المذياع.. جوهرة الأخبار وسلاح الحروب يقاوم زحف التكنولوجيا

شكل إعلان هيئة الإذاعة البريطانية (بي بي سي) في سبتمبر/أيلول 2022، وقفَ البث الإذاعي بعدة لغات من بينها العربية، صدمة لكثير من محبي وعشاق الإذاعة في العالم العربي. فنهاية هذه التجربة التي استمرت لـ84 عاما، ما هو إلا مؤشر على بداية خفوت صوت المذياع عموما بشكله التقليدي، بعد أن رافق كثيرين لسنوات طويلة، وألفوا من خلاله سماع الأغاني والأخبار والبرامج الحوارية والقصص الإنسانية، حتى نسجوا معه روابط وجدانية يستحيل كسرها بسهولة.

واستطاعت الإذاعة خلق هذا الارتباط الوجداني بفضل تأثيرها على المجتمعات لفترة زمنية امتدت طيلة القرن العشرين، واستمرت مع بداية الألفية الجديدة، لكونها أول وسيلة إعلامية تفاعلية تعرف عليها الإنسان، وسريعا مع خلقت معه علاقة حميمية، لبساطتها وسحر صوتها. كما تحولت سريعا لتصبح مصدر الأخبار الموثوقة، فما قيل في الإذاعة كان يصعب تكذيبه بعد ذلك.

ولا شك أن زحف الانترنت ومواقع التواصل الاجتماعي على قطاعات الصحافة والإعلام بمختلف أشكالها، أصبح اليوم واقعا معاشا، واضطرت معه مؤسسات إعلامية عدة للتحول إلى القطاع الرقمي جزئيا أو كليا. والإذاعة ليست بمنأى عن هذا التطور التكنولوجي الذي يهدد استمرارها بالطريقة الكلاسيكية التي ألفناها منذ سنوات طويلة.

وقد جرت العادة أن نحتفل الأمم المتحدة يوم 13 شباط/فبراير من كل سنة باليوم العالمي للإذاعة، بعد اعتماده من قبل الجمعية العامة في 2012، وقبل ذلك من طرف الدول الأعضاء في منظمة اليونسكو سنة 2011.

فما هي إذن قصة المذياع الذي شكل في عصره أحد أعظم اختراعات البشرية؟ وكيف ساهم هذا الجهاز الصغير لسنوات في نقل الأخبار ونشر المعرفة؟ وكيف أصبح اليوم يقاوم للبقاء وسط التطور التكنولوجي، وتحول المشهد الإعلامي؟

تطوير الموجات الكهرومغناطيسية.. إرهاصات ميلاد العصر الإذاعي

كان ظهور المذياع نتيجة أبحاث استمرت لسنوات، وخلاصة مجموعة من الاختراعات المرتبطة بالموجات الكهرومغناطيسية في أواخر القرن التاسع عشر، وهي التي شكلت عصب اشتغال هذا الجهاز فيما بعد.

وقد ساهم عدد من العلماء في تطوير هذه الموجات الناتجة عن تفاعل المجال الكهربائي مع المجال المغناطيسي، ويرجع الفضل فيها بالأساس للعالم الأسكتلندي “جيمس ماكسويل” الذي وضع فرضية نشوء الموجات الكهرومغناطيسية سنة 1864م. ثم بعد ذلك جاء الدور على “هنريك هيرتز” عالم الفيزياء الألماني، ليؤكد فرضية “ماكسويل” ويكتشف الموجات “الهيرتزية” التي أخذت اسمه بعد ذلك، وظلت تستعمل حتى اليوم كوحدة عالمية لموجات “الراديو”.

العالم الإيطالي “غوليلمو ماركوني” الملقب بـ”أبو الإذاعة” كان صاحب أول بث راديوي بإشارة موريس

وشهد العالم يوم 27 يوليو/تموز 1896، قيام العالم الإيطالي “غولييلمو ماركوني” -الذي يلقب “أبو الإذاعة”- بأول اتصال لاسلكي باستخدام “شفرة مورس”، كما نجح في إرسال موجات كهرومغناطيسية عبر المحيط الأطلسي لأول مرة عام 1901م، اعتمادا على جهاز استقبال راديو لاسلكي كان قد صممه سنة 1892 العالم الأمريكي ذو الأصل الصربي “نيكولا تسلا”. وشكل هذا الإنجاز يوما فارقا في تاريخ الاتصالات اللاسلكية، فقد مكن السفن الحربية من التواصل فيما بينها عبر المحيط، وإرسال نداءات استغاثة إلى القواعد العسكرية، لذلك اعتُبر أفضل وسيلة لنقل المعلومات الطارئة والضرورية.

وساهم “ريجينالد فيسندن” -وهو مهندس راديو أمريكي ذو أصل كندي- في تطور المذياع لشكله الحالي، فقد قام في 24 ديسمبر/كانون الأول عام 1906، بأول بث إذاعي أمريكي من محطة البث التابعة له في ولاية ماساتشوستس، وينسب له تطوير تقنيات بث الصوت عبر المذياع.

مذياع الحربين العالميتين.. سلاح التواصل والدعاية والتمويه

تعاظمت أهمية أجهزة “الراديو” مع انطلاق الحرب العالمية الأولى عام 1914، فقد أن استغلها الجيش الأمريكي لإيصال الرسائل إلى القوات المسلحة في الوقت المطلوب، وهو ما رجح كفته في هذه الحرب. ثم واصلت الولايات المتحدة تطوير الإذاعة على أراضيها بعد الحرب.

ففي سنة 1920 أنشئت في بيتسبرغ بولاية بنسلفانيا الأمريكية محطة الراديو “كيه دي كيه إيه” (KDKA)، وهي أول إذاعة تجارية في العالم تبث برامجها للعموم، تزامنا مع الانتخابات في الولايات المتحدة، وفي السنة نفسها ظهرت أولى المحطات الإذاعية في بريطانيا، وبعدها بخمسة أعوام أصبح عدد محطات الراديو يقارب 600 حول العالم، وكانت مصر أول دولة عربية وأفريقية تمتلك محطة إذاعية عام 1925.

محطة الراديو “كيه دي كيه إيه” هي أول إذاعة تجارية في العالم تبث برامجها للعموم

وقد استعملت الإذاعة بشكل كبير خلال الحرب العالمية الثانية، وكانت بمثابة سلاح مؤثر لنشر الدعاية النازية، وبث الأخبار المغلوطة أحيانا لترجيح كفة طرف على حساب الآخر. وقامت أيضا المصانع الحربية البريطانية منذ بداية العام 1940 بإنتاج أجهزة الاستقبال ذات الموجات القصيرة وبيعها بأسعار زهيدة، من أجل تشكيل جهاز حربي للدعاية. وهو ما نجحت فيه إلى حد كبير، بفضل المصداقية التي اكتسبتها الإذاعة البريطانية، من خلال كشفها عن الحقائق والاعتراف بالخسائر والهزائم، وانتقادها أحيانا لرئيس الوزراء البريطاني “وينستون تشرتشل” الذي قاد البلاد في تلك الفترة.

ومن خلال الإذاعة أيضا وجه الجنرال الفرنسي “شارل ديغول” خطابه الشهير سنة 1940، لحث الفرنسيين على مواصلة القتال ضد النازيين الألمان. كما استخدمت الإذاعة البريطانية “بي بي سي” لبعث الرسائل المشفرة التي كان دورها حاسما، خصوصا في عملية إنزال النورماندي الكبرى عام 1944، وقد شارك فيها أكثر من مليوني جندي و300 ألف مركبة عسكرية. ومهدت الطريق لتحرير فرنسا وبلجيكا وهولاندا، ثم مواصلة الزحف إلى برلين وحسم الحرب العالمية الثانية.

“الترانزستور”..  ثورة ثانية في منتصف القرن العشرين

عاشت الإذاعة أحد أكبر تحولاتها بعد اكتشاف موجات الـ”إف إم” (FM) واختراع “الترانزستور”، وكان ذلك بمثابة ثورة في هذا المجال، فقد أصبح المذياع متاحا لفئات واسعة من المواطنين في كثير من أنحاء العالم.

بدأ الاعتماد على موجات الـ”إف إم” منذ سنة 1939، لكن التحول الكبير سيحدث باختراع “الترانزستور” سنة 1947 من قبل باحثين في شركة “بيل” الكندية، وقد استعمل مباشرة لتعويض تقنية الصمامات الإلكترونية المفرغة المعتمدة من قبل لاستقبال موجات الراديو. ومن خصائص الترانزستور حجمه الصغير وصلابته وخفته واقتصاده للطاقة، وقد أسهمت هذه الخصائص في انتشار استعماله في الأجهزة على نطاق واسع، حتى أصبح أحد أعظم اختراعات البشرية في المجال الإلكتروني خلال القرن العشرين.

باختراع أشباه الموصلات، تغير شكل الترانزستور من لمبات ضوئية إلى رقائق يمكنها تخزين كميات هائلة من البيانات

أحدث الترانزستور ثورة صناعية غير مسبوقة، وأصبح بعد عام 1954 المكون الرئيسي في أجهزة المذياع الجديدة التي أصبحت منتجا واسع الاستهلاك حول العالم، وبفضل شهرته أصبحت تسمية “الترانزستور” تطلق على جهاز المذياع لفترة طويلة.

وتواصل تحول الإذاعة وانتشارها في ستينيات القرن الماضي، وزادت جودة الصوت من خلال المذياع بعد اعتماد تقنية الـ”ستيريو” (STEREO)، تزامنا مع تحرير موجات الـ”إف إم” وظهور المحطات الخاصة والمستقلة، بعد أن احتكرت الإذاعات العمومية والحكومية الأثير لسنوات.

تحرر الأثير.. رحلة من التطور الثوري تسابق الزمن

واكبت المحطاتُ الإذاعية المستقلة الموضةَ الشبابية والانفتاح المجتمعي الكبير الذي شهده العالم في فترة السبعينيات، من خلال بث الأغاني الثورية التي حملت في طياتها رسائل الانفتاح، والانقلاب على التقاليد، وأنظمة الحكم في تلك الفترة.

واستمر تطور الإذاعة خلال فترة الثمانينيات والتسعينيات في القرن الماضي، من خلال مزيد من التحسينات أُدخلت على البث الإذاعي، وطرق البحث وتسجيل المحطات على الأجهزة، مع ظهور الشاشات التي أصبحت تعرض اسم المحطة رفقة موجتها “الهرتزية”. وتزامن ذلك مع الخطوات الأولى للإذاعة الرقمية، أو عبر الأقمار الصناعية التي أصبح استقبالها ممكنا في أي مكان في العالم.

مذياع رقمي يبث الصوت بتقنية الـ”دي إيه بي بلس” التي تعرض المحتوى الصوتي عبر الشبكة العنكبوتية بشكل سلس

ومع التطور التكنولوجي الكبير في بداية الألفية الجديدة، ظهر البث الصوتي الرقمي “دي إيه بي” (DAB) و”دي إيه بي بلس” (DAB+) الذي يسمح لمحطات الراديو ببث المحتوى رقميا بجودة عالية. كما انتشرت المحطات التي تبث حصريا عبر الإنترنت “ويب راديو” (Web-radio)، وتقنية “البودكاست” التي تعرض المحتوى الصوتي عبر الشبكة العنكبوتية بشكل سلس.

واليوم يقدر عدد الإذاعات الرقمية أو تلك التي يمكن متابعتها على الويب بالآلاف، مع برمجة متنوعة تستجيب لجميع الأذواق، وهي تعمل جنبا إلى جنب مع الإذاعات التقليدية التي ما زالت تبث عبر موجات البث الإذاعي التناظري الـ”إف إم”.

وقد سايرت أجهزة الاستقبال أيضا هذا التطور، سواء الأجهزة المنزلية المحمولة أو تلك التي تُركب في السيارات، وأصبحت تدريجيا تتوفر على خاصة استقبال موجات “دي إيه بي” الرقمية، بالإضافة إلى الإنترنت سواء من خلال الشبكات أو “الواي فاي”.

مذياع العصر.. قارب صامد ضد أمواج الرقمنة

لا تزال الإذاعة محتفظة بمكانتها في المشهد الإعلامي على مستوى العالم، رغم المنافسة الكبيرة لمواقع التواصل الاجتماعي في الوقت الحالي، ويتنبأ لها خبراء المجال بالصمود، وإمكانية التأقلم مع التطور التكنولوجي الجارف، وتقدر بعض الدراسات وجود أكثر من 44 ألف محطة إذاعية في مختلف أقطار العالم ما زالت تبث برامجها عبر الأثير.

تحتفظ الإذاعة بمميزات خاصة تجعلها قادرة على رفع هذا التحدي، ويمكن تلخيصها في السرعة والسلاسة والتفاعل، فنقل الأخبار مثلا يبقى أسهل وأسرع عبر الإذاعة، فالمسألة لا تتطلب كثرة الأجهزة والأدوات، إذ يكفي فقط وجود مسجل صوتي، أو حتى عبر الهاتف مباشرة. كما أن استقبال إشارة المذياع عبر الأثير لا حدود لها، وبدون أي تكلفة مادية على الإطلاق، بعكس وسائل الإعلام الأخرى التي تتطلب أجهزة معقدة ومستقبلات وربطا بالإنترنت، مع ما يكلفه ذلك للمتلقي.

أكثر من 44 ألف محطة إذاعية في مختلف أقطار العالم تبث برامجها عبر الأثير

وتمتاز الإذاعة أيضا بخاصية لا تتوفر عليها باقي وسائل الإعلام الأخرى، وهي اكتفاؤها بالصوت لنقل الصورة، وهو ما يمكن أي يكون مرافقا للمستمع في أي مكان، وعند إنجاز أي عمل كيفما كان.

كما يمكن الاستماع للمذياع أيضا خلال قيادة السيارة أو الحافلة، وهو ما يستحيل القيام به مع وسائل الإعلام الأخرى من تلفزيون وصحف، ورقيةً كانت أو إلكترونية. بالإضافة إلى العرض الموسيقي المتنوع الذي يقدمه المذياع، رغم المنافسة الشرسة التي أصبحت تشكلها التطبيقات الموسيقية على الهواتف الذكية.

مواكبة التطور.. ضرورات البقاء في عالم السرعة

لا شك أن هذه القدرة على الصمود التي أبان عنها المذياع، ستمكنه من الاستمرار في المشهد الإعلامي لسنوات أخرى، لكن رغم ذلك فهو مطالب بمواكبة التطور الرقمي السريع الذي شمل جميع المجالات، وأصبح معه التجديد والابتكار ضرورة ملحة لا مفر منها، فعادات الناس تتغير بسرعة، والأجيال القادمة قد لا تنسج تلك العلاقة الحميمية مع المذياع التي نشأ عليها آباؤنا وأجدادنا. وتؤكد آخر الأرقام في أوروبا مثلا تراجع نسب الاستماع للإذاعة بشكلها التقليدي، في مقابل ظهور نسب مهمة للاستماع عبر الوسائل الرقمية.

هذا الوضع يُلزم الإذاعات حول العالم بالتأقلم مع الوضع الجديد، من خلال مسايرة مستجدات العصر، وعدم الاكتفاء بالبث عبر موجات الـ”إف إم” التي قد تختفي مستقبلا لصالح البث الصوتي الرقمي “دي إيه بي”، خصوصا مع الانتشار المرتقب للأجهزة التي تدعم هذه التقنية، فكثير من الدول اليوم أصبحت تشترط توفر مستقبلات “دي إيه بي” في السيارات من أجل قبولها في الأسواق. وكلنا نعرف أهمية السيارات لمستقبل الإذاعة، إذ تؤكد الدراسات الميدانية في أغلب الدول أن أكثرية المستمعين اليوم هم من السائقين.

ويفرض الانتشارُ الواسع لشبكة الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي، على الإذاعة البحثَ عن موطئ قدم لها في هذا الفضاء الافتراضي، من خلال خلق قنوات تفاعلية مع المستمعين، وعرض برامجها من خلال الصوت والصورة، واستقطاب جمهور شاب من خلال تطبيقات ومشغلات رقمية، تعرض المحتوى بشكل مبسط، وتقدم خيارات للاستماع، سواء للبرامج أو للأخبار أو للموسيقى.

كما يجب العمل على دمج الإذاعة والتطبيقات الموسيقية، ضمن ما يسمى اليوم بـ”إنترنت الأشياء”، لتصبح مستقبلا موجودة أينما ذهبت دون الحاجة لوجود جهاز استقبال، فقد تصبح في الغد القريب متاحة في كراسي الحدائق العمومية، وعربات مراكز التسوق، وحتى في ثلاجات المطبخ الذكية.


إعلان