تلسكوب المبتدئين.. خمسة أجرام سماوية بديعة تزين سماء الهواة

يظن البعض أن الأدوات الفلكية باهظة الثمن، ويجب عليك أن تدفع الآلاف من عملتك المحلية وتسافر للصحراء على مسافة مئات الكيلومترات حتى تتمكن من استخدامها، لكن في الحقيقة يمكن لتلسكوب صغير بسعر هاتف ذكي متوسط أن يساعدك على عمل رحلات فلكية في غاية الإمتاع، ومن أعلى منزلك، حيث لا حاجة للسفر بعيدا.

من المعروف أن المعيار الرئيسي في أي تلسكوب هو قطر عدسته أو مرآته، ببساطة لأنه كلما اتسع القطر جمع كمية ضوء أكبر، واستطعت أن ترى بشكل أعمق، ويتمثل ذلك في عدد أكبر من الأجرام السماوية وصورة أوضح.

وبشكل عام يقسم هواة الفلك التلسكوبات لثلاثة أنواع من حيث قطر مرآتها الذي يُحسب عادة بالبوصة (2.54 سنتيمتر): صغيرة (5-15 سم)، ومتوسطة (20-50 سم)، وكبيرة (60 سم-11 متر). والتلسكوبات الصغيرة هي الأفضل دائما للمبتدئين.

مجرة السيجار وبودي.. ثنائي لامع ذو خصائص مبهرة

رغم محدودية نطاقها تظل التلسكوبات الصغيرة زاخرة باللوحات السماوية التي يمكنك أن تراها بدرجة مناسبة من الوضوح، ولنبدأ بالثنائي الشهير “مجرة بودي” (Bode’s Galaxy) و”مجرة السيجار” (Cigar galaxy)، ويمكن أن تراهما في تلسكوب صغير كغيمتين خافتتين، الأولى منهما سميت نسبة إلى مكتشفها، الفلكي الألماني “يوهان إيليرت بودي”، وهي مجرة حلزونية ذات تصميم عظيم، مما يعني أنها تقابلنا بوجهها كاملا، ولها أذرع لولبية بارزة ومحددة جيدا بشكل ساحر، وهو ما يجعل هذا النوع من المجرات الأجمل على الاطلاق.

إلى اليمين مجرة السيجار (M82) وإلى اليسار مجرة بودي (M81) في نطاق كوكبة الدب الأكبر

والمجرات هي تجمعات هائلة لمليارات النجوم وسحب الغبار والغاز، وهي تدور جميعها حول مركز واحد وترتبط ببعضها جاذبيا. والمجرات هي وحدة بناء الكون الذي نعرفه، فالكون يتكون من مجرات، تماما كما نقول إن العالم يتكون من دول، ونعرف الآن أن الكون يحتوي على الأقل على تريليونين من هذه المجرات، وتتنوع في أشكالها وأحجامها.

فمجرة السيجار مثلا تتخذ شكلا غير منتظم ولا حلزوني، مثل رفيقتها القريبة “بودي” وتعرف بأنها “مجرة متفجرة بالنجوم” (Starburst Galaxy)، إذ تنشأ فيها النجوم الجديدة بمعدل أسرع 10 مرات مقارنة بمجرتنا درب التبانة.

وسبب تحول مجرة السيجار إلى مجرة متفجرة بالنجوم هو قربها من مجرة “بودي”، فهما تقفان على مسافة 150 ألف سنة فقط من بعضهما، وهي مسافة قريبة جدا بالمعايير الفلكية، لذا فإن الجاذبية بين المجرتين تتسبب في موجات من الاضطراب في سحب الغاز والغبار داخل مجرة السيجار، فتتراكم أجزاء من تلك السحب بعضها على بعض، وتتشكل النجوم الجديدة.

المستعر الاعظم SN 2014J في مجرة السيجار

ويساعد وجود الغاز والغبار الكثيف والنشط بين النجوم في تلك المجرات على تكوّن نجوم عملاقة تتخطّى حاجز مئة كتلة شمسية، مما يعني تكرار وجود المستعرات العظمى بمعدلات أعلى فيها، والمستعر الأعظم هو انفجار هائل يحدث في نهاية حياة النجوم العملاقة، وقد شوهد آخر تلك المستعرات في مجرة السيجار عام 2014، وقد شاهده كاتب التقرير بعينيه من خلال تلسكوب صغير.

السديم الحلقي.. نهاية ملفتة تمثل مستقبل الشمس

من المجرات ننتقل للسدم، وهي سحب الغاز والغبار التي توجد في المجرات، ولا تتخذ شكلا محددا، فما عدا المجرات التي تتخذ شكلا واضحا، فإن كل ما تراه من صور ملونة قادمة من التلسكوب هابل أو جيمس ويب أو غيرهما عادة ما يكون سديما، ومثل النجوم تحتوي كل مجرة على مليارات من تلك السحب، بعضها صغير وبعضها بعرض عشرات المجموعات الشمسية.

السديم الحلقي (Ring Nebula) هو واحد من تلك السدم الكوكبية اللافتة للانتباه حقا، تراه في تلسكوبك الصغير كحلقة صغيرة خافتة لكنها واضحة للعينين، وهو في الواقع أكبر من مجموعتين شمسيتين مثل تلك التي نسكن فيها، بما تتضمنه من كواكب وكويكبات، وحتى الأطراف البعيدة لسحابة أوورت، وهو يبعد عنا حوالي 2300 سنة ضوئية أو 25 ألف تريليون كيلومتر، هل تتخيل المسافة؟

السديم الحلقي (M57) كما يظهر من خلال عدسة تلسكوب هابل، يمكنك أن تراه في تلسكوب صغير كغيمة صغيرة

وحين تنظر إلى السديم الحلقي تأمله جيدا، فهو يمثل مستقبل الشمس بعد حوالي 5-6 مليارات سنة، فالنجوم متوسطة الكتلة مثل الشمس عادة ما تتضخم في نهاية أعمارها لتصبح عمالقة حمراء، يبدأ هذا العملاق في مرحلة ما بنفض أغلفته الخارجية عن نفسه، فتنطلق من النجم في صورة رياح نجمية عاتية هي ما يصنع السحابة الملونة التي تظهر في صور سديم الخاتم، وفي مركز السحابة يمكنك أن تجد نقطة بيضاء، هذا كل ما بقي من النجم الذي مات، ويسمى “القزم الأبيض” (White Dwarf).

سديم الجبار.. بقايا قصة عشق عربية عتيقة في السماء

تقول الأسطورة اليونانية القديمة إن “أوريون” (Orion) كان صيادا ماهرا لدرجة أنه لا يمكن لفريسة أن تهرب منه. تبدأ قصته حين وقع في حب “ميروبي”، وهي ابنة الملك الذي طلب منه في المقابل أن يتخلص من كل الوحوش البرية في جزيرته، لكن الملك بعد تحقيق مطالبه رفض تزويجه ابنته، فما كان من الصياد إلا أن اختطفها، لتبدأ رحلة عظيمة يموت خلالها ولتحييه آلهة جبال أوليمبوس مرة أخرى.

أدق الصور التي التقطها تلسكوب الفضاء هابل لسديم الجبار، يمكن أن تراه بتلسكوب صغير في كوكبة الجبار

أما في الأسطورة العربية فإن الحكاية لا تحتوي على أي صيادين، بل تبدأ من سُهيل الشاب اليمني القوي الجميل الذي كان ابن سيد من سادات اليمن الخصيب. ذات صباح انطلق سهيل في البوادي ليصيد، ولما وصل إلى أرض خضراء هواؤها بارد قرر أن يرتاح قليلا فنام تحت إحدى الأشجار، ثم استيقظ ليجد خمس فتيات يتسابقن للوصول إلى غدير قريب، وكانت من بينهن الجوزاء، فأعجبته فورا ووقع في حبها، وبدأت بينهما أحاديث الود والغرام فقرر أن يخطبها، إلا أن أهلها رفضوا أكثر من مرة، ومن هنا تبدأ واحدة من أغرب وأمتع الأساطير العربية القديمة.

وعلى اختلاف الحكايات فإننا نعرف هذه المنطقة من السماء الآن باسم كوكبة الجبار (الجوزاء)، وفيها يوجد ألمع سديم يمكن أن تراه عيناك “سديم الجبار” (Orion Nebula)، وللسدم أنواع عدة، منها ما يمثل نهاية حياة أحد النجوم، ومنها كذلك سدم تمثل المكان الذي تولد فيه النجوم، وتمر بفترة شبابها.

وهنا نلتقي بسديم الجبار الذي يمتد بمساحة 12 سنة ضوئية تقريبا، ويمكنك من خلال تلسكوب صغير أن تلاحظه كسحابة خفيفة واضحة تشبه الخفاش. وحينما تتأمل مركز السحابة سوف تلاحظ أربع نجوم لامعة، تدعى “المُعيَّن” أو عنقود المعين (Trapezium Cluster)، إنه مجموعة النجوم التي تضيء السديم وتشكِّله بقوة رياحها العاتية.

عنقود الثريا النجمي (M45)، يمكن أن تلاحظ بقايا السحابة الغازية حول النجوم

تزخر كوكبة الجوزاء (أو الجبار) بسحب الهيدروجين، ويحدث في بعض الأحيان أن تندفع أجزاء من تلك السحابة ليتراكم بعضها على بعض، ربما بسبب انفجار نجم قريب، ومع الوقت يزداد حجم وكثافة ذلك التجمع المتراكم، وتتكدس كميات هائلة من الهيدروجين بعضها فوق بعض، مما يتسبب في ارتفاع درجة حرارة المركز، ومع الوقت والتراكم وحينما تصل درجات الحرارة إلى أكثر من 15 مليون درجة مئوية، يبدأ في المركز تفاعل نووي اندماجي، إنه ما يعطي النجم كم الطاقة الهائل الذي يشعه طوال عمره، بحيث يصبح الهيدروجين الخاص بالنجم وقودا لهذا التفاعل.

تتجمع النجوم الوليدة في حضانات تحتوي على مئات أو آلاف من النجوم، ويمكن أن نلحظ من تلك التجمعات الكثير في سماء الليل مثل عنقود الثريا (Pleiades) التي تمثل تجمعا من النجوم تلاشت سحابته مع الزمن، وبمرور الوقت ستبتعد تلك النجوم عن بعضها، فيعيش كل منها وحيدا. والشمس أيضا كانت ضمن واحد من تلك التجمعات قبل عدة مليارات من السنوات.

ملك الكواكب.. عالم من الجمال يغطي أعظم أشقاء الأرض

الآن دعنا نرجع إلى مجموعتنا الشمسية، حيث يمكن لتلسكوب صغير أن يساعدك على رؤية أربعة من الكواكب بشكل واضح، وهي الزهرة والمريخ والمشتري وزحل. سمي المشتري لأنه اشترى الحسن والجمال لنفسه، فهو دائم اللمعان. أما في الأسطورة الإغريقية فهو “جوبيتر” كبير الآلهة، ونعرف الآن أنه أكبر الكواكب على الإطلاق، وهو واحد من أهم أهداف الهواة حينما يستخدمون تلسكوباتهم الصغيرة، إلى جانب القمر وكوكب زحل. والطقس على المشتري عنيف للغاية، لدرجة أننا نستطيع على الأرض أن نلاحظ ذلك حينما ننظر إليه، عبر الأحزمة الغيمية التي تلفه والبقعة الحمراء العظيمة.

فحينما تتأمل هذا الكوكب في تلسكوب صغير، ستلاحظ أنه عبارة عن قرص أبيض صغير كالبدر، ينقسم لطبقات رقيقة كل منها فوق الآخر، وهذه الطبقات ما هي إلا حركة العواصف الهائلة التي تدور على المشتري بلا هوادة، بعضها داكن وبعضها فاتح اللون، ويدور كل منها باتجاه معاكس للآخر، وهي صانعة مناخ الكوكب القاسي، ويمكن بسهولة تمييز خطين متوازيين منها وسط المشتري. لكن أكثر المعالم تمييزا للكوكب البقعة الحمراء العظيمة (Great Red spot)، وهي أكبر عاصفة عملاقة في النظام الشمسي، ويرى العلماء أنها تدور في هذا المكان منذ 350 سنة.

كوكب المشتري وغيومه، والنقاط اللامعة الصغيرة بجواره هي أقمار غاليليو

ويبعد المشتري عن الأرض مسافة خمس وحدات فلكية، ولتقريب الصورة تخيل أن الشمس كانت بحجم كرة قدم، وضعت خلف المرمى في أحد الملاعب، في هذا الحالة ستوجد الأرض خلف المرمى الآخر، أما المشتري فسيكون بعد خمسة ملاعب كاملة، وسيكون بحجم حبة عنب، لكنها ضخمة كفاية لدرجة أننا يمكن أن نضع بداخلها أكثر من ألف حبة صغيرة بحجم الأرض.

وإلى جوار المشتري، يمكنك أحيانا أن ترى بسهولة أربع نقاط لامعة تمثل أكبر أقمار المشتري، وتسمى أقمار غاليليو، لكنها ليست أقمار المشتري الوحيدة، بل إن هناك 75 قمرا آخر مكتشفة تدور حول الكوكب (المجموع 79 قمرا)، وهي جميعا أصغر من قمرنا، بل إن بعضها يصل قطره إلى أقل من كيلومترين.

جار الأرض.. رحلة بين البحار القمرية والفوهات النيزكية

في نهاية رحلتنا فوق سطح المنزل مع تلسكوبنا الصغير لا يمكن أن ننسى القمر، فلا شك أنه يمثل أهم الأهداف بالنسبة لتلسكوب صغير، خاصة لو كان الراصد مبتدئا من الصفر، لأن تحديده سهل في السماء وتفاصيله واضحة في كل الأجواء تقريبا، وهو يظهر في عدسة التلسكوب كاملا لكن مقربا بدرجة كبيرة.

صورة التقطها كاتب التقرير للقمر بتلسكوب صغير، لاحظ فوهة تايخو ونظام الأشعة الخارج منها وكأنه نجم بحر

يمكنك أن تلاحظ البحار القمرية (Lunar Maria) على سطح القمر بوضوح، وقد سميت بذلك لأن الفلكيين قديما ظنوا أنها بحار كتلك التي على الأرض، إلا أنها مساحات من الصخور البازلتية سوّتها الحمم البركانية في ماضي القمر السحيق، ولأنها احتوت على الحديد بنسب كبيرة، فإن قدرتها على عكس ضوء الشمس كانت أقل من محيطها، فظهرت داكنة. وتمثل تلك البحار 16% من مساحة القمر.

وبعد الانتهاء من رصد البحار القمرية يمكنك الاستمتاع بتأمل مجموعة من الفوهات القمرية الرائعة مثل فوهة “تايخو” وفوهة “كبلر” وفوهة “كوبرنيكوس”، وجميع هذه الفوهات نتجت من اصطدامات نيزكية وقعت قبل ملايين أو مليارات السنين، وعادة ما تتميز بحواف واضحة مرتفعة تراها بشكل واضح عند سقوط ضوء الشمس عليها من أحد الجانبين.

وتصنع بعض الفوهات القمرية كفوهة “تايخو” أشعة قد تمتد خارجها لأكثر من ألف كيلومتر، فيما يشبه نجم البحر أو أذرع الأخطبوط، وتسمى منظومة الأشعة (Ray System)، ويمكنك بسهولة أن تراها في تلسكوب صغير حين يكون القمر بدرا تاما.

فوهات قمرية بأسماء عربية وعالمية، ويحتفظ العلماء الكبار بالفوهات اللامعة منها أمثال كبلر وتايخو وكوبرنيكوس

حسنا، يبدو إذن أن تلسكوبا صغيرا هو رحلة ممتعة في سماء الليل، لكن الأمر لا يتوقف عند حد الرؤية بالعينين، بل يجب أن ترى أجرام السماء بما تعرف كذلك، فإذا علمت على سبيل المثال أن هذه المجرة تبتعد عنا مسافة ثلاثة ملايين سنة ضوئية، وأن هذا السديم بعرض سبعة مجموعات شمسية، وأن السحب التي تراها ليست إلا حضانات ضخمة تولد فيها النجوم، فإن ذلك يضيف إلى ما تراه العينين، فتدرك الكون من حولك بصورة ثلاثية الأبعاد، تدفع للكثير من التأمل.

 

المصادر

1- https://astrobackyard.com/m81-and-m82-galaxies/

2- https://hubblesite.org/contents/media/images/2007/19/2127-Image.html?news=true

3- https://www.nasa.gov/feature/goddard/2017/messier-57-the-ring-nebula/

4- https://esahubble.org/wordbank/planetary-nebula/

5- https://www.aavso.org/stellar-evolution

6- https://www.space.com/orion-nebula

7- https://solarsystem.nasa.gov/planets/jupiter/in-depth/

8- https://www.skyatnightmagazine.com/space-science/lunar-maria-guide-list-seas-moon/

9- https://spaceplace.nasa.gov/craters/en/