري الآن دراستها ودراسة تأثيرها على البيئة على متن محطة الفضاء الدولية.9
بعد سنوات عدة من طرح العالم “كيب ثورن” لنظريته في السفر عبر الزمن، استطاع أخيرا تحقيق ما استعصى علينا تخيله في تصوير الثقوب الدودية في فيلم الخيال العلمي الشهير “بين النجوم” (Interstellar). على الرغم من كونه مجرّد فيلم خيال علمي، لكن “ثورن” يؤكد لنا أنّ الفيلم بُني على أساس رياضي متين.
إن فكرة السفر عبر الزمن بالمطلق ما زالت مادة دسمة للمختصين وغيرهم، وقبول الفكرة من نفيها لم يتحقق حتى هذه اللحظة، ولا توجد بعد إجابة مرضية يمكن التعويل عليها في هذا الشأن.
لكن من منا سيرفض السفر إلى الماضي ليلتقي بأعظم الشخصيات التاريخية، أو يشهد حدثا تاريخيا عظيما، وإن كان يقف كمراقب من بعيد دون أن يتفاعل مع الأحداث. من سيرفض خوض هكذا تجربة مثيرة لا مثيل لها في الوجود؟
المصادر:
[1] انجرام، دافيد (2018). الحاضرية. تم الاسترداد من: https://plato.stanford.edu/entries/presentism/
[2] ستين، فيكي (2021). هل السفر عبر الزمن ممكن؟. تم الاسترداد من: https://www.space.com/21675-time-travel.html
[3] بوج، ريتشارد (2017). النسبية في العالم الحقيقي: نظام التموضع العالمي. تم الاسترداد من: http://www.astronomy.ohio-state.edu/~pogge/Ast162/Unit5/gps.html
[4] أوينو، كريج (2019). ما هي مفارقة الجد؟. تم الاسترداد من: https://www.space.com/grandfather-paradox.html
[5] ستين، فيكي (2021). هل السفر عبر الزمن ممكن؟. تم الاسترداد من: https://www.space.com/21675-time-travel.html
[6] جونز، أندرو زيمرمان (2018). منحنى مغلق زمانيا. تم الاسترداد من: https://www.thoughtco.com/closed-timelike-curve-2699127
[7] محررو الموقع (التاريخ غير معروف). آلة الزمن. تم الاسترداد من: https://2084futurosimaginados.org/the-time-machine/?lang=en#:~:text=Wells%2C%20published%20in%201895.,such%20a%20vehicle%20or%20device
[8] أدرسون، إيلا (2020). آلة ثورن الزمنية. تم الاسترداد من: https://medium.com/predict/the-thorne-time-machine-eac78eec46dc
[9] كارلوس، تشوي (2020). يخلق العلماء حالة خامسة من المادة الغريبة على محطة الفضاء لاستكشاف العالم الكمي. تم الاسترداد من: https://www.space.com/exotic-matter-quantum-world-on-space-station.html