الثقوب السوداء.. آخر جاذبية العمالقة الحمراء حين تنهار على نفسها
منذ اللحظة التي ظهرت فيها الصورة الأولى للثقب الأسود القابع في مركز مجرة “مسييه 87” (Messier 87) عام 2019، وبعد ضجة إعلامية كانت الأكبر في تاريخ الأخبار العلمية على مدى حوالي عقد من الزمن، كان أحد الأسئلة الهامة التي تتردد على صفحات التواصل الاجتماعي العربية عن تلك الهالة البرتقالية من المادة التي تحيط بالثقب الأسود: لمَ لمْ يسحبها إلى الداخل بقوة جذبه الهائلة التي لا يفلت منها الضوء نفسه؟
تكرر نفس السؤال في مايو/أيار الماضي حينما أعلن نفس الفريق عن صورة جديدة للثقب الأسود المسمى “الرامي أ*” الموجود في مركز مجرتنا، والواقع أن هذا السؤال يتكرر في كل مرة يأتي فيها ذكر الثقوب السوداء، بل إن البعض يسأل عن سبب وجود المجرات من الأصل، طالما أن في مراكزها ثقوب سوداء عملاقة، أليس من المفترض أن تسحب تلك البالوعات الأقوى في الكون مادة المجرة بالكامل؟!
حسنا، يتطلب الأمر بعضا من الصبر لتعديل هذا الفهم الخاطئ عن طبيعة الثقوب السوداء، وسوف نبدأ من العمالقة الحمراء الفائقة (Red Supergiant’s)، وهي المرحلة الأخيرة في أعمار النجوم الضخمة التي تفوق الشمس في كتلتها بأكثر من ثمانية أضعاف، في هذه الحالة يكون النجم كبيرا بما يكفي لنضع داخله عشرات الآلاف من الكرات بحجم شمسنا.
منكب الجوزاء.. عملاق أحمر يوشك على الانهيار
أشهر النجوم التي نعرفها من العمالقة الحمراء هو منكب الجوزاء (Betelgeuse)، ويمكنك في ليلة شتوية باردة أن تراه واضحا في السماء بلون أحمر مميز، وتفوق كتلة منكب الجوزاء كتلة الشمس بحوالي 16,5-19 ضعفا، بينما يفوقها قطره بحوالي 800 ضعف. هل تتخيل ذلك؟ إذا تصورنا أن قطر الشمس هو مليمتر واحد على مسطرة مدرسية عادية، فإن قطر منكب الجوزاء هو أربعة مساطر، يعني ذلك أنه لو كان منكب الجوزاء في حجم بطيخة لكانت الشمس ربما في حجم حبة عدس.
نعرف الآن أن منكب الجوزاء في نهاية عمره، هذا النوع من النجوم يبقى مستقرا لفترة من الزمن في مرحلة العملاق الأحمر الفائق، مع بعض الاضطرابات التي تحدث من حين لآخر، إلا أنه في مرحلة ما سيفقد استقراره، بسبب توقف التفاعلات النووية داخله، وهنا ينهار النجم على ذاته في زمن قصير جدا محدثا ما نعرفه باسم المستعر الأعظم (Supernova)، وهو ألمع انفجار نعرفه في الكون، بل هو من الضخامة بحيث يمكن لنا أن نراه يحدث في مجرات تقع على مسافة ملايين السنوات الضوئية.
في هذه الحالة ينهار منكب الجوزاء على ذاته، وهنا نحتاج أن نتوقف قليلا، لأننا عادة ما نسمع بهذا الاصطلاح “ينهار على ذاته” لكننا لا نعرف ما الذي يعنيه، في تلك النقطة دعنا نتخيل شكل الذرة، تعلمنا في المرحلة الابتدائية أن الذرة (أي ذرة) تتكون من نواة تدور حولها إلكترونات، الآن تخيّل أن الذرة هي قاعة أوبرا ضخمة، هنا ستكون نواة الذرة بحجم حبة أرز في منتصف القاعة، وسيكون أول الإلكترونات على جدران القاعة.
الذرة معظمها فراغ، وحينما نقول إن نجما ما ينهار على ذاته فإننا نقصد أن تلك المسافات بين النواة والإلكترونات تتقلص بسبب ضغط الجاذبية الكبير، وبالتالي يحافظ ما بقي من النجم على نفس كتلته كما كانت، لكن حجمه يتقلص بسرعة شديدة، وفي مرحلة ما من هذا الانهيار، يتحول منكب الجوزاء إلى نجم نيوتروني أو ربما ثقب أسود، دعنا نفترض أنه سيتحول إلى ثقب أسود.
نعرف من قوانين “نيوتن” أن قوة الجاذبية بين جرمين تتأثر بمعيارين، الأول هو الكتلة، فكلما كانت أكبر كانت الجاذبية أقوى، والثاني هو المسافة بينهما، فكلما زادت تنخفض معها الجاذبية بين الجرمين، لو ابتعد القمر عن مدار الأرض فإنه في مرحلة ما سيفلت من جاذبيتها. يمكن تطبيق نفس الفكرة عليك، حينما تقف على الأرض فإن قوة شدها لك تحسب بالمعيارين نفسيهما، الأول هو كتلة كل منكما، والثاني هو المسافة بينك وبين مركز الأرض.
الآن دعنا نفترض أن الأرض انكمشت لكن مع المحافظة على نفس الكتلة، لنقل إن قطرها انخفض للنصف، هنا ستزيد قوة الجاذبية التي تستشعرها في ثقل جسمك أربع مرات، ماذا لو قررنا الضغط على كل ذرات كوكب الأرض أكثر، ثم أكثر، ثم أكثر، ثم استمر الضغط حتى أصبح كوكب الأرض بحجم ثمرة ليمون مثلا لكن مع نفس الكتلة؟
في هذه الحالة ترتفع قوة الجاذبية إلى حد كبير جدا، لدرجة أنك لو كنت على سطحها الآن وودت أن تضرب بشعاع ليزري إلى السماء فإنه سيسقط على الأرض، هذا لأن الجاذبية كانت قوية جدا لدرجة أنها لن تدع أسرع شيء في الكون (شعاع الضوء) يفلت من يديها، هنا نقول إن الأرض تحولت إلى ثقب أسود، وفي تلك النقطة دعنا نعطي الثقب الأسود تعريفا بسيطا، فهو الجرم الذي لا يستطيع أي شيء -حتى شعاع الضوء نفسه- الإفلات منه.
في الواقع، يمكن لأي جرم أن يتحول إلى ثقب أسود طالما حافظ على كتلته مع انخفاض قطره إلى مستوى محدد يسمى “نصف قطر شوارتشايلد” (Schwarzschild Radius)، لكن الفكرة أننا لا نمتلك القوة لضغط جسم ما إلى هذا الحد، وحدها النجوم تمتلك قوة الضغط تلك، وليست أي نجوم بل فقط النجوم العملاقة هائلة الكتلة، لكن ماذا سيحدث للقمر لو قررنا أن نحول الأرض لثقب أسود؟
أفق الحدث.. عتبة النهاية التي لا يفلت منها الضوء
يقف القمر من مركز الأرض على مسافة ثابتة، وله كتلة ثابتة وللأرض كتلة ثابتة حتى بعد انكماشها، لذا فإن القمر سيظل في مداره كما هو ولن تحدث أي مشكلة بالنسبة إليه، ولو ركبنا كبسولة فضائية ما واقتربنا من الثقب الأسود إلى مسافة تساوي نصف قطر الأرض السابق، فسنشعر بنفس جاذبية الأرض وكأننا نقف عليها، لكن لو اقتربنا أكثر من ذلك فإن معيار المسافة سيتدخل، وستزيد الجاذبية شيئا فشيئا حتى نصل إلى حد لا نتمكن فيه من الإفلات منها أبدا، مهما امتلكت محركات كبسولتنا الفضائية من قوة.
الأمر إذن يتعلق بالمسافة من مركز الثقب الأسود لا كتلته، لأنها ببساطة نفس كتلة ما بقي من النجم المنهار على نفسه، وفي تلك النقطة تحديدا يبرز أهم اصطلاح في عالم الثقوب السوداء وهو أفق الحدث (Event Horizon)، وهو تلك المسافة التي لا يمكن لأي شيء أن يفلت عندها، مهما كانت سرعته.
وأنت على كوكب الأرض الآن، في حجرتك أو ربما في العمل، يمكنك أن تقفز للأعلى فترتفع قليلا عن الأرض ثم ترجع إليها، لقد حاولت بهذه القفزة أن تفلت من جاذبية الأرض لكن سرعتك كانت صغيرة، ولو قفزت بسرعة أعلى قليلا، فربما ترتفع للأعلى مسافة نصف متر مثلا لكنك ستعود مجددا للأرض، ولكي تفلت من الأرض تماما وتسبح في الفضاء يجب أن تقفز بسرعة 11.2 كيلومتر في الثانية.
وترتفع قيمة سرعة الإفلات بارتفاع قوة جاذبية الكوكب، فعلى زحل مثلا يرتفع هذا الرقم لـ36 كيلومترا في الثانية، أما في حالة الثقب الأسود فإن سرعة الإفلات تكون أكبر من سرعة الضوء، بالتالي فإن الضوء نفسه لن يفلت من يدي الثقب الأسود، ومع الضوء تأتي كل الموجات الكهرومغناطيسية، فلو سقطت في ثقب أسود فإنك لن تتمكن من إرسال أي إشارة راديوية، ولن تتمكن من عمل بث مباشر إلى خارجه، لأن تلك الإشارات الكهرومغناطيسية كذلك تتحرك بسرعة الضوء.
“أفق الحدث” إذن هو أبعد مكان عن مركز الثقب الأسود يمكن خلاله أن ينجذب شعاع الضوء للداخل. وبما أن مركز الثقب الأسود قادر على مد قوة جذبه في كل الاتجاهات، بالتالي فإن الثقب الأسود نفسه هو أشبه ما يكون بغرفة على شكل كرة في الفضاء، وهي غرفة لا جدران لها، لكن أنوارها تبدو بالنسبة لنا وكأنها مطفأة، الثقب الأسود ليس كتلة سوداء مكونة من مادة ما، وإنما هو مكان لا يمكن لنا رؤية ما يحدث فيه، ولن نتمكن من ذلك مهما حيينا.
حالة التفرد.. نقطة بلا أبعاد في قلب الثقب الأسود
إذا سقط شيء ما في الثقب الأسود فإنه سيتحرك في اتجاه واحد فقط وهو مركز الثقب الأسود، حيث يرى العلماء أنه موضع ما يسمى بالمفردة أو حالة التفرد (Singularity)، وهي نقطة بلا أبعاد يوجد فيها ثقل الثقب الأسود كله، لكن المفردة ليست إلا افتراضا نظريا إلى الآن، نحن لا نعرف أي شيء عن ما يمكن أن يحدث داخل هذا الشيء العجيب.
الأمر إذن أن الثقب الأسود ليس بالوعة تشفط كل شيء، لكن قوته الهائلة لها حدود، يشبه الأمر أن يكون هناك قارب يسير في النهر على مسافة عدة عشرات من الأمتار من شلال هادر، كلما اقترب المركب من حافة الشلال صعُب على قائد المركب أن يستخدم المجدافين ليعود للخلف ويهرب من الشلال، تزداد الصعوبة لكن قائد القارب يظل قادرا على العودة ببطء، لكن في مرحلة ما فإن قائد القارب لن يتمكن من الهروب مهما امتلك من قوة، عبور هذه النقطة هو عبور أفق الحدث.
لهذا السبب، ففي صورة الثقب الأسود الخاص بالمجرة “مسييه 87” أو ذلك الموجود في مركز مجرتنا، يمكن أن تلحظ كما هائلا من المادة يحيط بفجوة سوداء، هذه المادة تدور حول الثقب الأسود بنفس الطريقة التي تدور بها الحلقات حول كوكب زحل، تجري هذه المادة المزدحمة بسرعة هائلة تساعدها كي تفلت من جاذبية الثقب الأسود، بعضها يسقط فيه بلا عودة، والبعض الآخر يستمر في الدوران.
في الواقع، كانت هذه المادة المزدحمة حول الثقب الأسود هي السبب في أن العلماء تمكنوا، لأول مرة في عام 1971، من رصد الإشعاع الصادر من محيط ثقب أسود يسمى “الدجاجة أكس-1″، لأن تلك المادة المتزاحمة قبل أفق الثقب الأسود تتصادم بقوة، مما ينتج أشعة سينية تنطلق مبتعدة عن الثقب الأسود وتصل إلى الأرض.
المصادر
1- https://www.space.com/15421-black-holes-facts-formation-discovery-sdcmp.html
2- https://physics.weber.edu/amiri/physics1010online/WSUonline12w/OnLineCourseMovies/CircularMotion&Gravity/reviewofgravity/ReviewofGravity.html
3- https://astronomy.swin.edu.au/cosmos/e/Event+Horizon
4- https://eventhorizontelescope.org/
5- https://ui.adsabs.harvard.edu/abs/1971ApJ…168L..91K