“صناعة الجسور”.. قفز الإنسان على المسافات منذ فجر التاريخ

“نبني كثيرا من الجدران، ولا نقيم ما يكفي من الجسور” عبارة شهيرة لعالم الفيزياء والرياضيات والفيلسوف الإنجليزي “إسحاق نيوتن”، وتختصر طريقة تواصل الإنسان منذ الأزل، التي تحب دائما الانغلاق والانعزال عوض الانفتاح والتواصل، ولا شك أن الجسور التي بناها الإنسان منذ القدم، لعبت دورا محوريا في سبيل كسر هذه القاعدة، وتعزيز حياة المجتمعات على مر العصور.
ربطت الجسور والقناطر أوصال المدن والدول، ومكنت الإنسان على مدى سنوات من التنقل بسلاسة عبر مختلف أماكن الأرض الشاسعة، فالمرور في يومنا هذا من إحدى هذه المنشآت قد يبدو للبعض أمرا عاديا، وقد لا يعيره أي اهتمام. لكنه في الحقيقة كان حلما في فترات من التاريخ، حين شكّل بناء الجسور حدثا عظيما قرب المسافات وحل إشكالية المرور عبر الشعاب والوديان والخلجان، ولطالما تفاخرت بها الحضارات، وربحت بها الحروب، وألهمت الكتاب والشعراء.
ويعرض الفيلم الوثائقي “صناعة الجسور” -الذي بثته قناة الجزيرة الوثائقية- تاريخ بناء الجسور في العالم، وكيف انتقلت من إنشاءات بسيطة للمشاة تعبر الجداول والأنهار الصغيرة، إلى بنيات خرسانية ضخمة تمتد لكيلومترات، وتتنقل من خلالها عربات ضخمة، وتضع حدا لإشكالية الحدود الطبيعية الفاصلة بين الشعوب والقبائل.
فكيف تطورت إذن الهندسة المدنية في بناء الجسور؟ وما الأدوار التي لعتبها في الحضارات المتعاقبة؟ وكيف تسهم حاليا في تسهيل حركية الأشخاص والبضائع حول العالم؟
جسور ما قبل التاريخ.. الحاجة أم الاختراع
شكل عبور الأنهار والشعاب تحديا وجوديا للبشر، وكانت رحلة الإنسان القديم تنتهي غالبا على ضفة نهر أو على حافة واد عميق، وقد دفع هذا الأمر العقل البشري للتفكير في حلول ممكنة، وسرعان ما وجدها في الطبيعة المحيطة به التي أمدته أحيانا بجسور طبيعية شكلتها النباتات لوحدها وسط الغابات، وما زالت أمثلة ذلك موجودة حتى اليوم في الهند، كما يكشف عن ذلك الفيلم الوثائقي “صناعة الجسور”.

ولم يتأخر الإنسان في تسخير الطبيعة وخصوصا الأحجار وجذوع الأشجار الصلبة لعبور الجداول الصغيرة، ليتمكن مع مرور الوقت من إنشاء معابر بسيطة تطورت مع مرور السنين إلى قناطر وجسور ذات عوارض خشبية، وقد ظلت سائدة حتى القرن السادس قبل الميلاد.
وترجح جل الروايات التاريخية أن تكون الحضارية الآشورية والبابلية، أول من مد جسورا قريبة من شكلها الحالي في بلاد ما بين النهرين، ويرجح أن يكون الملك البابلي “نابوشو دونوسور” قد أقام أول جسر خشبي على نهر الفرات في الضفة الغربية من وادي الرافدين التي يطلق عليها المؤرخون “ميسوبو تامايا”.
وعُرف أيضا عن الحضارة الفرعونية استعمال وتصنيع وبناء الجسور على نهر النيل باستعمال الحجارة، اعتمادا على التقدم المعماري الذي عاشته الحضارة المصرية منذ 2000 سنة قبل الميلاد.
حضارة الرومان.. بقايا إبداعات أسياد الجسور الحجرية
لعبت الحضارة الرومانية دورا أساسيا في بناء الجسور، وأضاف إليها مهندسو هذه الحضارة العريقة لمسة فنية من خلال الأقواس واستعمال الأحجار المتراصة، وساعدت الجسور الرومان على مد شبكات واسعة من الطرق، استغلوها في تعزيز نفوذهم التجاري وحملاتهم العسكرية.
ومنذ القرن الثاني قبل الميلاد، استعمل الرومان نوعا من “الملاط” عبارة عن خليط من الجير والرمل ومسحوق الصخور البركانية، مما ساعد في تقوية الجسور التي ظل بعضها صامدا إلى يومنا هذا، من أشهرها “بون دي غار” بفرنسا، الذي اعتبر أعلى جسر مائي معروف في أراضي الإمبراطورية الرومانية بني في منتصف القرن الأول الميلادي، واستعمل لجلب المياه من ينابيع مدينة أوزيس لتغذية مدينة نيم بالماء.

وما زالت جسور عديدة – أو ما بقي منها- شاهدة على إبداع الحضارة الرومانية في بناء الجسور، وكشف باحث الآثار الإيطالي “فيتوريو غالياتزو” عن وجود 931 جسرا رومانيا في 26 دولة مختلفة، ونجد عددا منها يعبر أشهر الأنهار في إيطاليا حاليا مثل جسر “سان مارتان” و”فابريسيوس” و”سان أنجيلو” و”بونتي بيترا” في فيرونا. وما زال إلى يومنا جسر “بوينتي رومانو” في إسبانيا قيد الاستخدام، ويعتبر أكبر جسر روماني باق بطول يصل إلى 792 مترا.
“جون رودولف بيروني”.. ثورة الجسور الخفيفة في باريس
لم يسجل تطور واضح بعد الرومان في بناء الجسور، ودخل العالم مرحلة “العصور المظلمة” التي توقف خلالها جل الإنشاءات لحوالي 500 عام، قبل أن يتقوى نفوذ الكنيسة في أوروبا خلال العصور الوسطى، وتسعى لنشر الدين المسيحي، وتمد بهدف ذلك الجسور في المناطق المعزولة، مستعملة تقنيات البناء الرومانية دون أن تدخل عليها أي تطوير فعلي خصوصا في الناحية الفنية.
وظل الوضع على حاله حتى عصر النهضة، في أواخر القرن السابع عشر وبدايات القرن الثامن عشر مع زيادة الاهتمام بشكل وهندسة الجسور، لكن أبرز تطور جاء مع مهندس القناطر المعروف الفرنسي “جون رودولف بيروني” في منتصف القرن الثامن عشر، وهو يعد أبا الهندسة الحديثة، وخصص أبحاثه لدراسة أقواس الجسور الصخرية، واستطاع تقليص سمك حجارة الجسر بأكثر من النصف، عبر اعتماد تقنية للبناء تقوم على تركيز الضغط على قوس واحد دون التأثير على الأقواس الأخرى، وهو ما مكن من مد الجسور لمسافات أطول.

ويعتبر جسر “لا كونكورد” الذي يعبر نهر “السين” في باريس أشهر الجسور التي أشرف على بنائها “جون رودولف بيروني” قبل وفاته، وهو مشكل من خمسة أقواس حجرية بطول إجمالي يبلغ 155 مترا، وجرى توسيعه في أوائل ثلاثينيات القرن العشرين بعد أن أصبحت حركة المرور عبر الجسر مزدحمة للغاية.
جسر الحديد.. رمز الثورة الصناعة في إنجلترا
أصبحت الجسور مع مرور الزمن ضرورة ملحة، ليزداد الاهتمام بها وبطريقة بنائها التي تطورت مع اكتشاف مواد جديدة، خصوصا بعد بزوغ فجر الثورة الصناعية، وتوسع المناطق السكنية وازياد الحاجة لمسالك طرقية سريعة وسالكة.
وشكل الحديد إحدى أهم الاكتشافات التي غيرت شكل الحضارة الإنسانية، وقد عوض تدريجيا الخشب والحجارة في بناء الجسور لصلابته وخفته وتكلفته المنخفضة، وهكذا أبدع المهندسون في استعمال الحديد في بناء جسور كان أولها جسر “أيرون” الذي بني سنة 1779 بطول 60 مترا على نهر سيفيرن في إنجلترا، واعتبر رمزا للثورة الصناعية في أوروبا.

وعُرف أيضا مهندس الطرق الأسكتلندي “توماس تيلفورد” ببنائه سلسلة من الجسور الحديدية وصفت بأنها الأفضل جماليا وتقنيا في تلك الفترة، وما زال جسر “كرايغيلاشي” (Craigellachie) على نهر “سبي” في أسكتلندا شاهدا على هذه السلسة المتميزة.
وفي فرنسا تميز المهندس الشهر “غوستاف إيفل” -مبدع برج إيفل الحديدي في باريس- خلال القرن التاسع عشر، وتميزت تصاميمه للجسور في عدد من دول العالم، حتى أطلق عليه “ساحر الحديد”، ومن أشهر إنجازاته جسر “غارابيت فياداكت” للقطارات في فرنسا، وكان يعتبر الأعلى في العالم آنذاك.
الإسمنت المسلح.. ثورة البناء المقاوم للزمن تستقبل القرن العشرين
ساهمت الاكتشافات العلمية والتقنية التي رافقت الثورة الصناعية الثانية في زيادة كفاءة الجسور وعمرها الافتراضي، ولعب الإسمنت دورا رئيسيا بعد 1840، وهي السنة التي اكتشف فيها المهندس الفرنسي “لوي فيكا” الإسمنت الصناعي، رغم ظهور ما يسمى الإسمنت البورتلاندي منذ العام 1824، لكن شروع المصانع الفرنسية في صناعة الإسمنت سنة 1850 شكل نقطة تحول أساسية، وهو ما استفادت منه فرنسا في تلك الفترة لتطوير صناعة الجسور الإسمنتية، وكان جسر حديقة النباتات في “كرونوبل” في فرنسا أول إنشاء في العالم يستعمل الإسمنت المصبوب سنة 1853.
وشكلت إضافة الحديد إلى الإسمنت ثورة في البناء مع اقتراب القرن العشرين، وعوّض عن الحجارة بفضل قدرة تحمله العالية وإمكانية تشكيله وفق أشكال هندسية فريدة، وهو ما أبدع فيه الفرنسي “فرانسواه إينوبيك” ببنائه بين 1896 و1907 جسرا على نهر شاتيليرو، ويمتد طوله لأزيد من 100 متر، وظل الأكبر المبني بالإسمنت المسلح حتى سنة 1911.

وساهم ثلة من المهندسين الفرنسيين في إنشاء الجسور الإسمنتية المدعمة بالحديد، من بينهم “إيوجين فريسينت” الذي صمم أطول جسر خرساني قوسي في عشرينيات القرن الماضي على نهر “السين”، كما بنى عام 1930 أحد أكثر أعماله شهرة، وهو جسر “ألبير- لووب” المعروف بجسر “بلوغاستل” في الشمال الغربي لفرنسا.
وهكذا تطورت تدريجيا صناعة الجسور مع تطور العلوم الهندسية للوصول إلى مزيج يجمع التقنية بالإبداع الجمالي، وكان جسر البوابة الذهبية قرب سان فرانسيسكو في ولاية كاليفورنيا بالولايات المتحدة، نتاجا لهذا التطور المذهل، وقد بني هذا الجسر المعلق بين 1933 و1937، وبلغ طوله 1280 مترا، وكان الأطول على الإطلاق في العالم إلى غاية العام 1964.
الجسور المعلقة.. تحقيق العصر الحديث لحلم الإنسان القديم
لم تكن فكرة الجسور المعلقة وليدة العصر الحالي، بل راودت الإنسان منذ بداية إنشائه للجسور والقناطر، فالجسور المعلقة البسيطة بنيت من قبل الحضارات القديمة في العديد من المناطق الجبلية، لكنها كانت فقط لمرور الأشخاص ولمسافات صغيرة.
ورغم محاولات تطوير هذه الفكرة فإنها كانت دائما تتعرض للفشل حتى أوائل القرن التاسع عشر، مع بداية انتشار استعمال المعادن الصلبة، حين قام المهندس الأمريكي، “جيمس فينلي” بتصميم أول جسر معلق بواسطة أسلاك أو سلاسل معدنية بشكل قريب من الشكل والهندسة الحالية، وسرعان ما تجسدت الفكرة سنة 1801 في مقاطعة “ويستمورلاند”، في ولاية بنسلفانيا الأمريكية.

لكن الإبداع الحقيقي في الجسور المعلقة سيكون مع المهندس الأسكتلندي “توماس تيلفورد” الذي أنشأ سنة 1825 جسرا معلقا في مضيق ميناي في ويلز، وقد شكل آنذاك تحفة فنية ألهمت المهندسين، وجعلت الجسور المعلقة حلا عمليا وأقل كلفة لربط المسافات الطويلة، رغم إشكالية الاهتزاز بسبب الرياح التي استطاعوا التغلب عليها تدريجيا.
واليوم نجد الجسور المعلقة من بين الأطول في العالم، وتستعد تركيا لتدشين جسر “جناق قلعة 1915” المعلق بين قارتي آسيا وأوروبا، وسيكون عند اكتماله سنة 2023 الأطول من نوعه في العالم، بطول يتجاوز 2000 متر وارتفاع يصل إلى 318 مترا، أما الأطول حاليا بين الجسور المعلقة، فيوجد في اليابان وهو جسر أكاشي كايكو، إذ يصل طوله 1991 مترا، كما يعتبر جسر ميلو في فرنسا من بين الأطول، والأعلى على الإطلاق، إذ يرتفع سطحه بـ343 مترا فوق سطح الأرض.
جسور العرب.. عودة بالحاضر إلى أمجاد التاريخ الغابر
ليست الجسور مجرد منشآت بناها الانسان لتسهيل تنقلاته، بل قصص نجاح وافتخار ترويها الألسن وتتناقلها الأجيال، وفي دول منطقتنا العربية شكلت الجسور رمزا للحضارة والتقدم على مر السنين، ولا شك أن نهري دجلة والفرات في العراق، شكلا مصدر إلهام لمهندسي الجسور منذ القدم، فبعد البابليين، جاء العباسيون ليهتموا ببناء الجسور على دجلة، ثم جاء العثمانيون، وأخيرا الاستعمار البريطاني، ويوجد اليوم في بغداد ما لا يقل عن 13 جسرا كانت شاهدة على أحداث مفصلية غيرت تاريخ هذا البلد.
وفي مصر، كان لزاما تأمين العبور بين ضفتي نهر النيل منذ القدم، مما فرض بناء الجسور والقناطر منذ عهد الفراعنة حتى اليوم، ولن نستغرب وجود أطول جسر في أفريقيا حاليا على نهر النيل بطول أزيد من 20 كيلومترا بين محافظتي القاهرة والجيزة، “كوبري 6 أكتوبر” كما يعرف لدى المصريين برمزيته الكبيرة، ومرور مراحل بنائه من أحداث راسخة على رأسها حرب أكتوبر 1973.

وفي الخليج العربي، يبقى أبرز الإنجازات، جسر الملك فهد بين السعودية والبحرين الذي يمتد على طول حوالي 25 كلم، والمميز بطوله وجمال المناظر المحيطة به وسط البحر، وقد لعب دورا مهما في تقريب المسافة بين هاتين الدولتين الخليجيتين.
وبعيدا عن منطقة الخليج، توصف مدينة قسنطينة في الجزائر، بأنها مدينة “الجسور المعلقة”، وتوجد في هذه المدينة التاريخية التي تناوبت عليها الحضارات 8 جسور شهيرة تربط بين شرقها وغربها، من أقدمها جسر باب القنطرة، وجسر سيدي مسيد، من أحدثها جسر صالح باي أو جسر الاستقلال، وأصبحت هذه الجسور ميزة سياحية تستقطب بفضلها قسنطينة زوارا من مختلف أنحاء العالم.
وقد بنى المغرب أيضا جسر محمد السادس المعلق سنة 2016، ويعتبر من بين الأجمل والأطول في أفريقيا، إذ يمتد على طول 950 مترا فوق نهر أبي رقراق على الطريق المداري للعاصمة الرباط، والذي تريده المملكة أن يكون مفخرة ورمزا لشبكتها الطرقية القوية والمتقدمة، ولم لا، فالجسور كانت وما زالت تلك الأيقونة الهندسية والمعمارية التي فتنت الكثيرين منذ الأزل.